بقلم/ محمد المختار ولد محمد فال
كثيرا ما نسمع ضمن فضائنا الشعبي حكايات تسخر من النعامة في أسلوبها ومن “كابون” في تهوره وجشعه ونستمتع بها، لكوننا نري أننا في واقع أفضل ونمتلك مؤهلات تخرجنا من دائرة البلهاء عديمي الدراية والمسؤولية اتجاه المعضلات التي تمر بنا في حياتنا الخاصة والعامة.
قد يكون وضعنا قبل الاستعمار أكثر صدقا مع الذات وأشد انسجاما مع نمط العيش الذي كنا رهينة له، لكننا اليوم نعيش مستوي من التناقض مع الذات وتجاهلا للواقع، يفوق النعامة في أسلوبها و”غابون” في بلاهته وجشعه المفترضين، نري الخطر يحاصرنا من كل مكان: تهديد وجودي لهويتنا الثقافية ولحالتنا المدنية وللقمة الخبز وللتساكن وللكرامة وحتى للمعايير والمسلمات، لذا أصبحنا نعيش في وطن نحبه ونكرهه في نفس الوقت ونخاف منه وعليه في آن واحد، ندعي خدمته والاستعداد لدفع الدماء دفاعا عنه ونتمنى في نفس الوقت زواله واختفاءه من الوجود.
ألا يعني هذا أننا نواجه مشاكل تتعلق بالوجود وبالبقاء علي خريطة دول المنطقة، ضمن فضاء آمن يسمح لنا بالعيش بكرامة وطمأنينة؟ ألا تمتلئ مجالسنا العامة والخاصة بأحاديث متشائمة، تري في المستقبل شرا لا بد من “التكيف” معه وليس مواجهته؟ هل بهذه الطريقة سيستتب لبلدنا الاستقرار؟ وهل هناك أي إمكانية للتصدي للتهديدات الإستراتيجية التي تواجهنا أم أنه ليس بالإمكان أفضل مما هو كائن؟
أسئلة وغيرها راودت وتراود كل منصف ابتلي بمتابعة الشأن العام في هذا البلد وقيض له أن يطلع علي النزر القليل من الممارسات التي قام ويقوم بها موريتانيون متنفذون احتلوا مراكز متقدمة وتحملوا أمانةالمسؤولية، هم من كل الجهات والأعمار والفئات والقوميات برزوا عبر مراحل متعددة.. جميعها تشكل معول هدم وديناميت يفجر وينخر جدار الوطن ويقوض أركانه وأسس بنائه وعوامل بقائه ومنعته، ورغم ذلك كله فلم نسأل أنفسنا يوما من الأيام عن مخاطر هذا المنزلق لنبحث عن حقيقة البناء ومتطلبات البقاء وضرورات الديمومة والتحصين.
الشوفينية الضيقة والتحلل المخيف
رغم أن فضاءنا الحضاري في السابق كان يتسع لتحركاتنا فيه دون قيود سياسية أو قطرية ونتفاعل معه بوصفنا جزءا أصيلا و” طرفا” مرغوبا، يمثل أحد الينابيع المكونة للفضاء الثقافي والحضاري للمنطقة، وبعد التدخل ألقسري للاستعمار وتقطيعه لأوصال المنطقتين: العربية والإفريقية، ظهرت عندنا هذه الكيانات المأزومة والتي خطط لها لتكون كذلك، ولتصبح قابليتها للتأزيم أهم عامل يزيد من فاعليتها ووظيفتها، بل ومردوديتها بالنسبة للدوائر الاستعمارية، ومن أجل أن تبقي هذه الكيانات علي قيد الحياة تم إرضاعها بثدي اصطناعي يستمد “حليبه” من وراء البحار، فكنا مثل من يرقص في مأتمه، فتلقفنا جميعا ” الهدية المسمومة” وحولناها إلي معبود نقدس علمه ونشيده ونستمرئ تبعيته للغرب ودونيته في المحافل الدولية وعجزه العياني عن إنجاز أي مهمة من مهامه التي يفترض أنه أسس للقيام بها، فتحولت هذه البلدان إلي امتياز لقلة متنفذة، يتقلب ذووها في الوظائف المرغوبة ويحصلون عي أفضل تعليم وأحسن علاج وأفخم بيت، أما بقية الشعب فليس لها من الكعكة، سوي الوعود الفضفاضة والفتات المذل، فكان من أوجب واجباتها – وهي المنبوذة: التضحية للوطن- رغم أنها ليس لها أن تطمح إلي أي من الإمتيازات ومزايا البلد.. فتلك لخاصة الخاصة ولا يحق لأي كان التطاول عليها ولا المطالبة بحقه التليد فيها.
