يبدو أنني، لا شعوريا لحسن الحظ، أركنت السيارة إلى جانب الطريق.
و في ومضة استرجاعية عادت بي الذاكرة، فيما يشبه الذهول أو الاغفاءة، إلى نهاية السبعينيات و بداية الثمانينيات من القرن الماضي: لقد عرفت البلد و أهله إذ ذاك. فعرفت أطيب شعب في أطيب بلد. كان الناس ودودين و على درجة عالية من الرقي و التحضر والثقافة و نبل الاخلاق وتقبل الآخر و كرم الضيافة و الاعتداد بالنفس والتفاؤل و الاحساس بالانتماء. و كما يقول المثل الشعبي عندنا ( المال يشبه أهله )، فكما كان السوريون كانت سورية أيضا: بلدا راقيا و نظيفا في جميع مدنه. كانت كل مدينة تنسيك في الاخرى. حيث الشوارع و الارصفة النظيفة و المباني الشاهقة والمساجد والكنائس والمكتبات والمتاحف و الجامعات و المقاهي و المطاعم و دور السينما و المسارح و الكازينوهات و الحدائق الغناء و وسائط النقل المتوفرة على اختلاف أنواعها و حركة المرور المنسابة بسلاسة كمياه نهر العاصي.
آه إلهي، ما ذا أقول و ماذا أتذكر؟ كانت دمشق أول مدينة أشاهد فيها عرضا مسرحيا مباشرا و أتذوق القهوة العربية بالهيل و أشارك في معارك التراشق بالثلج المعروفة لدى الشاميين و المحببة لديهم جدا. كما كانت أول مكان ألاحظ فيه حلول الربيع وتعاقب الفصول. لقد تولدت بيني و بين البلد و أهله رابطة حميمية خاصة. حتى أن عيناي ذرفت الدموع عند ما كان سائق التاكسي يجتاز بي الغوطة باتجاه مطار دمشق لأغادر سورية، و صوت عبد الحليم حافظ ينبعث من المذياع : خسارة، خسارة فراقك يا داره ! إي وربي. صدقت عبد الحليم. بل و أكثر من خسارة الفراق، خسارة تلك الدار وأهلها، لا قدر الله!
لم يعدني إلى وعيي من ذلك الشرود و الهلوسة إلا إحدى الفتيات تنقر على زجاج السيارة و تمد يدها طالبة المساعدة. و بما أني أكره أن تمد أية يد باتجاه السوريين، سواء إليهم بمكرمة أو عليهم بمكروه، فلم أستطع النظر حتى إلى الفتاة، بل نظرت في الاتجاه المعاكس وناولتها ورقة نقدية، أنا على يقين من أنها لن تسمن و لن تغني من جوع، أيا تكن قيمتها. لكن ما باليد حيلة، الأمر أكبر مني.
كنت أرى يوميا على شاشات التلفاز صورا من سورية يندى لها الجبين لفظاعتها و وحشيتها، أشكالا من القتل و التدمير تحدث في ذلك البلد العزيز على قلبي و قلب كل عربي، لا أعتقد أن إسرائيل كانت ستقدم عليها لو أنها أعلنت الحرب على سورية أو العكس. بل إنني أعتقد جازما أن “العدو الصهيوني، المحتل الغاشم، التوسعي،..إلخ .. إلخ ” كان سيستحي و يترفع عن مثل ذلك التخريب والتقتيل و التشريد.
نعم، كنت أرى كل ذلك عبر وكالات الانباء ووسائل الاتصال و ابتلعه بلعا بمرارة واعزي نفسي بأن مثل هذا حدث عدة مرات في التاريخ وفي بلدان متعددة. لكن الشعوب الكبيرة ـ و الشعب السوري هو كذالك ـ دائما ما تنهض من كبواتها وتعيد بناء ما خربته الدسائس و المؤامرات. أما أن أرى بأم عيني العذارى الشاميات يشحتن! فذلك ما لم استطع ابتلاعه و إذا ابتلعته فلن استطيع هضمه. و أين يشحتن؟ أفي دبي، في الرياض، في باريس..؟ لا ، إنهن يشحتن في شوارع انواكشوط ! و من يدر، ربما هناك منهن من يشحتن الآن في شوارع أسمرا أو مقديشو أو الله يعلم أين!؟ يا لعارنا و مذلتنا !! ( الضمير هنا يعود علينا كلنا في الوطن العربي .)
