بصفتي مراقبا سياسيا و مهتما بالشأن العام، بصفتي شاهد عيان و مشارك في عملية الحوار الوطني، أملى علي ضميري أن أدلي بشهادتي و لا أكتمها “و لا تكتموا الشهادة و من يكتمها فإنه آثم قلبه”. فأقول و بالله التوفيق:(( الأرواح جنود مجندة فما تعارف منها ائتلف و ما تناكر منها اختلف )) حديث شريف قال الخطابي بصدده إنه إشارة إلى معنى التشاكل في الخير و الشر و الصلاح و الفساد.
فالأرواح الطيبة تتآلف على الخير و الصلاح و الأرواح الخبيثة تتآلف على ما هو ضد لذلك. حديث وجدت مناسبا إسقاطه على واقع بلدنا الذي طالما تناكرت فيه الأرواح و تنافرت و اختلفت و تدابرت. و ها هي اليوم بفضل من الله وتوفيق منه و بعد ردح طويل من الزمن الضائع تتآلف القلوب و الأرواح أعني قلوب و أرواح الأغلبية و ما شاء الله من المعارضة ـ رغم اختلاف المواقف وزوايا النظر وتنوع فسيفساء التكوين ـ لأنهم اتفقوا على أن يجعلوا من تحقيق المصلحة الوطنية عربونا للتعارف وهدفا للانطلاق ولبنة لتأسيس مستقبل واعد لبلدنا.
نجح الحوار الوطني الموريتاني الأول من نوعه في تاريخ بلدنا. نعم؛ على الرغم من وجود المثبطين والمشككين و المستهترين نجح الحوار الوطني بجهود الخيرين المؤمنين بالوطن المتجاوزين للأغراض الذاتية والمصالح الأنانية و الاعتبارات الفئوية التي طالما تحطمت على صخرتها الصماء كل المحولات التحاورية، فالتقت إرادة الإصلاح لدى الأغلبية والمعارضة الناصحة الناضجة فجاء توفيق الله جزاء وفاقا لحسن النوايا و سلامة القصد وابتغاء الإصلاح مصداقا لقول الله تعالى: “إن يريدا إصلاحا يوفق الله بينهما”. و وعده تعالى: “إن يعلم الله في قلوبكم خيرا يؤتكم خيرا”. سيبقى التاسع عشر أكتوبر 2011، اليوم الذي سجل فيه الموريتانيون سابقة في تاريخهم بتتويج الحوار النموذجي باتفاق سياسي بين الأغلبية الرئاسية وأحزاب المعارضة.
لا أريد هنا بحث المكانة الإقليمية والدولية التي نجح الرئيس محمد ولد عبد العزيز في وضع موريتانيا فيها، فغني عن القول إن مبعوثي الروس والناتو والصين وفرنسا والاتحاد الأوربي جاءوا إلى نواكشوط لتثمين الدور الموريتاني، كما أن رئاسة مجلس السلم في الاتحاد الإفريقي، وفاعليتنا في التجمعات الإقليمية والدولية، ودور الجيش الموريتاني كأول جيش في دول الساحل يتجرأ ويحقق نجاحات باهرة في أول عمليات خارجية ضد القاعدة في منطقة الساحل، وهو الذي كان قبل الرئيس محمد ولد عبد العزيز لا يملك عود ثقاب لإشعال سيجارة، والنجاح الباهر في وقف الهجرة وتهريب المخدرات نحو أوروبا، ومليارات التمويل التي دفعها لنا الشركاء مع استعدادهم للمزيد والمزيد… كل ذلك لا يحتاج للشرح، ولم يعرض للضغط على شركاء الحوار، ولم يسوق للشارع الموريتاني كمنة، لأنه جزء من الالتزام باستعادة الروح لهذا البلد، وتحيين ذاته الحضارية التي تستحق أن تحتل بجدارة مكانتها الإستراتيجية.19 أكتوبر.. تاريخية هذا الحدث تستمد أهميتها من عدة نقاط، لعل من أبرزها أن هذا أول حوار وطني من نوعه في موريتانيا يجري بين نظام منتخب ومعارضته، دون وسيط من طرف خارجي، لا في دكار ولا في غير دكار..
حوار غير مشروط دون ضغوط، ودون محظور و لا محاذير، دون خطوط حمراء و لا “مزايدات”.بل لعله أول حوار جدي يضع أسسا سياسية وقانونية ودستورية لتحديث النظام السياسي والتنموي في البلاد، وهو ما لم نشاهد له مثيلا في طاولاتنا الحوارية السابقة التي اقتصرت على”حوارات المراحل الانتقالية” المجزوءة والمضغوطة بعاملي التوقيت و السلط الاستثنائية.
