تابعت مساء الخميس الماضي جزءا من برنامج”ذاكرة وطن” علي شاشة التلفزة الموريتانية باهتمام، لرغبتي في معرفة المزيد عن شخصية هذا الأديب والصحفي، الذي آلمني تكالب رفاقه الأدباء علي صرحه الأدبي الذي شيده، وأصبح بفضل مثابرته معلما يسيل له لعاب الكثيرين، أما هو فقد تركه اختيارا وكان فيه من الزاهدين.
تابعت ” الأستاذ كابر هاشم” ” وهو اللقب الذي يطلقه عليه الإعلام الموريتاني” علني أسمع منه صورة أو نموذجا لما كان عليه الصحفي والأديب خلال مراحل لم أك خلالها علي تماس مع مهنة الصحافة ولا متابعا جيدا للساحة الأدبية، وهما المهنتان اللتان خبرهما الرجل وعاصر رعيلهما الأول بعد الإستقلال، لكنهما أصبحتا اليوم تعانيان، بفعل مسلكيات “ممتهنيهما ” الذين بالغوا خلال العقدين الماضيين في تشويه صورتهما حتي أصبحتا مرادفتان في نظر كثيرين لنشاطات أخري يزدريها المجتمع ولا يقيم لها وزنا، فكانت غبطتي كبيرة،عندما أخرجتني الحلقة من هذه الصورة النمطية الشائعة عن الأديب والصحفي في ” بلادنا” هذه الأيام.
فالوطنية عنده، هي: التماهي مع الوطن وليس بيعه بثمن بخس، أما مهمة الأديب والصحفي فهي: نشر رسالة الوطنية وصيانة الهوية والدفاع عن كرامة الوطن، فتمنيت أن يستقبل الرجل من عمره ما استدبر، لتبقي للوطن شمعة كهذه تضيء للناس الطريق وترسخ لديهم قيما كالتي تحدث عنها شاعرنا الزاهد وصحفينا الذي يبدو أنه كان يعشق المتاعب ويدرك معني ركوب الصعاب.
خواطر كثيرة تداعت في ذهنى بعد نهاية الحلقة، كنت قد تنقلت خلالها إلي جوانب متعددة تتعلق بالرجل، يحتاج الحديث عنها إلي تفصيل لا تسمح به هذه الخاطرة.. وقد تصبح الإشارة إليها تكفي كل لبيب وكل وطني غيور علي هذا البلد.
ماذا تعني قيم التواضع والنبل والتضحية لصالح الوطن والأمة ؟وما موقع القناعة في قاموسنا اليوم؟ ما مصير وطن لا يكرم مبدعيه وصفوة رجالاته؟
لقد سمعت الكثير والكثير عن الأستاذ كابر هاشم من خلال زملائه في المهنة ورفاق دربه في السياسة فلم أسمع منهم إلا ثناء علي الرجل = وكانت هذه نادرة ملفتة بالنسبة لي، لأننا نعيش في مجتمع يعتمد في مجمله علي الظن، ليصدر أحكامه النهائية وغير القابلة للشك= فلم أسمع منهم سوي الثناء علي الرجل والحديث عنه بكل إيجابية، وهو ما فسر لي تدفق الناس علي باب مكتبه كل ما حلت مناسبة للمهرجان الذي دأب اتحاد الكتاب والأدباء الموريتانيين علي تنظيمه سنويا، ليخرج كل “زائر” مرتاحا بعد خروجه من مكتبي الرئيس والمحاسب، فغبطت الرجل علي حنكته و زهده وكنت جد معجب بتكريمه السنوي لشخصيات كانت لها إسهاماتها الثقافية والوطنية وهي لفتة تسد فراغا كان يجب علي الجهات الرسمية ملؤه.
أما كونه شاعرا مفلقا، شكل شعره مفخرة لمعاصريه وللاحقيهم، فهذا لم يدفعه لتجاهل ما تجود به قرائح “السوننكي” أو “الوولفى” أو “الهالبولارى”، وأعترف أنني قبله لم أك علي دراية بوجود إنتاج أدبي بهذه اللغات الوطنية التي نحترمها ونقدرها، لأنها لغات وطنية يتكلم بها إخوة لنا في الدين والوطن، كل هذا التكريم يتم دون أي فرق في كم الجائزة أو نسبية في مساحتها.
قد لا يكون التأسف علي التقصير اتجاه الوطن وأبنائه مجديا من الناحية العملية، لكننا في المقابل يجب أن نعمل الكثير والكثير، من أجل تكريم هذه القمة الأدبية والشخصية الوطنية من خلال أوسمة تمنح له من طرف الجهات الرسمية والشعبية وامتياز يكفل له عيشا كريما، يجعله نموذجا لآخرين حتي يقتنعوا بأن الزهد في المناصب والمال، سيجلب لهم احترام الناس والسعة في الرزق والبركة في العمر.
وعندها فقط، ستصبح للوطن ذاكرة وسنعيش فضاء يكرس مساحة كافية بين الصفوة وبين الرويبضة، الذين يمنون أنفسهم اليوم بالتمتع بمزايا الحياة، دون دفع الثمن ودون الإستعداد لركوب الصعاب ويعملون منذ بعض الوقت بجد من أجل امتهان مهنة المتاعب بغير حقها وارتقاء منابر الثقافة، دون زاد خلقي أو معرفي.. هذا إذا أردنا أن تصبح للوطن ذاكرة.