“التعريب” ظل واجهة الصراع لعقود.. قبل أن تدخل “الهوية” على الخط
نواكشوط ـ صحراء ميديا
تعيش مدينة كيهيدي منذ يوم أمس مواجهات عنيفة بين متظاهرين زنوج وقوات الأمن بعد جنوح المحتجين إلى العنف وإشعال النيران في مبنى قصر العدالة ومكتب الحالة المدنية والاعتداء على الممتلكات الخصوصية للمواطنين.
وتأتي هذه الاحتجاجات ذات الطابع العرقي لتطرح مجددا مسألة التعايش السلمي بين مختلف المكونات العرقية في موريتانيا، والتي ظلت أكبر التحديات التي تواجه الدولة الموريتانية مند نشأتها وحتى اليوم.
فغداة استقلال موريتانيا عام 1960 كان الصراع على ريع الدولة الوليدة المحرك الأساسي لبدايات الاحتكاكات التي حصلت بين الزنوج والعرب، وسرعان ما طفت على السطح “مشكلة اللغة” لتصبح واجهة التنافس المحتدم بين النخب المتهافتة على النفوذ والمناصب داخل أجهزة الدولة.
وإذا كان الإصلاح التعليمي في 1957 الذي حسن قليلا من وضعية اللغة العربية في التعليم برفع عدد ساعات تدريسها من 6 إلى 10 ساعات أسبوعيا لم يتسبب سوى في “موجة هادئة” من الاستياء في صفوف أوساط الزنوج. فان القانون رقم 026-65 المتعلق بتعريب التعليم اعتبره المثقفون والتلاميذ الزنوج “مؤامرة” تستهدف “اضطهادهم وإقصاءهم من أجهزة الدولة”.
ودخل التلاميذ الزنوج يوم 4 يناير 1966 في إضراب مفتوح عن الدراسة سعيا إلى إلغاء القرار الذي يفرض تعليم اللغة العربية في المستوى الثانوي، وبلغ التوتر العرقي ذروته يوم 9 فبراير1966 بحصول اشتباكات وصدامات ذات طابع عنصري خلفت 6 قتلي و70 جريحا.
ومؤازرة للتلاميذ الزنوج المضربين أصدر 19 موظفا من الزنوج بيانا شديد اللهجة يؤيد مطالب التلاميذ، واعتبار حركتهم الاحتجاجية “إيذانا بمرحلة جديدة ستتم خلالها إعادة النظر في أسس التعايش بين القوميات”.
وفي 2 فبراير 66 جاء “منشور البيظان” ليصب الزيت على النار منددا بالسياسة الرامية الي “إنشاء عرق أسود من العدم”، ومعتبرا بأن “القطيعة النهائية بين العرقين (العرب والزنوج) هي المرهم الوحيد لضمان المستقبل”.
في تلك الفترة وصلت موريتانيا إلى حافة حرب أهلية أشعلها التلاميذ المتحمسون لمطالب يؤمنون بقدسيتها، قبل أن تمتد إلأى الأحياء السكنية لتأخذ بعدا آخر حيث النهب والقتل.. يوم كامل من الفوضى العارمة غيب فيه العقل وسمح فيها الشعب الواحد لنفسه بأن يتقاتل فيما بينه قتال الأعداء.
ولجأت السلطة حينها إلى القمع وإلى اتخاذ بعض الإجراءات لتهدئة الأوضاع واستعادة النظام، وحين هدأت العواطف بقيت المشاكل كما هي دون حل جذري، ليبقي الجمر ملتهبا تحت الرماد في انتظار هبة ريح لن يطول انتظارها.
وظلت موريتانيا تترنح على فوهة بركان، فكان عليها أن تعيش أحداث فبراير 66 العرقية أكثر من مرة، وأن تحمل معها جراح تلك الأحداث وتتعايش مع ألامها وكوابيسها من دون العمل على حل المشكلة من جذورها.
وفي ابريل 1986 أصدرت حركة تحرير الأفارقة الموريتانيين “افلام”، المتطرفة، وثيقة تحت عنوان “صرخة الزنجي الموريتاني المضطهد”، لافتة فيها النظر بقوة إلى “وجود مشكلة حقيقية في التعايش بين المجموعتين العربية والزنجية”.
وطيلة شهري سبتمبر وأكتوبر 1986 عرفت مدن نواكشوط، نواذيبو وكيهيدي احتجاجات مكثفة بتأطير من قيادات زنجية، و تميزت بالعنف الموجه ليس ضد المصالح العمومية فحسب بل ضد المواطنين المدنيين من العرب وممتلكاتهم، وأدت تلك الإحتجاجات الي إحراق عدد من سيارات الموظفين ومحطة للبنزين وسوق ومصنع.
واعتقلت السلطات 30 من قيادات حركة “افلام” من أبرزهم المؤرخ واللغوي با عمر، والوزير السابق ديغو تبسيرو ولي مامادو، الكاتب تن يوسف غي والصحفي أمادو مختار صار، وتمت محاكمتهم بسرعة بتهم “جر البلاد إلى حرب أهلية”، وصدرت على 27 منهم أحكاما بالسجن تراوحت بين 6 أشهر و5 سنوات.
وفي صبيحة 22 أكتوبر 1987 بدأ نظام الرئيس الأسبق معاوية ولد الطايع حملة اعتقالات واسعة في صفوف العسكريين الزنوج وهو نفس اليوم الذي حددوه لتنفيذ انقلاب عسكري ذى طابع عرقي، وطالت الاعتقالات وزير الداخلية السابق العقيد أن أمادو بابالي، واتهم النظام العسكريين الزنوج بكونهم “الجناح العسكري” لحركة “افلام” وبأنهم كانوا يسعون لإقامة دولة “الوالو والو” وارتكاب “مجازر” ضد السكان من ذوي الأصول العربية.
وجاءت الأحداث العرقية الدامية بين موريتانيا والسينغال عام 1989 لتعكر من جديد صفو التعايش بين المجموعتين العربية والزنجية، واتهم ولد الطايع العسكريين الزنوج بالتخطيط لانقلاب عسكري ضد نظامه، وتمت تصفية العشرات منهم و ترحيل المئات إلى السنغال باعتبارهم مواطنين غير موريتانيين.
وفي العام الماضي 2010 عادت إلى الواجهة مسألة “التعريب” كواجهة للصراع العرقي في موريتانيا، فعلى إثر تصريحات منسوبة لوزيرة الثقافة والوزير الأول بتعريب الإدارة واعتماد العربية لغة رسمية وحيدة للدولة، خرج الطلاب الزنوج في جامعة نواكشوط في تظاهرة احتجاجية واشتبكوا مع الطلاب العرب، مما اضطر السلطات إلى تعليق الدراسة في جامعة نواكشوط قبل أن ينفي وزير التعليم العالي من داخل الجامعة نية الدولة تعريب الإدارة.
كما شهدت ساحة نواكشوط، أواخر العام الدراسي المنصرم، مواجهات وصفت بالعرقية بين طلبة زنوج وعرب، على خلفية انتخابات تجديد مناديب الكليات، ألغيت على إثرها نتائج الاقتراع.