لا أريد هنا كذلك أن أعلق على نتائج هذا الحوار في محصلاته الفنية، لأن تلك النتائج تتحدث عن نفسها في الوثيقة الموقعة بين طرفي الحوار، و العابقة بشتى الإصلاحات، التي تمس أدوار: المؤسسة التنفيذية والتشريعية والرقابية، مؤسسة رئاسة الوزراء، الجيش، الأحزاب، البرلمان، الإعلام، الحكم الرشيد، المرأة، العبودية، حقوق الإنسان، الوحدة الوطنية، المنظومة الانتخابية، الإرهاب،.. وكثير مما تعدون.
فهذه العناوين الكبيرة الواردة في الاتفاق تدل على أنه حوار اخترق الخطوط الحمراء، وتجاوز السقوف الأفقية والعمودية نحو المصالح الجوهرية لموريتانيا المستقبل.. الشيء الذي يعني أن الأطراف المشاركة أسست لمرحلة موريتانيا ما بعد المتحاورين، وهذه ظاهرة نادرا ما تصيب النخب السياسية في العالم الثالث، حيث تعود المتابعون أن يتفرجوا على مسلسلات حوارية طويلة تنتهي بتوزيع الغنائم والمناصب والكعكات المحلاة، في حين لا يقطف الوطن والمواطن سوى المسميات من مخلفات الميراث الحواري.. وهذا ما تجاوزه الحوار الوطني بنتائجه وسياق نتائجه.هنا يمكننا التوقف عند النتائج التي قد لا تكون مرئية للكثيرين، رغم سطوعها المشع.أولا، في الإطار العام، جرى الحوار الوطني في سياق إقليمي ودولي تطبعه الثورات العربية التي استنسخت عالميا أيضا في حركة “احتلوا وول ستريت” التي امتدت لأكثر من ألف مدينة في العالم.إن موريتانيا تجاوزت محيطها العربي ديمقراطيا منذ ست سنوات عندما أرسلت آخر ديكتاتور “محلي” إلى حيث يجب، وأقامت نظاما ديمقراطيا نموذجيا بشهادة الجميع، ثم أحالت النظام الذي لم يستوعب المرحلة إلى الاستقالة سنة 2008، لتصحيح المسار الديمقراطي والتنموي، ولتخرج من انتخابات نموذجية بشهادة العالم أيضا.إن موريتانيا هي الدولة العربية الوحيدة المحكومة بنظام منتخب، ومعترف بشرعيته من جميع ألوان الطيف السياسي والمدني، بما في ذلك ما يعرف بمتشددي المعارضة الذين لا يشككون في شرعية النظام، في الوقت الذي لا تزال ثورات الربيع العربي متوقفة عند محاولات التغيير، أو لجأت إلى بقايا الأنظمة السابقة لتمرير مراحلها الانتقالية، كما هو الحال في مصر المحكومة بمؤسسة عسكرية، وتونس المحكومة بوزير الداخلية السابق في نظام بن علي.موريتانيا هذه تبادر إلى الحوار الوطني لترقية التجربة السياسية و التشاركية في البلاد، مستفيدة من عاملين: أولهما محاولة تجاوز الخطأ الذي وقعت فيه الأنظمة المنتخبة السالفة التي انغلقت عن اللجوء للحوار كوسيلة وحيدة لتحيين الديمقراطية.
أما العامل الثاني فهو تصحيح أي اختلال في تجربة لا يمكن منطقيا أن تبلغ النضج المطلوب بلمسة من ساحر، وفي ظرف زمني لم يبلغ حدود العقد الديمقراطي الأول.تأخر “حوار ولد الطايع” ثمانية عشر سنة، حتى فات الوقت المناسب، وتحول إلى مسمار في نعش النظام، وقابل نظام ولد الشيخ عبد الله مطالب الإصلاح المبكرة بمحاولات ضرب المؤسسات الوطنية (الجيش، البرلمان…).. وكان خطأ بداية من هذا النوع كافيا لعدم المغامرة بتجريب “نظام اختلالات” آخر.ثانيا، تتجاوز موريتانيا بهذا الحوار مرحلة ما بعد الانتخابات التي تقترب منها تونس ومصر، وذلك بالاعتراف الشجاع بأن العملية الانتخابية لا تمثل كل العملية الديمقراطية، ومن هنا فإن الحوار شرعية إضافية، وتأمين مضمون، وإعادة ثقة في القوى السياسية الوطنية المعارضة، وإشراك حقيقي لها في إدارة الشأن العام عبر تنفيذ تصوراتها مما يثري البرنامج الانتخابي للرئيس الفائز، ويوسع رؤية الإصلاح التي توضع هذه المرة خارج سياق الحملات الانتخابية وضغط صناديق الاقتراع.النقطة الأخرى التي لا تقل أهمية، أن هذا الحوار جاء بعد فشل قوى المعارضة الموريتانية في استنساخ ثورات الشارع العربي، رغم المحاولات التي بذلت، والدبلجة” المحكمة للأسماء والأماكن والهواجس والتصورات، والحملات المغرضة لتمرير تلك التمثيلية الفاشلة، والتي لم تقنع شارعا موريتانيا عاد لتوه من صناديق الاقتراع الشفافة.