ورغم هذه الخلفية في النشأة وذلك الواقع المر، فقد تضخمت لدينا شوفينية الأوطان وصرنا ننهر كل من يشكك في هذه الكيانات الاصطناعية ونري في أي تشريح للواقع تطاولا علي كرامة البلد واحتقارا للذات ودونية في التفكير، متجاهلين أن من هيمنوا علينا وصنعوا لنا هذه الكيانات القاصرة، أصبحوا من أشد المتحمسين للوحدة ضمن فضاآتهم الجغرافية، ويكفي للدلالة علي ذلك أنهم لم تغير أزمات الحاضر قناعاتهم ولم يبحثوا عن الخلاص داخل” أحواشهم”- رغم إمكاناتهم الهائلة ومكانتهم العالمية.
أما نحن فلا زلنا نتجادل حول أفضلية سكان الجبل علي ساكنة السهل ومن هو الأذكى: ساكنة الشرق أم الغرب؟
وهل لغتنا قاصرة وكينونتنا محكومة بالدونية؟ علنا نجد المبرر المنطقي لتبعيتنا للمستعمر ولمقاطعتنا للجوار، فالغرب وفق هذا المنطق هو القادر علي”مدنا” بكل شيء، بما في ذلك اللغة التي تضمن لنا التخاطب بيننا، ونستخدمها كأداة لإفهام ربة البيت الأمية لفاتورة الماء والكهرباء، لذا استوردنا لغة من وراء البحار وتفاخرنا بقدراتها وتغنينا بجماليتها،وأكدنا خلال جميع المناسبات الرسمية وغير الرسمية عجز لغتنا ودونيتها، إلا أننا اكتشفنا أخيرا أننا قد اخترنا الخيار الأقل مرد ودية والأقل مزايا بين الخيارات المتاحة، فتحولت خياراتنا جميعها إلي كابوس حضاري وأمني وثقافي وإنساني واقتصادي وسياسي، ولم نسمح لأنفسنا- رغم فداحة الخسارة- بوقفة تأمل ونقد موضوعي للتجربة وللبحث عن الخيارات الأفضل، بل اكتفينا بحملة منظمة تنتقص من الأغلبية وتتهمها بالقصور الجيني وبالفشل المطلق، دون أن نعترف بمصدر نماذج التنمية التي هللنا لها وبشرنا بصلاحياتها الأبدية: اقتصاديا وثقافيا وإداريا، والتي جعلنا منها نموذجا لنمط الحكم علي مستوي القشور والشكليات، لذا لم نربح الحاضر قطعا وأصبحنا مهددين جديا بخسارة المستقيل.
التهديد الإستراتيجي الماثل:
من المسلم به أن موريتانيا اليوم ينظر إليها من طرف دول الجوار بوصفها مكبا للنفايات وجهة مثالية لحل المشكلات الداخلية والأزمات الضاغطة، وحتي الجهة البحرية هي الأخري أصبحت أكبر مهدد بالغرق للعاصمة نواكشوط ولمناطق واسعة من التراب الوطني.
