التفت الجميع إلى حيث أشارت الممرضة وهي ترشد سيدة ذات وجه صبوح ( الولادة بدون ألم )، تنقلت الأنظار بين اللوحة و السيدة، ابتسمت وهي تسحب طرف ثوبها لتخفي بطنها المنتفخ جراء تقدم الحمل وقالت كمن تدافع عن نفسها شيء عادي، ويستخدم على نطاق واسع لتقليص متاعب الحمل والولادة ،.تبادلت النظرات أنا ومريم بينما لم يبد على يسلم الاهتمام فقد بدا حتى الآن مشغولا بدغدغة أصابع ابن خالته الوليدة _ حواء _ ولا يعير حديث المنتظرات بقاعة المصحة كبير اهتمام.
قالت إحداهن متسائلة لا شك أنه أمر باهظ الثمن فهزت ذات الوجه الصبوح كتفيها تعبيرا عن عدم الاكتراث فأردفت من بدا أنها أكبرهن سنا ،المشكلة ليست في التكاليف يا ابنتي لكن آلام الوضع ضرورة فهي تقوى أحاسيس الحنان بينك مع ابنك ، قالت أخرى هذه مجرد أوهام والحقيقة أن ابني سيبقى قطعة مني لهذا سأحبه بغض النظر عن مقدار الألم، لقد جعل العلم وما حمله من تطور في خدمات الطب من الولادة حدثا سعيدا تستقبل فيه الأم وليدها فور خروجه إلى الدنيا بابتسامة جميلة ومنظر لائق، نحن لم نعد في ذلك الزمان الذي تدخل فيه المرأة في غيبوبة فور انقضاء معركة الولادة .
اكتسى وجه يسلم بتلك المسحة الحزينة، كلما سمع حديثا عن الأمهات، شدت مريم على يدي ، عرفت أن يسلم تذكر أن أمه لم تمنحه تلك الابتسامة، بل لم تبتسم له قط، فلاح في خاطري وجه حواء يوم وضعت ابنها يسلم .
لم تبتسم رغم الزغاريد التي ملأت المكان بعد أن خيم عليه صراخها المبحوح لعدة ساعات أمضتها في المستوصف الوحيد بمقاطعتنا، طوال الوقت كانت النسوة يتكفلن بسحب الثوب على وجهها كل ما عجزت هي عن ذلك تحت ضغط الألم فالحياء وبعض التقاليد تقضي بأن لا يظهر وجه المرأة في هذا الظرف ، تكرر على سمعنا مرات صوت القابلة وهي تصرخ من الطرف الأخر للمر كلما نادت عليها أم حواء _ هي مازالت _ كان الجميع يصمت تعبيرا عن ثقته في كلام القابلة رغم أنها لا تملك من أدوات الفحص والتشخيص سوى قفازات اشترتها المرافقات لمريم، تلبسهما عند الكشف وترميهما عند الانتهاء قائلة ليس بيدي أكثر من ذلك، سوف نقيس الضغط عندما يأتي الدكتور فهو يحتفظ بالجهاز في مكتبه .
لم يأت الدكتور وتغيرت وتيرة صراخ حواء أو على الأصح أنينها، تباعدت نوبات الألم وصارت مدته أطول قالت إحدى النسوة هذه علامة خير سوف تضع الآن، تم استدعاء الممرضة فأقبلت كما في المرات السابقة لكن هذه المرة تغيرت أسارير وجهها وقالت ها قد أهل، لحظات ثم علا صراخ الوليد، بعد الاطمئنان عليه والتأكد أنه ولد تنبهت أم حواء كمن صحا من غفوة ما ( هاتوا شرابا أسقي ابنتي ) وقربت الإناء: الحمد لله اشربي قليلا حتى تتمكني من إرضاع الطفل، لم تظهر حواء أي تجاوب فبدا القلق على وجه أمها، هزتها بلطف فلم يتغير شيء، رفعت الثوب عن وجهها، فتطلعنا كانت عيناها مغمضتين ويدها ممسكة بعقد المرفئ الذي يطوق جيدها ، صرخت حواء ، حواء، حواء… رحلت حواء……. دون أن تبتسم لوليدها كما تأمل ذات الوجه الصبوح الآن أن تفعل ..
