
والد مولاي أحمد: ولدي عاد لأحضاني بعد رحلة أخذته من “النواره” المالية إلى “الطينطان” الموريتانية
النعمة ـ الرجل بن عمر
لا تبدو مقاومة فرحة عودة الابن بعد سبعة عشر ربيعا من الضياع أمرا عاديا ليمر كأي حدث عارض يعرفه ساكنة ذلك البيت المتواضع وسط الحي القديم بسوق النعمة؛ شرقي موريتانيا.
بذلك البيت الذي لفه الحزن لسنين طويلة، أم تلهج بالدعاء وتقسم والعهدة على الله أن يجمعها بقرة عينها مولاي أحمد، كما جمع يوسف الصديق بأبيه يعقوب بعد طول فراق.
ولا تنتهي الأم عن الدعاء حين ينهرها أب مكلوم بفقدان ولده قائلا “تلك أضغاث أحلام”، لترد الأم بإيمان واثق “كذلك قالوا ليعقوب النبي”.
مولاي أحمد ولد سيدي محمد (22 سنة) يئس أبوه من البحث عنه وقبله إخوة وأخوات وفريق عريض من أبناء عشيرته الأقربين؛ خصصوا أكثر من 5 سنين بحثا عن خبر يوصل إليه ـ وهو اليوم حي يرزق على عكس ما تواترت عليه الروايات.
كان الطفل في الخامسة من عمره حين قدم أبوه من قرية السايله 45 كلم إلى الجنوب الشرقي من مدينة النعمه لإجراء فحوصات طبية لعينه اليسرى، وبينما راح الطفل يداعب كيسا ابلاستيكيا به بعض الفاكهة ويعرضها على بعض أقرانه الصغار، ليتحول لأثر بعد عين؛ رغم استنفار واسع قامت به سيارات تابعة للسلطات المحلية.
كانت السنة 1995 حين عز خبر عن الولد الضائع؛ وكان الصغير بالكاد يقول كلاما يسهم في كشف بعض ثنايا قصته التي يتعذر عليه اليوم روايتها لصحراء ميديا لمحاذير يعددها الأب الذي أصر على رفض تصوير ابنه.
خلال السنين التي قضاها مولاي أحمد خارج أحضان والديه كانت حياتهما كوابيس وأشباح.. “كان يتمثل لي في كل شجرة عريقة بالصحراء الموريتانية”؛ يقول والده.
وتأسيسا على معلومات خبير تقفي الآثار فالابن تم اختطافه من طرف قافلة من الرعاة الفلان؛ عثر على آخر بقايا لمراعيهم بقرية الراجاط 9 كلم شرقي النعمة، وقد استخدموه لرعي البقر في منطقة الصحراء الكبرى قبل أن يفر من بين أيديهم بعد مسيرة 8 سنين خلف القطعان؛ بحسب رواية الأب.
هرب الابن إلى الجنوب الشرقي باتجاه مدينة النوارة المالية وهناك علق بسيارة نقل تخلص منها في مدينة عدل بكرو الموريتانية إلى الشرق ومن ثم إلى مدينة كرو؛ فبدأت رحلة الضياع والبحث عن المأوى.
وفي هذه الأثناء لم تكن الأم قد كلت بعد من الدعاء فيما استسلم الأب للأمر الواقع؛ بعد أن صار نهبا لعدد من الاتصالات والبلاغات الكاذبة أخذته من النوارة المالية إلى مقاطعتي باسكنو وأظهر بالشرق الموريتاني ثم قرية “تلمسه” بلعيون شرقا وأخيرا إلى كروا وعدل بكرو الحدودية.
يقول الأب معلقا على رحلة البحث عن ابنه: “لقد نفد رصيدي وخرت قواي وقررت أن أفوض أمري إلى الله”.
شيئا فشيئا راحت الأقدار تحرك الابن الضائع غربا باتجاه مدينة الطينطان الموريتانية التي وصلها في ظروف غامضة، وفيها عجز عن الحصول على مأوى آمن فظل يطارده الخوف من شبح.