ومن هنا فإن جلوس الرئيس محمد ولد عبد العزيز إلى طاولة الحوار لا يأتي تحت ضغط شارع داخلي، مطالب بالتنازل أو الاستقالة، كما هو الحال في بلدان أخرى، بل إن الشارع الموريتاني هو الذي أفشل محاولات الاستنساخ عندما رفض النزول للشارع، وظل متمسكا بنظامه الوطني المنتخب.عند هذه اللحظة التي فشل فيها الخصوم السياسيون في تغيير مجرى النهر الشعبي الذي اختار نظامه في 18 يوليو 2009، بادر الرئيس إلى طاولة الحوار دون شرط ودون قيد، ووضع مصير نظامه رهن الحوار الحر، فكان ذلك التعالي على الشخصنة هو ملهم النتائج التي توصل إليها الشركاء الوطنيون في هذا الحوار الميمون الذي أحس المشاركون فيه أن المصلحة الوطنية العليا هي محدده ومحفزه.
باختصار الرئيس يجلس إلى طاولة الحوار في ذروة قوته السياسية، فهو النظام العربي الوحيد الآمن من ثورة شعبية، لأنه نتيجة الثورة والتغيير والانتخاب، الرئيس المنجز لوعوده، الملتزم بحذافير وطنيته، المنصت للرأي الآخر، المندفع نحو الاستفادة من طاقات المؤسسة السياسية بكل أطيافها دون تمييز ودون وجل مما قد تطلب أو تقترح تلك المؤسسة التي يخشى الكثيرون السقوط في جوانبها الايجابية، ما يحرمهم من استغلال طاقتها الإبداعية في تأصيل الاستقرار، وتحفيز العامل التنموي.أما النقطة التي لا تقل أهمية، فهي أن نتائج الحوار قلبت كل الدعايات المغرضة على أعقابها، تلك الدعايات التي روجت لاستحالة تنازل الرئيس في هذه النقطة أو تلك، ليكشف الحوار عن الجوهر النفيس لتفكير الرئيس ولد عبد العزيز الذي قدم تنازلات كبيرة لمصلحة البلاد وتطوير مؤسستها السياسية والتشريعية، مؤكدا مرة أخرى أنه رجل وطني يؤدي دوره التاريخي، وينشد مصلحة بلده وشعبه بكل استعداد للتضحية، إنها ميزة التضحية التي دفعته أكثر من مرة لوضع روحه على كفه عندما أرسل نظم: القبضة الحديدية، والبطاقة البيضاء، وغيرها، إلى حيث يجب أن تكون.نقطة أخرى يجب عدم إغفالها، وهي أن نتائج الحوار لم تترك للمساومين فرصا كثيرة للبقاء والمساومة في سوق القلاقل، فرئاسة الحكومة أصبحت خاضعة للبرلمان المنتخب، يقيلها أو يزكيها، اللجنة المستقلة للانتخابات تتحكم في المسار الانتخابي من بدايته إلى نهايته، السياسة محرمة على الجيش، الأحزاب ممولة ومدعومة الدور، والتشرذم السياسي (الترحال والترشح المستقل) انتهى إلى غير رجعة، مع إعادة تشكيل المجلس الدستوري، والسلطة العليا للإعلام لتكون تشاركية مضمونة الحياد.إن “الحوار الوطني” الذي انتهى إلى ثورة أفكار وإجراءات إصلاحية جريئة، وغير مسبوقة في تاريخ البلاد، إن كان يدل على شيء، فهو أن الرئيس محمد ولد عبد العزيز رجل حوار بامتياز، مستعد للحوار اليوم، وغدا، وبعد غدا، إنه رجل استوعب الأهداف العليا لمسؤولية الحكم وتسييره، وأول تلك الأهداف أنه يضع نفسه رهن أي إجماع وطني.لا أريد في هذه العجالة انتقاد أحد انحاز لخويصة نفسه عن وطنه، فوقت ذلك قد يحين.لكنني أشدد على أن نتائج الحوار الوطني، هي قوة إضافية للحالة العامة التي تزداد تحسنا في البلد، منذ ثورة التغيير، وثورة الحوار، فليعمل الجميع على الاستفادة من ثمرتها المباركة إن شاء الله، أما من يصر على أن يسيّج بيته بالريح فلا يلومن إلا نفسه حين يجد رأسه بلا سقف.