في خضم الزوبعة في فنجان إقالة السيد ولد الغيلاني يحق للرأي العام الوطني الذي كاد أن يفقد الثقة في الحصول على قضاء راشد وعادل أن يستوثق من حقيقة ما يحصل.
وليس لهذا الاسيثاق أن يحصل إذا لم توضع أمام الرأي العام الوطني، وبشكل لا لبس فيه، حقيقة مسار مؤسسة دستورية هي بحق أهم المؤسسات، بل إنها أم المؤسسات: ليس لحاجة الناس لموارد مادية تحت يدها، ولا لسلاح فتاك تملكه، ولا لقوة خارقة محبوسة في وفاضها؛ بل أكثر من ذلك لأن بين يديها ميزانا من موازين الرحمن هو ميزان العدل والقسط بين الناس: أولي الحقوق و أصحاب المظالم، ضحايا التعدي على الحريات و الأعراض و الأبدان.
الموريتانيون هم ورثة أبناء هذه الصحراء المترامية الأطراف التي طالما بطش فيها القوي بالضعيف، واستهتر فيها المتحكم بالقوانين أو حاول أن يفعل ذلك؛ لكن موريتانيا تلك خلقت مفارقتين غريبتين استحقتا أن تُدرسا و تُدرًّسا في مجامع العلم و حقول الاجتماع: فقد انفردت موريتانيا بتأسيس ثقافة عالمة في صحراء و في مجتمع من الرحل، صحراء عالمة بالمعنى العميق للكلمة وليس مجرد صحراء أهلها يكتبون ويقرؤون، بدليل أن من أنجبتهم من علماء و خريجين تصدروا مجالس العلم في أعظم الحواضر العربية والإسلامية فبهروا المتلقين، و خلبوا عقول المفكرين، و أفاد الناس من علمهم!
واستفادوا؛ بل إن هذه الصحراء، كما يقول الباحثون، لم تعرف ما سُمي في مواطن أخرى بـ”عصور الانحطاط” بدليل نتاجها الأدبي والعلمي الذي أمَّن للأمة العبور إلى عصور الأنوار التي فتحتها الحضارة الغربية بعد أن تمثلت، و أغنت و طورت ما كان العرب قد أنتجوه في عصور ازدهارهم ثم نسوه؛ فنسيهم الله، أو أنساهم أنفسهم، كما قال في محكم تنزيله!
أما المفارقة الثانية والتي هي ربما ثمرة المفارقة الأولى أو رديفتها –لا فرق- فهي أن هذا المجتمع الصحراوي المتنقل أنتج قضاء فريدا، قضاء لا يؤويه ديوان، و لا ترعاه دولة حاضنة؛ بل قضاء ينتصب رجاله من تلقاء أنفسهم أو تنصبهم جماعات بدوية متنقلة .. قضاء يستمد قوته من علم قضاته وصدقهم و عدلهم فلا يجدون معارضة من محكوم عليه؛ بل ينقلب المحكوم راضيا بما أمضاه القاضي في حقه، سالكا “طرق الطعن” لدى قضاة آخرين، إن هو لم يطمئن إلى أن القاضي قد أحاط علما بكل جوانب النازلة؛ فإذا ما استنفد طرق الطعن تلك و “نَزَلَ” القضاة كلهم على ما قضى به الأول عاد مقتنعا ممضيا !
ما حُكم به عليه!
في ذلك الزمن كان للقضاء احترامه، و كانت للقاضي مكانته ومكانه المحفوظان لا يزاحمه فيهما مزاحم؛ بل لا يستطيع أحد؛ بل لا يفكر أحد في تولي القضاء إلا إذا كان أهلا له مُجبرا بقوة الجماعة أو بقوة الحاجة إذا ما افتقد من هو أولى منه لتولي القضاء!
كان ذلك قبل أن تقوم الجمهورية الإسلامية الموريتانية، وقبل أن تختط المدن، و تُفسح الطرق، و تُبنى للمحاكم مقرات، و تخصص للقضاة رواتب، و يولى عليهم وزير، و ترسم لهم جداول للترقي و برامج للتكوين المستمر و المتقطع!
