بقلم : عبد الله ولد محمد يحي
يمكن القول إن تنوع واختلاف التيارات النقدية يرجع في أساسه إلى طبيعة المناهج التي تعتمدها تلك التيارات والتي يمكن حصرها في منهجين أساسيين هما منهجي الشك المذهبي ، والشك المنهجي ، فأنصار الشك المذهبي أو المطلق يستخدمون شكهم كوسيلة للهدم غير مكترثين بما سيترتب عن ذلك من هدم للعقل والقيم ، والشك في مذهبهم غاية ووسيلة في آن واحد ، أما أنصار الشك المنهجي فإنهم يتخذونه مطية للنقد والتأسيس والبناء من أجل قيام حقيقة يمكن الركون اليها عندما تلتبس وتتشعب الأمور ، و يتخذ هؤلاء شكهم كوسيلة لا كغاية فهو شك مؤقت حتى نتبين الخطأ من الصواب ،عندها يبطل مفعوله وبالتالي فالشك هنا نسبي يفترض أن يفضي إلى إثبات الحقيقة لا إلى نفيها.
وقد عبرعن هذين الموقفين كل من René Descartes و Néron de Roma فكل منهما وعلى طريقته الخاصة حاول أن يعرض أسلوبه ومنهجه في الحياة،أراد كل منهما ذلك ، معتبرا أن منهجه هو المنهج الأمثل لممارسة فلسفته في الحياة، فماكان من نيرون عندما راوده خياله في أن يعيد بناء روما إلا أن قرراللجوء إلى أسلوب المحرقة ، منتهجا أقصر الطرق وأسهلها، ذلك أن الهدم –في نظره-أيسر من البناء ، و تمشيا مع مزاجه ورؤيته للحياة جلس متفرجا ومتسليا بألسنة اللهب وهي تلتهم روما !! ،لكن هذ الأسلوب لم يكن حكرا على نيرون فقط ، بل انتهجه من بعده الصليبيون في حرق المكتبات الاسلامية بالاندلس ،وقد أعتمده التتار قبلهم لكن بطريقتهم الخاصة، ففي هذه المرة كانت بإغراق المكتبات بدلا من إحرقها لدرجة ان الفارس التتري كان يعبر نهر دجلة مشيا على مجلدات الكتب ،ضاربين بذلك( أروع)الأمثلة في البطش والفساد،نفس الموقف عبرعنه رواد المدرسة الريبية أوالسفسطا ئية التي من أشهرروادها Protagoras و Hippias وذلك بشكهم المطلق من أجل الشك لكيلا تقوم للمعرفة قائمة ،إلا أن الإمام الغزالي رضي الله عنه ورينه ديكارت كانا (أذكى) في طريقتهما إذ اختار ديكارت و من قبله الغزالي طريقة مسح الطاولة بدلا من حرقها أو إغراقها، فمسح ديكارت الطاولة معتمداعلى الشك المنهجي كأداة للإ ثبات والبناء، وكأداة موضوعية لتفادي الأخطاء وغربلة الفكر بدلا من اقصائه كليا ، بل إنه اعتمده لوضع قطيعة إبستمولوجية مع الوثوقية المعرفية خوفا من الوقوع في الخطأ وتفاديا لكل خطاب لا يمرعلى غربال العقل بالنقد والتمحيص ، فماذا برأيكم تخبئ الأقدار لطاولتنا ؟ وما مصيرها ؟ هل هو المسح ، أم الحرق والإغراق ؟
بنظرة تأمل متأنية سيدرك المرء تماما أن هذه الخيارات جميعها معروضة للمشتري في(سوق نخاستنا الفكرية والمنهجية ) ومجدولة بعناية فائقة في جدول أعمالنا ، كمناهج محصورة للإختيار لا يمكن الخروج عنها ، فالبعض يريدها (مسحا للتراكمات البينية ) من أجل (التواصل) مع منابع الدين الأصيلة (الكتاب الكريم والسنة الغراء ) واضعا قطيعة فكرية مع جميع تلك التجارب التأويلية والأجتهادية ، ممتنعا ورافضا لأية تبعية للقرون التي تفصلنا عن النشأة والإنطلاقة الأولى ، مفضلين أسلوب إعادة فهم وتأويل النصوص انطلاقا من رؤية عصرهم وظروفهم فيما لم يرد فيه نص قطعي الورود قطعي الدلالة، مرخصين لأنفسهم ما يحرمونه على غيرهم ، لكن أهل (حسن الظن) سيلتمسون لهم دوما أحسن المخارج وسيعتقدون بحسن نيتهم إلى أن يثبت العكس، وسيعتبرون أن ما دفعهم لذلك هو الغيرة على الحق خوفا من انتشار (البدع في الدين والدنيا ) وهذه لعمري مهمة نبيلة لكن بشرط ثبوت حسن نية أصحابها ،ويجب على الجميع إفتراض ذلك فالأصل البراءة، والمتهم بريئ حتى تثبت إدانته .