.لن أنسى ما حييت كلمات أم حواء _ إنا لله وإنا إليه راجعون ليتني لم أكلفها مشقة الإنتقال من بيتنا إلى هذا المكان الغريب ، لا فائدة في المستوصف – تماما كما جاءني صوتها بعد عشرين سنة .. …يومها .كنت أستعد للنوم عندما رن جوالي ، ضغطت على الزر، كان صوت أم مريم ملونا بمزيج من الحزن والرضى، يا ابنتي الأعمار بيد الله، مريم بالمستشفى عندكم بالعاصمة بعد أن فشلت في إقناع حفيدي يسلم، فهو فتى عديم التجربة يعتقد أن بإمكان المستشفى إنقاذها ولولا إصراره لجنبتها مشقة السفر، رغبت أن تظل معي وتموت على فراشها إلى جانبي ، تخيلت يدها تشير ر مكان بجانبها…مريم ليست هناك وقد لا تعود أبدا ،في طريقي إلى المستشفى طاف بي شريط الذكريات في مقاطعتنا، صحبة مريم ، تغير الكثير من تلك المفردات أو زال، حتى العادات وأنماط السلوك تبدلت مع غزو أدوات الاتصال، وحدها الخدمات الصحية بقيت كما هي منذ عشرات السنين، المبنى ذاته ، لا جديد على مستوى التجهيزات ، وطاقم يقابل أعضائه المرضى بعبوس دائم أما رئيسه فيسمع عنه ولا يرى .
دخلت على مريم كانت مسجاة على واحد من تلك الأسرة المتهالكة إلى جانب أخريات تدلت من سواعدهن أنابيب الحقن المغذية، وعلى أرضية الغرفة تناثر أشياء مختلفة، لدى رؤيتي حاولت الابتسام كانت شفتها مشقوقة ودامية فأيقنت أنها كانت تعض عليها طوال أوقات الألم الذي داهمها الآن وأفشل محاولة الابتسام، فضغطت على عقدها (ذات العقد الذي ضغطت عليه أختها حواء عند رحيلها هو ذاته بألوانه الباهتة تتوسطه خرزة عين الحجله، مريم حرصت على وضع العقد في عنقها بعد أن رأت في المنام أختها حواء تلبسها إياه وترجوها أن تبقيه هناك حتى ينزعه يسلم وكلما تسائلنا عن تفسير هذا الحلم تقول أم حواء: هذه رؤيا خير فالحجلة في الأصل طائر وترمز للعلو والابتعاد عن المكروه، ويسلم من السلامة، وكنا نجيبها أننا لم نر الحجلة فهل هي طائر حقيقي أم من الخرافات….. ) سألت أين القابلة أجابت بإشارة من يدها أنها لا تعرف، قالت إحدى نزيلات الغرفة : القابلة كانت هنا منذ ساعة وقالت، إنه تنتظر من حين لآخر أن يأتي الجراح ليجري لها عملية قيصرية .
نظرت إلي مريم كان في عينيها سؤال فهمته, إلى متى سأستطيع الصمود؟ فهمت سؤالا لا أملك الإجابة عليه ، قصدت غرفة القابلة و ترددت قبل أن أخاطبها إذ بدا أنها تغط في نوم عميق، ألقيت السلام مرات، ففتحت عينيها كانتا منتفختين فأشحت بوجهي حتى تأخذ الوقت الكافي للرحلة بين النوم واليقظة، قلت أريد أن أعرف وضع آمنة قالت اسمعي أنا استلمت المناوبة من زميلتي عند السابعة مساء، هي قالت إن المريضة بحاجة لعملية قيصرية وأكدت أنها اتصلت بالجراح، قلت نحن في الواحدة بعد منتصف الليل ، هل اتصلت أنت به ؟ قالت حاولت، هاتفه مغلق، لكن سوف يأتي ، ونحن نعطيها أدوية ونقيس الضغط من حين لآخر والأمور عادية، عدت إلى حواء كما خرجت لا أملك إجابة.
اتصل بي يسلم على الجوال كان مرابطا خارج المستشفى، سألني عن وضع مريم، فأجبت إنها بخير قال إنها تتألم منذ أيام فهل سيحدث لها ما حدث لامي حواء؟هل جدتي على حق في أن الطب لا فائدة فيه؟ و بدا صوته باكيا قبل أن يغلق الخط ، كانت الساعة تقترب من الثالثة فجرا فتوجهت إلى القابلة مجددا.
كانت مستيقظة هذه المرة وبادرتني بالحديث قائلة اسمعي لقد اتصلت مجددا بالجراح فقال إنه لن يأتي لأن لا فائدة من حضوره مادامت الأدوات الضرورية للعملية غير موجودة.