الرعيل الأول من قضاة الجمهورية لم يخل من هامات عالية و قامات فارعة سارت على خطى السلف: علما وورعا و عدلا، لكن و بدل أن تشعل الجمهورية الإسلامية خمسين شمعة في سماء قضائها مع كل شمعة أطفأتها من عمرها المديد فإنها كانت تطفئ عشرة شموع من شموع القضاء المزهرة!! حتى خبت كل الشموع، وبدا وكأننا ننقب في غرفة مظلمة عن قُبَّرةٍ سوداء( لكي لا أقول قطة) ترانا، لما منحها الله من قدرة على الرؤية في الظلام، ولكنا لا نستطيع أن نراها لأنا ضيعنا المصباح في زحمة الفرحة بهِبَة الاستقلال!! وما تلكم القُبَّرةٍ إلا القضاء الذي ضيعناه و أجهدنا أنفسنا في البحث عنه حتى �!
�رنا نُسلم زمامه لمن لا يعرف من القضاء إلا القضاء على القضاء!
أقول قولي هذا لأصل إلى أنه من أعجب العجائب و أنكر المنكرات أن يقف السيد ولد الغيلاني واعظا ناعيا حال القضاء، و هو من هو استهتارا بالقضاء، و جريا في ركاب أية سلطة تنفيذية، بل الدوس على كل المثل والتقاليد القضائية في أيام مشهودة لا تزال حاضرة: أذكر منها يوم نصب نفسه نيابة و محققا و قاضي حُكْمٍ في قضية معروفة بدأ بها مساره الضار بسمعة القضاء و شرف المهنة، و لم ينهها بتحديه، وهو في نيابة المحكمة العليا لقرارات هذه المحكمة التي يدعي اليوم تمسكه بها وتقديسه لها، ناهيك عن ممارسته المشهودة لما سماه حلفاؤه اليوم “السجن التحكمي” باسم ولصالح السلطة الت!
نفيذية التي يتقمص اليوم شخصية المتمرد عليها في مشهد مضحك لا يخفف من هزليته ركعات الرياء التي أداها أمام بوابة يجب أن تظل موصدة أمامه إلى يوم الدين!
هذا الحريص على منصبه المتمسك بالدفاع عن هيبة القضاء هو الذي دشن قدومه للمحكمة العليا بتسريح أزيد من ستين قاضيا، قد يكون من بينهم مفسدون مثله، لكن من بينهم شرفاء و ذوو كفاءة، لم يتح لأي منهم أن يدافع عن نفسه و لم يقدم بشأنه تقرير يدين تعديه أو تجاوزه لواجباته كقاض، ويوم عادوا بعد أن اكتشف رئيس الجمهورية زيف ادعائه و تجنيه على القضاء اختلطت عليه الأمور، و أظلمت الدنيا في وجهه حتى تجرأ على مقاطعة حفل رفع العلم الوطني يوم الاستقلال الذي هو مفخرة لكل موريتاني، ليعود لممارسته القديمة في سب وزير العدل و نعته بالنعوت و الأوصاف المجَّرمِ التَّفوهُ �!
�ها قانونا من مواطن بسيط فما بالك برئيس المحكمة العليا!!
وبعد، أيستحق السيد ولد الغيلاني بعد هذا أن يُتضامنَ معه؟ وكيف نسي محامون يدعون العلم و الاستقامة والدفاع عن هيبة القضاء أن يقفوا في صف من دأب على إهانتهم و إهانة المؤسسة القضائية التي هم جزء منها؟
وما بال تلك المعارضة التي تتلقف كل قشة رخيصة تصطف إلى جانب من ذاك تاريخه و تلك فعاله؟ لقد خسرتم المعركة جميعا: السيد ولد الغيلاني، و جوقة المحامين و فلول من يتسمون “ودادية القضاة”.. خسرتم المعركة؛ فابحثوا عن صنم آخرون تؤلهونه، فإن السيد ولد الغيلاني قد ذهب و الله حي لا يموت!
المختار ولد ملُّوكْ