فعندما يصبح الجوار كله تهديدا استراتيجيا، مصحوبا بهشاشة اجتماعية وبانهيار للقطاعات الاقتصادية والخدمية بشكل يكاد أن يكون شاملا، فإنه لم يعد لوجودنا ضامنا- بعد الله- سوي رمالنا المتحركة والتي يمكنها أن تتحول من نعمة إلي نقمة، علما بأنها أصبحت أهم حاجز يعزلنا عن التفاعل مع بعدنا الشمالي، الشيء الذي زاد من المخاطر وضاعف من حجم التهديدات الموضوعية والبشرية، فعندما ندرك حجم تماهي حياتنا العامة والخاصة مع هذه الرمال المتحركة ونكتشف أننا تستقي من معينها، فعندها يجب أن ننتبه إلي حالة الخلل المميت والفراغ القاتل الذين صنعناهما بأيدينا وبموجبهما أصبح الجوار خطرا بدلا من أن يتحول إلي عامل منعة وقوة.. فكيف وصلنا إلي هذا المنزلق الخطير ومن هو المسؤول؟ سؤال لن نجد الجواب عليه للأسف، لأنه ليس هناك من هو مستعد لتحمل هذه المسؤولية، لذا يجب أن نتحمل جميعا مسؤولية ما آل إليه حال بلدنا، فلا بد أن تكون مسؤوليتنا جماعية، ما دمنا قد اخترنا السكوت، نيلا للسلامة وإرضاء للحكام ورغبة في التزلف للسلط المتعاقبة، ولتغليبنا للمصالح الخاصة علي حساب العامة ولتركنا بلدنا نهبا للذئاب وللوحوش الكاسرة.
فبسب فشلنا في التنمية وتكريسنا لنماذج الحكم المبنية علي الطموحات الفردية والعائلية ومخاصمتنا للكفاءة وارتكاز مختلف الأنظمة علي القبلية والفئوية، باعتبارهما بديلا أفضل عن المواطنة وبناء مؤسسات تصون المجتمع وتستوعب الكفآت، فقد وصلنا إلي هذا القاع، وأضحينا مجال تجارب لكل مبتدئ في السياسة يدير الأمور علي هواه وبطريقة الطفل المتمثلة في: الصح والخطأ، لا يلبث صاحبه أن يرحل ببلاغ عسكري، يحوله من “معبود للجماهير” إلي لص سارق، خلال ثوان معدودات، هي فترة بث البيان رقم واحد.
لذا لم يعرف بلدنا الاستمرارية ولم يرسخ تجربة إيجابية، فقط شهد التفعيل المستمر لظاهرة الانقلابات العسكرية المتلاحقة، التي منعت التنمية ودمرت المؤسسات وكرست القبلية والفئوية والمحسوبية والزبونية وتميز أداء “حكامنا” خلالها بمسح الطاولة، ف” كلما جاءت أمة لعنت أختها”، لذا تحول الشعب من غاية ووسيلة إلي أوركسترا ترقص ابتهاجا بكل من يبث البلاغ رقم واحد ولا يتوقف إلا لسماع البلاغ الجديد، فتكون الإنطلاقة مرة أخري مدوية والضجيج حاجبا لجميع الأصوات “النشاز” الأخرى والتي تضيع في الفضاء دون أن يسمع بوجودها أصلا.
فكل شىء في هذا البلد، يمثل اليوم تهديدا استراتيجيا، فالوافد يمكنه أن يحصل بسهولة علي الجنسية الموريتانية ويتبوأ أخطر المناصب وتزيد حظوته عندما لا يكون حصل عليها بطريقة شرعية وتم الحصول عليها بالتحايل أو بالشراء، وقد يندمج هذا الأجنبي في النقل الحضري قبل أن يتعرف علي معالم العاصمة- وما أكثر النماذج- كما أن هناك مقاطعات بالعاصمة أصبح المواطن يتحرج من الذهاب إليها نهارا، لأنها أضحت دولا داخل الدولة يعيش المواطنون القاطنون بها في عزلة شاملة، فأغلب الساكنة، هم من الأجانب، الذين تندس بينهم عصابات الجريمة المنظمة.
الأسلاك صارت حكرا علي أبناء منتسبيها: ابن العسكري للعسكر وابن الشرطي للشرطة ونفس الشيء بالنسبة للبقية واخشي ما أخشاه، هو: أن يصبح ابن الرئيس رئيسا وابن البرلماني برلمانيا،أما منصبي الوزير والسفير فهما وحدهما اللذان بقيا مشاعان ومفتوحان لكل من هب ودب، لا لشيء إلا لأنهما أصبحا بلا صلاحية وليس لهما أي دور في الحياة العامة، فالسفير يقدم أوراق اعتماده في هذا البلد، لأن ابن الرئيس رغب في الدراسة فيه أو لأنه مربح تجاريا، أما الوزير، فهو لخدمة الرئيس أو لجماعات النفوذ لا أكثر ولا أقل.