في الطينطان قرر “الولد الضائع” أن يمارس بعض الأعمال فألتحق بأحد الخبازين بأجرة 1000 أوقية شهريا، قبل أن يعمل راعيا لدى أحد المنمين، وبعد ذلك بثلاث سنوات قرر الالتحاق بإحدى شركات البناء مقابل 35.000 أوقية.
وفي تلك الأثناء تم إيوائه من طرف أحد السكان ولكن عصبيته الزائدة منعته من التأقلم مع نظام الأسرة الجديدة، فقرر التمرد والخروج للشارع ليتحول إلى ابن شارع برتبة مراهق ولم يعدم من يجاريه هواية التشرد التي رمت به ثانية في بيت إحدى الأسر.
هنالك تعرفت عليه سيدة مسنة بمحض الصدفة فكانت شكوكها حوله أقوى بعد أن علمت أنه ليس من أبناء المدينة وفي سن تقريبية للولد الضائع، عندها قررت إخبار أحد أقرباءه الذي سارع بدوره إلى إبلاغ الأب الذي تفاعل مع الخبر بشيء من البرودة.
كان الأب يركز على ثلاث علامات لمعرفة ابنه الضائع، منها بقايا بياض بالعين اليسرى وكدمات غائرة بالجبهة والركبة اليمني، وبعد أن تحرى الجيران هذه العلامات وجدوها متطابقة مع أوصاف الابن؛ فجاء الأب مدفوعا بأمل جديد قوامه تأكيدات أحد الصالحين عبر رؤيا صالحة.
في أحد الأوكار المعهودة لتجمع أبناء الشوارع بالطينطان تعرف سيدي محمد على ابنه الذي كان متوسط القامة؛ يرتدي سروالا ممزقا من الجينز وقميصا عليه شعار فريق برشلونه الاسباني، وقد حلق رأسه على طريقة أحد نجوم الهيب هوب..!
يقول الأب : “ابني لم يكن مسرورا باللقاء، ولكن بعد ترويضه قليلا قبل أن يتحدث مع أمه عبر الهاتف”؛ وفور سماع صوته سجدت شكرا لله وصاحت قائلة “هذا ولدي.. هذا مولاي أحمد”.
هنا حصل تماس عاطفي جعل الولد الساخط على كل شيء من حوله يقبل أخيرا مرافقة عائلته الجديدة – القديمة إلى وحدة الدرك القريبة؛ ليبدأ فصل آخر من التحقيقات أفضت إلى تطابق عدد من الروايات والمواقف التي لا زالت عالقة برأس الولد.
كان الشك لا زال يخامر أحد أكبر أعمامه وكان الفضول يقتل عشرات آخرين ممن توافدوا بعد شيوع الخبر، فكان لا بد من عرض الولد على شيخنا ولد بوبو وهو خبير في السلالات البشرية وطبيب أعصاب بعدد من العيادات الخاصة في الشرق الموريتاني، كما يتمتع بنورانية خاصة؛ حسب ما يقوله السكان.
كان ولد بوبو أمام اختبار صعب لحظة تحتم عليه التعرف على والد الطفل من بين أكثر من 20 نفرا تكدسوا أمام مكتبه في حالة بلاهة وشدوه.
وفي هذه الأثناء أمسك يد الطفل وضغط على كفه متمعناً في خيوط يده اليسرى وفتح عينه ونظر في فمه ثم تركه ليمشي قليلا وسط حشود الرجال، ولم يكد يقطع خطوات وسطهم حتى أمسك بذراع أبيه وأقسم “هذا الطفل من صلب ذاك الرجل”؛ فهلل الحضور.
لم يمت مولاي أحمد كما أكد شهود عيان في مقاطعة “أظهر” شرقي موريتانيا، ولم يخب ظن أمه التي وصفت بالجنون، وها هو قد عاد لدفء الأحضان حيث أخذه والده إلى أحد الكتاتيب التقليدية وهو الآن يهيئه لكتابة أولى آي المصحف الكريم.