أما أصحاب نظرية الحرق والإغراق فيرون أن الحرق أسهل وأسرع وأبلغ بل وأفصح لغة من المسح ، لأن المسح في نظرهؤلاء ليس إلا حرقا أو إغراقا خجول، لايتأتى لأصحابه بلوغ مرامهم بطمأنينة وثبات. وعلى رأي ابو نواس : ألا فأسقني خمرا وقل لي هي الخمر == ولا تسقني سرا إذا أمكن الجهر ذلك أن أصحاب نظرية الحرق لا يعتقدون بسرية المعتقد ولا باللف والدوران كما يفعل- في نظرهم – بعض أنصار نظرية مسح الطاولة ، بل إنهم يؤمنون بحرية التعبير و(حرية المعتقد ) أكثر من غيرهم حسب اعتقادهم -وهم أحرار في ذلك – فلربما لكونهم طلاب حرية و طلاب مساواة ، وربما هم أيضا على هذا الحال لسوء تقدير الأمور وعدم أخذ الاحتياطات وكذلك عدم الخبرة وسطحية فهم المجتمع .
إن منهج الحرق لم يسلم منه أحد وهو سياسة معروفة تعتمد في بعض الحروب الخبيثة تحت عنوان (سياسة الأرض المحروقة ) وهو أسلوب معروف في أرضنا المحروقة فالكل(إلا من رحم ربك) يمتهن من جانبه مهنة الحرق (لحريك) فيقولون لمن وصل الى مرحلة الإبداع فيه (فلان حراك) فهو طريقة سريعة وفعالة لتقمص الشخصية المناسبة في المكان والزمان المناسبين لتحقيق أغراض أو حاجات مشروعة في قليل من الأحيان، وغير مشروعة في كثير من الاحيان .
وفي جميع الحالات وفي نظر البعض،فكل الطرق تؤدي الى ( حرق) روما و طاولة روما ، فالبعض يفضل حرق فكر وتاريخ وتركمات روما لكنه يستنثني المخطوطات خوفا من الإغتراب في أرضه ووطنه،والبعض الآخر يفضل حرق كل شيئ بما في ذلك المخطوطات وحرق المسافات النضالية والسياسية بالطرق غير المشروعة نحو تحقيق الهدف -لأن الغاية في نظرهم تبرر الوسيلة – بل وحرق روما ان اقتضت الضرورة ، ذلك أن هذ التيار يرى أنه بهذه الطريقة لن يخسر شيئاً لأنه ولد في الغربة وعاش فيها وسيموت فيها ، ناسين أو متناسين أنه لا يحرق بالنار الا رب النار!!!.
لكن للبعض الآخر وجهات نظر وأطروحات تصب في الاتجاه الآخر ، ولربما وهو( الأرجح أو المشهور، تأويلان) في نظر الكثيرين منهم بمن فيهم من أصحاب نظريتي المسح والحرق، -طبعا يرون ذلك فقط في أوقات صحوهم إن كانت هناك – ذلك أن هؤلاء يعتبرون ان بفقدان أرضية للحوار ،وبفقدان ( فرقة لحماية مدنية هذ الحوار )) ،-كمتسع للجميع- ستزدهر صناعة الوقود وسيضحك نيرون كثيرا ، وستشتعل -لا قدر الله – (سماء) روما بعد أن أشتعلت أرضها نارا.
وليعلم الجميع أن هناك من سيظل دائما على موقفه الراسخ والثابت من الفصل بين القضايا المشروعة والعادلة، وبين رموزها المحترقين ، وأن هناك من سيظل دوما يؤمن بحرية واحترام كرامة الإنسان ومعتقداته مهما كانت بشرط أن لا تتعدى حرية وأحترام معتقد الآخرين ، ومقدساتهم ، ورموزهم فتلك خطوطنا الحمراء لا نظلم فيها !!! ولا نظلم !!! .
ومهما يكن فإن نيرون مات ولم تمت روما !!!! .
[email protected]