• سحبت رجلي من الغرفة وأنا أتأمل سذاجة مريم ويسلم، قطعا كل هذه المسافة اعتقادا منهما أنهما قصدا بر الأمان ،و الحقيقة أن إلى جانبها بعض المنطق فالعاصمة هي مركز الخدمات الأساسية وما لا يصلنا في الريف نحصل عليه بوصولنا للعاصمة، وهما معذوران أيضا إن لم يدركا أن التفاوت في الخدمات لا يرتكز على العامل الجغرافي فحسب، وأن العامل المادي يفعل فعله ليجعل من واقع أهل المدينة أشكالا وألونا لا وجه للمقارنة بينها وبدون شك ليست لديهما فكرة أن 686 حالة وفاة لكل 100000 ولادة في بلادنا تذهب نسبتها العظمى إلى أوساط الفقر و الريف الذي تتضائل فيه نسبة ولوج النساء إلى الخدمات الصحية إلى 36% مقابل 86% للمتمدنات.
اتصلت بيسلم لأخبره أني سوف أنقل مريم من المستشفى إلى إحدى المصحات الخاصة فكان موافقا
دخلت الغرفة تتبعني القابلة، سألتني مرافقة إحدى المريضات ماذا ستفعلون، قلت سننتقل إلى المصحة فعلقت باستغراب: إن تكاليفها باهظة ، لم أرد فأنا أعلم علم اليقين أن تكاليف المصحات التجارية غالية وأن لا قبل لأمثالنا بمواجهتها لكن صوتا ما بداخلي كان يدعوني للتحرك لإنقاذ مريم، أعادت السيدة سؤالها من جديد لكن بصيغة أخرى : لا تتهوري كلنا هنا نتمنى انقاذ أخواتنا وكذلك الأجنة لكن ما باليد حيلة ، أختي تجهض للمرة الثالثة بسبب ضعف الرعاية الصحية هنا لكن حتى في أحلامنا لا نستطيع التفكير في التوجه إلى المصحات الخصوصية ففي أحياء الصفيح حيث نقيم نواجه صعوبة في الوصول إلى المستشفى الوطني لانعدام وسائل النقل نهارا أما في الليل فيضيف عامل الخوف هما آخر على همومنا ، كنت أستمع إلى حديث السيدة وأتابع القابلة وهي تنزع الإبرة من يد مريم لاحظت أنها تطيل النظر إلى العقد في جيدها فقلت في نفسي لطالما شد هذا العقد بخرزته الكبيرة في الوسط وألوانها وأشكالها المتداخلة انتباه كل من تقع عينه عليه .
طلبت من القابلة أن تعطي البواب إذنا بإدخال يسلم ليساعدنا في حمل مريم ، فخرجت لاستدعائه بينما بقيت أنا منتظرة عودتها وفي الأثناء كنت أستعرض الاحتمالات الممكنة لتوفير تكاليف العيادة، دخل يسلم ومعه القابلة وضع يده تحت رأس مريم فبادرت بالاقتراب لنقوم بنقلها إلى البطانية تمهيدا لحملها إلى السيارة لكن يسلم مد يده فجأة إلى عقد مريم وفكه وسط دهشتنا ثم قام بتسليمه للقابلة لم نسأل عن سبب التصرف الغريب ربما لإحساسنا بالحرج أمام القابلة أو لان مريم كانت تتأوه بشدة .
عند وصولنا إلى المصحة استبدلنا البطانية بالكرسي المتحرك،و بعد الفحص أدخلت حواء غرفة العمليات. قبلها سألت الدكتور عن وضعها فقال: تأكدي أنها ستكون بخير، سنخرجها بعد ساعتين إلى ثلاثة ، لم ننتظر أكثر من ساعة خرج علينا الجراح ليقول إن العملية ناجحة ومريم بخير هي وطفلتها لكن علينا أن ننتظر حتى يزول مفعول المخدر، في الأثناء طلب مني مسؤول الاستقبال اختيار سرير لآمنه فاخترت سريرا بغرفة مشتركة لتقليل التكاليف.