أما بالنسبة لهوية الدولة فلا وجود لأي اتفاق حول أي جانب من الجوانب الجوهرية: الأقلية تدعي أنها هي الأكثرية دون تدقيق أو نقاش أو حتى رد أو تقريع، فجميع المعضلات مؤجلة وتقدم بغير حقيقتها، أما الدستور فقد سطر لبلد آخر غير موريتانيا، لأن كل الممارسات الرسمية هي نقيض له، لذا تمت الاستعاضة عنه بالتعليمات وتحولت لبراغماتية إلي عقيدة سياسية للأنظمة المتعاقبة ول”النخبة”، ففقدت الأنظمة بوصلتها وأصبحت نسخا مكررة ومملة، أما المعارضة فليست بأحسن منها حالا، فلا هم لها، سوي الكرسي الرئاسي والمنصب الوزاري وعجزت حتي عن تصور بدائل نظرية لهذه التجربة المنتهية الصلاحية والتي لم تعد قابلة للاستمرار ولو لسنة واحدة، لذا لم تعد موريتانيا وجهة ترنوا إليها ساكنة فضائها الطبيعي، لأنها صارت هكذا ولكونها استعاضت عنها بمتطلبات الهجرة السرية، لأنها مجالا للسمسرة ومجلبة للمغانم الخاصة وليست قطعا العامة.
هل هذا هو الوطن الذي هللنا لظهوره وتباهينا بعلمه وزهونا بتاريخه وبأعلامه وتغنينا بنشيده الوطني؟
السكوت ليس بالضرورة من ذهب:
إذا أردنا أن نتخلي عن المبادئ ونقلد النموذج الراهن ونقيم الواقع من زاوية براغماتية- مادمنا أدركنا افتراضا استحالة أن تنجينا طريقة النعامة ولا جشع “غابون”- ألا يحق لنا في ظل الحراك العربي الراهن أن نبحث عن البدائل الممكنة؟ ما دامت الثورة الشعبية غير متاحة والإعتماد الساذج علي البيان رقم واحد أصبح متجاوزا، فكيف نقلل من المخاطر الداخلية والخارجية علي الوطن؟
نحن بحاجة إلي وقفة مع الذات متسلحة بقرون استشعار ثاقبة، منطلقة من جدية الموقف ومخاطر التهديد المتربص من كل الجهات وهو جهد لا يمكن أن يتم إلا من خلال الاعتماد علي الذات والإدراك العميق للمسار التنازلي الذي تترنح فيه القوي الغربية بشكل عام والدولة الفرنسية بشكل خاص، فلنغتنم هذه الفرصة ولنقف مع أنفسنا ولو مرة واحدة في التاريخ الحديث، حتي لا نصبح مجال تندر- مثلما كنا نفعل مع النعامة و”غابون”- أو نصبح مكبا للنفايات الجهوية ومجالا مثاليا لحل المشكلات الإقليمية وللمعضلات الدولية، فمن كانت أولوياته تتمثل في : جمع الدرهم والدينار ومن لا يري في موريتانيا، سوي بقرة حلوب، وامتياز له دون غيره ولا يهمه منها سوي مغنمه، دون أن يري فيها وطنا، فهؤلاء يجب أن لا ننتظر منهم خيرا.. فقط عقلاء البلد وأبناؤه المخلصون، هم وحدهم القادرون علي رسم ملا مح لآفاق الخروج من هذا النفق المظلم وهذه التهديدات الإستراتيجية التي أصبحت تنذر بواقع لن ينجوا منه العاقلون والمغفلون علي حد سواء، لذا فنحن اليوم في أشد الحاجة لنظرة استراتيجية تصون الوطن وتضمن أمن ساكنة هذه الديار، فهل أنتم منتهون؟