بدأ أنصار المعارضة في موريتانيا التجمهر في ساحات عديدة بالعاصمة نواكشوط، استعداداً لمسيرة ستنطلق من نقاط متعددة لتجوب العديد من الشوارع الرئيسية قبل أن تنتهي في « ساحة ابن عباس »، إنها المسيرة التي تكررت أكثر من مرة خلال السنوات الأخيرة رغم اختلاف شعاراتها من عام لآخر.
ما شهدته مدينة نواكشوط من مظاهرات معارضة للنظام خلال السنوات العشر الأخيرة، يفوق مجموع ما شهدته خلال العقود السابقة، الموالون يرون فيه مظهراً من مظاهر الديمقراطية والحرية التي وفرها هذا النظام، بينما يعتبرها المعارضون دليلاً على مستوى الرفض الشعبي لواحد من أسوأ أنظمة الحكم في تاريخ البلاد.
حمى الربيع العربي
من شعارات المطالبة أولاً بـ « إسقاط النظام العسكري » الذي تطور فيما بعد إلى « الرحيل »، وصولاً إلى شعار « المقاطعة » في وجه الانتخابات عامي 2013 و2014، ثم مسيرات رفض التعديلات الدستورية، واليوم ترفع المعارضة في مسيرتها شعار « الشفافية » وتحاول من خلالها منع تزوير الانتخابات الرئاسية التي تخوضها بأربعة مترشحين.
بدأت حمى المظاهرات والمسيرات المعارضة تجتاح موريتانيا منذ انقلاب 2008 تحت يافطة « الجبهة الوطنية للدفاع عن الديمقراطية »، وهي مظاهرات سابقة على موجة « الثورات » التي اجتاحت العالم العربي عام 2011، ولكنها سرعان ما تلاشت هذه المسيرات على أعتاب « اتفاق دكار » عام 2009.
عادت المعارضة الموريتانية للتظاهر بعد « الربيع العربي »، في مظاهرات قادتها حركات شبابية تصف نفسها بالمعارضة ولكنها تنفي أي طابع حزبي لها، مع أن أغلب رموزها ناشطون سياسيون معروفون في أحزابهم، اتخذت هذه الاحتجاجات من « ساحة بلوكات » مركزاً لها، إلا أن الأمن الموريتاني كان صارماً في مواجهتها، فكانت الكلمة الأخيرة للقبضة الأمنية، وانتهى المطاف بأغلب رموز الحراك الشبابي موالون للسلطة.
شعار الرحيل
مع نهاية الحراك الشبابي وفشله في هز أركان حكم ولد عبد العزيز، اضطرت أحزاب المعارضة للكشف عن وجهها، فخرجت في مسيرات « الرحيل » الشهيرة عام 2012، وهي مسيرات حطمت الأرقام القياسية في حجم المشاركين، ودشنت « ساحة ابن عباس » كمركز جديد لمعارضة الشارع، ولعل من أشهر هذه المسيرات تلك التي خرجت يوم 03 مايو 2012 تحت شعار « بشائر الحسم » وأعلن فيها قادة المعارضة أنهم سيعتصمون في قلب نواكشوط حتى « يرحل النظام »، إلا أن السلطة كان لها رأي آخر.
بدأ الاعتصام في المساء، وكانت الأجواء احتفالية أكثر منها نضالية، فلأول مرة تنجح المعارضة في الاعتصام تحت شعار « الرحيل »، وكانت الخطب الحماسية تشق سكون ليل نواكشوط، وبعض الشباب المتحمسين يتسلقون دار مسجد ابن عباس استعداداً لمواجهة الأمن المرابط غير بعيد من الساحة.
مع تباشير الفجر، وعند تمام الساعة الرابعة، قطعت الأجهزة الأمنية الكهرباء عن المنطقة، ثم اقتحمت الساحة مستخدمة خراطيم المياه وقنابل الغاز المسيل للدموع، كما استخدمت قنابل صوتية ساهمت بشكل كبير في تفريق مئات المعتصمين من أنصار المعارضة، أما قادتها فقد كانوا أكثر صموداً من الجمهور، إذ لم ينسحبوا إلا متأخرين، وبعضهم ظل مرابطاً حتى الصباح.
