محمد بده عبد الباقي
كاتب موريتاني مقيم بالدوحة ـ قطر
إذا كان حق التظاهر بالطرق السلمية حقا مشروعا يكفله الدستور وركيزة أساسية من ركائز الدولة المدنية، فإن الاعتداء على الممتلكات العامة والخاصة وإشاعة الفساد هي أعمال يجرمها القانون، ويرفضها الجميع بغض النظر عن من يقف وراءها، وما حدث الأسبوع الماضي من أعمال عنف رافقت مظاهرات الزنوج المعارضين للإحصاء ذو الطابع العنصري ـ حسب زعمهم ـ هو سوء استخدام لهذا الحق وانحراف واضح عن الطريق الصحيح، فهذه المظاهرات وإن كانت تلقائية في مظهرها، محقة في مطالبها، قد خرجت عن جادة الطريق لتفوح منها رائحة العنصرية البغيضة ذات المرجعية الأجنبية.
فتكسير المتاجر والعبث بالممتلكات العامة والخاصة والتحرش بالمارة وغيرها من أعمال البلطجية المحلية (الأجناك) هو مظهر من مظاهر التسيب وغياب هيبة الدولة، قد يفضي إلى ما لا تحمد عقباه، فالمواطن العادي سيجد نفسه مضطرا لحماية نفسه وممتلكاته متى ما استشعر ضعف الدولة أو تقاعسها عن توفير الأمن والحماية له.
إن أحداث كيهيدي ومقامة وما رافقها من توتر على مدى أيام، قد كشف اختلالات جوهرية في طريقة تعاطي النخب المحلية مع الأحداث وأظهر غيابا كاملا لأي تأثير لها على عمقها الانتخابي، فالقواعد الشعبية قد تجاوزت القيادات التقليدية ذات الوزن الانتخابي الثقيل، فلم يستطع السادة الشيوخ والنواب والعمد لجم المتظاهرين ولا حتى الجلوس معهم لمعرفة مطالبهم الحقيقية ونقلها للجهات الوصية.
وإذا كان البعض يرى في إزاحة القيادات التقليدية تطورا إيجابيا وفهما دقيقا لمتطلبات المرحلة الراهنة ومراجعة للعلاقة بين الناخب والمنتخب، فإن البعض الآخر يرى أن غياب تلك الشخصيات وخروجها من المشهد السياسي يفتح الباب واسعا أمام تطورات خطيرة تهدد الوحدة الوطنية في الصميم، فتعقيدات التنوع العرقي وتداعيات السنين العجاف وضبابية الرؤية السياسية، والمعالجة الخجولة لقضايا حساسة كالرق، ومطالب الزنوج المتعلقة بالهوية الوطنية شكل بيئة خصبة استقطبت مستثمرين في مجال الفساد من دول مجاورة، منهم من شارك في الأعمال الميدانية للمظاهرات ومنهم من ينتظر.
فظهور علم دولة مجاورة في جانب من المظاهرات، وتمزيق العلم الوطني في جانب آخر يستحيل في حق من ولد على أديم هذه الأرض الطيبة، وإذا كانت الوقائع تثبت بما لا يدع مجالا للشك وجود أيادي خفية تحرك هذه المظاهرات أو على الأقل تحاول حرفها عن مسارها الصحيح، فإن اعتقال مواطنين أجانب في طليعة فيالق التخريب يضع الولاء الوطني للمشاركين في هذه المظاهرات في قفص الاتهام إلى أن تثبت براءته.
إن دخول من تدعي أنها منظمة حقوقية سنغالية على الخط ومطالبتها بتحقيق في أحداث مقامه يثير أسئلة كثيرة وشكوكا حول فرضية التآمر الخارجي ووطنية المشاركين في هذه الأعمال التخريبية وبالأخص من يردد شعارات معادية للوطن ويحمل أعلام أجنبية، وإذا كانت هذه المنظمة لا تجد حرجا في استخدام عبارات النفاق السياسي الخبيث والوقاحة الدبلوماسية النادرة، فأين هي من أحداث إقليم كازاماس؟ والأقليات المضطهدة في السنغال (كالفلان) وغيرهم؟
(إذا كان الغراب دليل قوم *** يمر بهم على جيف الكلاب)
إن التجانس في اللون وغياب حاجز اللغة في مناطق التماس الحدودي يجعل من الصعوبة بمكان تمييز المواطن من غيره، وهذا ما أشعل نار الطمع في نفوس بعض الأجانب فانخرطوا بكل حماس في هذه النشاطات التخريبية أملا في حصولهم على الجنسية الموريتانية التي تعتبر بالنسبة لهم الخطوة الأولى على طريق العبور للضفة الثانية للمحيط، وما زاد الأمر تعقيدا هو ما شهدته السنوات الماضية من توزيع مجاني للأوراق الثبوتية لمن يستحق ولمن لا يستحق على أيدي سماسرة كرام يبيعون البشر والحجر لكل من هب ودب وبأبخس الأثمان، فهل سيتمكن القائمون على هذا الإحصاء من تقويم سلوك هؤلاء السماسرة الشرفاء؟