بعد وقت أخرجوا حواء وطفلتها من غرفة العمليات ولم أصادف في حياتي فرحا يشبه فرح يسلم كان الفتى يعيش فرحا هستيريا يزرع الغرفة جيئة وذهابا، يتنقل بين الطفلة ومريم التي كانت تفتح عينيها من حين لآخر وتبتسم ابتسامة لطيفة. عجبت لنشاط يسلم بينما كنت أنا في غاية التعب بسبب طول السهر، تراجعت إلى أحد الكراسي ورحت أتأمل مريم وسط رفيقاتها في الغرفة كانت بشرتها تشبه بشرة الأموات أمام وجوههن النضرة ، لا عجب فمتاعب الحمل تنطلق مع بدايته ومواكبتها تتطلب شروطا علاجية وغذائية عديدة هي آخر ما تقلق بشأنه مريم ومثيلاتها، فحين تفكر الموسرات من نساء المدينة في تقليص مخاطر وتبعات الحمل والحصول على مولود معافى يسيطر على غيرهن معتقد قديم بأن الحامل تعد من أهل الآخرة ابتداء من شهرها السابع وتصبح فاقدة الأهلية بشأن بعض العقود من وأن قبرها يظل مفتوحا طوال تلك الفترة حتى تضع حملها .
أغمضت عيني ورحت أفكر في سبيل لتسديد تكاليف العيادة. مرت ساعة أو ساعتان قبل أن يوقظني صراخ الصغيرة ويبدو أن مريم كانت قد استيقظت قبلي، حملت إليها الطفلة لترضعها، حينئذ دخل يسلم وراح يتأمل المشهد بسعادة بالغة ظهر جيد آمنه فتذكرت العقد، سألت يسلم عن قصته فتوجه إلى مريم معتذرا: سوف أشتري لك عقدا أجمل منه عندما أتخرج من الجامعة وأشتغل فردت مريم قائلة: أيها الفتى الوسيم أنت حليتي التي لن أتباهى بأجمل منها ما حييت ،وأنا الآسفة لإقحامك في أمور لا تعني الرجال، لكن قل لي أرجوك ما قصة العقد فبدأ يروي لنا كيف أن القابلة أخبرته أن خرزة عين الحجلة التي تتوسط العقد لا تقدر بثمن وأنها ستساعدنا ببيعها لإحدى تاجرات الخرز لنسدد أجر المصحة .
لم أكن أعلم أن مريم قلقت بشأن المصاريف قبل أن أرى ابتسامتها المعروفة، يا لجمالها فقد بدد ألق أسنانها قتامة ذلك الشحوب والهالات السوداء التي تغطي وجهها، وكأنها فهمت ما يدور في ذهني فقالت: يا غبية كلنا أبناء آدم وأمنا حواء.
نعم كلنا أبناء آدم وأمنا حواء هكذا؟ ليس الأمر بهذه البساطة فالناس مقامات كما يقول المثل المصري. تقول بعض الروايات إن أبانا آدم عليه السلام صحا من نومه ليجد أمنا حواء جالسة إلى جانبه، ولا نعرف شيئا عن ظروف وضع أمنا حواء لأبنائها، لكننا على يقين أن الحمل والولادة شكلا منذ الأزل شاغلا للعلماء والباحثين ربما لكونهما وسيلة الحفاظ على الجنس البشري وترقيته وهي غاية تستحق أن تسخر لها الشروط المناسبة، لكن هل ثمار تلك الجهود حكر على الموسرات من سكان المدينة؟ هل هن وحدهن المضطلعات بالجزء الصعب من مهمة الحفاظ على الجنس البشري؟
الواقع يقول إن معدل الولادات في الريف والأوساط ذات مستوى التعليم المنخفض تفوق نظيرتها في العاصمة خصوصا في الاسر المثقفة، ما يعني ضرورة توجيه القسط الأكبر من مخصصات الخدمات الصحية نحو المقاطعات والقرى بالداخل وساكنات الأحياء الفقيرة بالعاصمة ، حيث تتوارث الأجيال البؤس جيلا بعد جيل كما قد لا تتوارث الريفيات عين حجلة التي لولاها لما كانت مريم الآن تنتظر مقابلة الطبيب بعد مرور أسبوع على الولادة كادت خلاله تنسى رحلة المعاناة لولا حديث ذات الوجه الصبوح عن الولادة بدون ألم والابتسام للطفل عند خروجه إلى الدنيا، نظرت إلى طفلتها حواء وانقبض قلبها تحت ضغط سؤال مخيف : ترى هل يكون حال المستوصف بمقاطعتنا قد تغير عندما تبلغين مرحلة الإنجاب أم يبقى حظك مثل حظي، الذي لم يختلف عن حظ أختي حواء رغم مرور عشرين سنه، في عهدة عين حجلة .