عادت المعارضة للاحتجاج بعد أسابيع، وكانت أشهر مسيراتها تلك التي خرجت يوم 18 يونيو 2012، تحت شعار « الرحيل » ولكنها ربطته هذه المرة بما سمته « إنهاء معاناة المواطنين »، وهي المسيرة التي شهدت احتكاكات قوية مع الأمن وقوات مكافحة الشغب، بعدها بأسبوع عادت المعارضة للتظاهر ولكن من دون أي صدامات مع الأمن، والشعار هو نفسه « الرحيل ».
المقاطعة بدل الرحيل
مع بداية عام 2013 كانت موريتانيا تستعد لتنظيم أول انتخابات تشريعية ومحلية منذ وصول الرئيس محمد ولد عبد العزيز إلى الحكم، إنها الانتخابات التي كانت المعارضة ترفض خوضها من دون تنظيم حوار وطني بضمانات، فوضعت « منسقية المعارضة الديمقراطية » خطة لتحريك الشارع عبر مسيرات تضمنت شعاراتها « الرحيل » و« محاكمة المفسدين » و« المقاطعة ».
في العاشر من شهر يناير 2013 نظمت منسيقية المعارضة مسيرة احتجاجية توجت بمهرجان شعبي في ساحة ابن عباس، رفعت هذه المسيرة شعار « الرحيل » ولكن ليس بنفس الحدة التي كانت عليها مسيرات 2012، لقد حضر هذه المرة الحديث عن شروط الدخول في حوار مع السلطة.
عادت المعارضة للتظاهر من جديد يوم 03 أبريل 2013، ولكن هذه المرة كان الحديث منصباً على الانتخابات التشريعية والمحلية التي ستنظم نهاية العام، فكل أكدت المعارضة أن هذه الانتخابات « من المستحيل أن تكون نزيهة وشفافة وحرة ومستقلة ».
مع اقتراب موعد الانتخابات بدأت الانشقاقات تظهر داخل « منسقية المعارضة الديمقراطية »، وقرر الإسلاميون المشاركة في هذه الانتخابات في خرق لاتفاقية موقعة بين أحزاب المنسقية، وانتهى عهد هذه المنسقية بعد ثلاث سنوات من العمل المعارض، ومع بداية 2014 أسست المعارضة « المنتدى الوطني للديمقراطية والوحدة »، وهو الائتلاف الذي كان قراره الأول مقاطعة الانتخابات الرئاسية 2014.
قبل أيام من موعد الانتخابات الرئاسية عادت المعارضة للشارع، في مسيرة وصفها القائمون عليها بأنها « غير مسبوقة » واعتبروها دليل على رفض الموريتانيين للرئيس ولد عبد العزيز وانتخاباته « المزورة »، على حد وصفهم،
التعديلات الدستورية
مرحلة سياسية جديدة دخلتها موريتانيا، بعد خطاب ولد عبد العزيز في النعمة يوم 03 من مايو 2016، وهو الخطاب الذي دعا فيه إلى تعديلات دستورية تلغي مجلس الشيوخ وتدخل « تحسينات » على العلم الوطني، وبدأت الحكومة حملة واسعة لشرح مضامين هذا الخطاب.
أربعة أيام فقط بعد الخطاب خرجت المعارضة في مسيرة رافضة لتعديل الدستور، ووصفته بأنه « تهديد لأمن واستقرار موريتانيا »، وفي نهاية شهر أكتوبر 2016 عادت مرة أخرى للتظاهر رافعة العلم الوطني ومعتبرة أن التعديلات الدستورية التي ينوي النظام القيام بها هي مقدمة للمساس بمواد الدستور المحصنة.
سقطت التعديلات الدستورية في مجلس الشيوخ، ولكنها مرت عبر استفتاء شعبي نظم وسط احتجاجات المعارضة التي دعت لمقاطعته، وتحولت المعركة من مطالبة المعارضة برحيل النظام إلى الوقوف في وجه ما سمته « المأمورية الثالثة »، كان ذلك هو شعار مسيرة 16 ديسمبر 2017.
مع اقتراب موعد الانتخابات التشريعية والمحلية والجهوية، لم ترفع المعارضة شعار « المقاطعة » كما وقع قبل خمس سنوات، لتكون بذلك هي أول انتخابات تخوضها المعارضة منذ انتخاب ولد عبد العزيز رئيساً عام 2009، نفس المشهد يتكرر اليوم استعداداً للرئاسيات، فالمعارضة تتظهر ليس من أجل « المقاطعة » وإنما لفرض ما تسميه « الشفافية ».