أهي مؤامرة أخرى يتعرض لها الشعب السوري؟ فالمؤامرة الأولى لم تعد، و لم تكن يوما، خافية على أحد: لقد جر الإخوة في سورية إلى أتون حرب أهلية طاحنة يدمرون فيها ما شيدوه بأنفسهم عبر السنين بجد و حيوية و نشاط منقطع النظير، رغم الموارد المحدودة. المرارة تكمن في كونهم ينفذون املاءات إسرائيل، أو في الحقيقة يحققون أحلامها، كما حقق عرب آخرون أحلاما لها من قبل بوعي أو بدون وعي ( أحيانا باسم الربيع العربي ـ أي ربيع! ـ هو في الحقيقة خريف عربي و ربيع اسرائيلي). و إلا فبماذا كانت تحلم إسرائيل سوى تدمير العراق و سورية و مصر و اليمن و تونس وليبيا واقتطاف الجزء الاغنى من السودان و وضعه في سلة التبضع الاسرائيلية. ثم أخيرا وليس آخرا الحرب الاهلية المعتوهة بين الاخوة الفلسطينيين؟ (نعم الحرب الأهلية الفلسطينية ! فهي حرب موجودة و قائمة ولا يحد من وطأتها إلا إسرائيل ـ يا للسخرية السوداء ! ـ نعم أيضا، إسرائيل لأنها تفصل، على الأقل ـ جغرافيا بين الغريمين في الضفة و القطاع) كل ذلك دون أن تخسر رصاصة واحدة أو يجرح لها جندي.
أما المؤامرة الثانية ـ و كأن تدمير سورية ماديا و علميا لا يكفي وحده ـ فهي تدمير كبرياء الفرد السوري، تمريغ أنفته و إيبائه في الوحل و تلطيخ سمعة سورية كبلد عربي محترم له مكانته بين دول العالم المتحضر، على صغر مساحته ، و ذلك عن طريق تهجير الآلاف من هذا الشعب و دفعهم دفعا إلى الالتجاء و امتهان الشحاتة و التسول حول العالم. أقول ” تهجير ودفع ” لأن هناك شائعات مفادها أن بعض اللاجئين السوريين ـ إن لم يكن كلهم ـ المتواجدين اليوم بين ظهرانينا هنا في موريتانيا ( وفي بلدان أخرى كثيرة ) تم تهجيرهم عن وعي و سبق اصرار من طرف جهات عربية و محلية(موريتانية) لها مصالح و أجندات خاصة تعمل على بث الدعاية لها عبر تشجيع السوريين على اللجوء و التمظهر بمظهر المتحتاج. (أهم فعلا لاجئون محتاجون؟ إن كانوا كذالك فلماذا يرفضون الاقامة في المخيم الذي أقامته الدولة الموريتانية لهم ككل اللاجئين؟). على أية حال إذا كانت الشائعات آنفة الذكر صحيحة، فليس لنا ما نقول إلا ما قال مالك بن زيد مناة لأخيه:
أوردها سعد و سعد مشتمل ϴ ما هكذا يا ” سعد ” تورد الإبل
ينبغي أن تظل كرامة الشاميين و عزتهم فق كل اعتبار و أن لا تستغل في الترويج لأية أفكار مهما كان نصيبها من الحق أو القدسية.
ذكرتني حالي، من حيث عدم النفع و العجز التام عن المساعدة، بحال بطل قصة قصيرة للكاتب الانجليزي الشهير ت. ف. باويس T.F.Powys ( 1875 ـ 1925). يتعلق الأمر بقصيصة ـ إن سمح أهل الادب و مصنفي أجناسه بالعبارة ـ بعنوان ” Lie Thee Down Oddity” و سأترجم هذه العبارة ـ مع شيء من شيء من عدم الدقهة أعترف به ـ بعبارة ” اهدأ أيها الضمير.”
كان بطلنا، السيد اكرونتش الطيب، يقرأ صحيفة محلية في بلدة خارج لندن، فوقع بصره على نبئ مفاده أن سيدة تعمل كفراشة ( عاملة تنظيف ) في أحد المكاتب بالبلدة، عثرت أثناء عملها على شيك موقع على بياض. فتناولته و عبأته بأربعة جنيهات، فقط لا غير. هي لا تريد أكثر من حاجتها المتمثلة في مبلغ تحقق به لزوجها العاطل عن العمل حلما كان يراوده منذ فترة طويلة، ألا وهو الذهاب إلى لندن لرؤية الملك. لكنها بدل أن تكتب اسمها في الخانة المخصصة للشخص الذي سيسحب الشيك، سطرت بعناية ـ لسذاجتها ـ اسم مشغلها صاحب الشيك، وعندما قدمت هذا الاخير إلى البك تم القبض عليها بتهمة التزوير والسرقة. ثم زج بها في السجن لأنها لم تجد من يطلق سراحها بكفالة.
هز السيد أكروتش رأسه و طوى الصحيفة متمتما ” اهدأ أيها الضمير ” ثم انطلق مسرعا إلى السجن حيث تقبع السجينة وأبلغها أنه سيطلق سراحها بكفالة، فأخبرته أنها مرتاحة حيث هي في السجن.
لكن إذا ما أراد أن يسدي لها خدمة فليأخذ زوجها إلى لندن لرؤية صاحب الجلالة ! ” اهدأ أيها الضمير ” تمتم السيد أكرونتش مرة أخرى. وبعد أن حقق أمنية زوج المسكينة بأن أخذه إلى لندن لرؤية الملك، انطلق يتجول في شوارع المدينة الكبيرة، وقد أصبح جيبه فارغا، فكان كلما صادف حالة انسانية صعبة لا حول له و لا قوة اتجاهها يهمم بصوت وقور: ” اهدأ أيها الضمير ” ! ذلك بالضبط هو لسان حالي عندما أرى شخصا سوريا يشحت. فعلا، اهدأ أيها الضمير!