إنها أحداث مشينة ومسيئة ومرفوضة وغير لائقة، يجب أن يقرأ كل الموريتانيين مابين سطورها من إيحاءات واضحة بأن هناك – من داخل معسكر السلطة وحتى بين صفوف الشباب المتذمر والمحتج – من يريد أن يكسر القدح الذي نشرب منه جميعا في لحظات غضب نرجسي لا أثر فيه للعقل والحكمة.
لقد كان حريا برئيس الجمهورية السيد محمد ولد عبد العزيز باعتباره رئيسا منتخبا، قال مرات عديدة إنه رئيس لكل الموريتانيين، ولم يتناقض عندما خصص الفقراء، فكل الموريتانيين فقراء غالبيتهم تحت خط الفقر و1000منهم فوقه، و الذي أثبتت التجربة أنه وحده من يتحكم فينا ب”الريموت كونترول”- إذ لا وجود لحكومة أو إدارة حقيقية نافذة بمقدورها التصرف دون الرجوع إليه – أن يترك للشباب حرية التظاهر، وأن يؤمنهم بدل أن يرعبهم، وأن لا يستمع للمنافقين والمفسدين في بطانة السوء من حوله، فهي نفسها البطانة التي برهنت أحداث تونس ومصر وليبيا أنها تكثر طمعا وتقل فزعا، ولا يمكن التعويل عليها أبدا للبقاء في الحكم، وإلا فأين “بن علي” و”مبارك” و “ولد الطايع”، وأين منافقوهم وحلفاؤهم الذين اجتمعوا من حولهم ترغيبا وترهيبا؟!
كان على رئيس الجمهورية أن يبادر بنفسه- وبعيدا عن غلمانه وخدمه وحشمه – باتخاذ إجراءات عاجلة لتسوية مظالم الناس والمطالب العادلة للشباب الذين من بينهم – ومهما قيل عنهم- شباب موريتانيون وطنيون، ذاقوا مرارة الظلم، وشربوا الحياة في وطنهم ظلما وتهميشا وبطالة وبؤسا وإحباطا وعطشا وتكميما وتجويعا وإقصاء..كان عليه أن يأمر رجال الأعمال والتجار بخفض حقيقي للأسعار يتجاوز مسرحية 600 دكان سيئة السبك والحبك والإخراج..وأن يحل مشاكل البطالة والعطش والحرمان..أن يستمع لصرخات الجوعى والمرضى والعمال البائسين.
كان على الرئيس أن يقطع طريق التظاهر والاحتجاجات ليس ب”سياسة نعامة” تواجه العاصفة، ولكن بالإقدام على خطوات شجاعة وميدانية لإنقاذ شعبه من الموت عطشا وجوعا ومرضا، وإنقاذ شبابه من البطالة والكبت والحرمان..كان عليه أن يلتفت نحو “آدوابة” و”لكصور” و”الفركان” الموريتانية التي تضج فقط بالعظام النخرة التي تنتظر الموت في أية لحظة مرضا وقهرا وجوعا وبردا وفاقة وعطشا وعزلة !!
كان على الرئيس أن يخفف الاحتقان، وأن يخرج إلى الناس قبل أن يخرجوا عليه..وأن يدرك أن الظلم بلغ سيله الزبى ولم يعد يطاق، فهل يعقل أن تحتفظ قبيلة أو مجموعة أو فئة واحدة بأكثر من 150منصبا حكوميا وإداريا، مع هيمنتها على الأرزاق والأعناق في بلد قبلي التكوين الاجتماعي، يضج بالمعاناة والبطالة، ومع وجود آلاف الكوادر المتعلمة التي بدأت تستشعر أنها مستهدفة ومقصية؟!
هل يعقل أن يسقط ولد الطايع ليعاد استنساخ تجربته في الحكم وهي تجربة كرست القبلية والجهوية والطائفية والمحسوبية؟!
هل يمكن أن نحارب الفساد بجيش من المفسدين، وأن نقرب لصا لأنه دعمنا، ونقصي مواطنا شريفا محترما كفاءته مشهودة لأنه خالفنا الرأي؟!
هل من المقبول أن يترك رئيس منتخب، يدعى الانحياز إلى الفقراء عمال قطاع الصحة في بلده يذهبون إلى إضراب بإمكانه تطويقه ومحاصرته بمجرد تنفيذ تعهداته التي قطعها على نفسه أمام عمال ، وفى مقدمتها صرف علاوة “خطر المهنة” وتعميمها عليهم، خاصة وأن الحكومة- التي تأتمر بأمره- قالت أمام البرلمان – على لسان الوزراء المعنيين بالملف- إن تلك العلاوة – التي يعتبر عدم صرفها من أبرز وأهم منابع دعوة منسقية نقابات قطاع الصحة لإضراب7 إبريل القادم- جاهزة ومبوب عليها في ميزانية هذه السنة؟! هل من المنطقي أن نجند شعراءنا وكتابنا وفنانينا لاستفزاز شباب يرفعون مطالب هي أقل شيء يستحقونه على وطنهم في مشهد مخجل بدأ مخجلا وانتهى بفضيحة؟!
هل يعقل أن تتمركز القرارات كلها والمصائر و”الصوائر” كلها في يد شخص واحد في بلد يقال إنه ديمقراطي؟!
هل يعقل أن تعامل قوات الأمن مواطنيها بتلك الهمجية لدرجة أن تحلق رؤوسهم حلاقة بشعة وغير لائقة (لو ملك الشباب المتذمرون ثمنا لحلاقة محترمة لما تظاهروا في الشوارع والساحات).. ألم يكن مناسبا للشرطة – على الأقل- أن تتطوع بحلاقة رؤوس الشباب بطريفة مسؤولة ومحترمة و”غير يابسة” ليحسب ذلك في ميزان حسناتها الفارغ في عيون عامة الناس؟!
هل من المقبول أن تعامل قوات الأمن الشباب المحتج بالأسلحة المطاطية ومسيلات الدموع، وهي التي تدرك قبل غيرها أنه ليست للشباب دموع يمكن استدرارها لأنه يصدق عليهم القول بأن “الإنسان هو المخلوق الوحيد الذي يولد باكيا ويموت شاكيا” (في حالة الشباب الموريتانيين فإنه يعيش باكيا كذلك)!!
أما “شباب الثورة” أو “بلوكات” أو “التغيير” أو “25 فبراير” أو “فيس بوك”- سمهم ما شئت وكيف شئت- فقد كان عليهم قطع الطريق- ومنذ البداية- على “البلطجية” والمندسين وقطاع الطرق، بغض النظر عن الجهة التي ترسلهم وتدفع بهم إلى الصفوف..علينا أن نذكر أن من بين حملة شعارات الاعتصام ومردديها عبر مكبرات الصوت رجال أمن وعسس، وشباب مأخوذون بما تبثه الفضائيات من أحداث عنف عالمية،وباحثون عن تأشرة للخروج من البلد يتطلب الحصول عليها – عادة – صورا “ساكنة أو متحركة” لجرح نازف، أو آثار تعذيب، أو اضطهاد ديني أو جنسي، أو تلقى إهانة لفظية تحمل تعريضا أو مساسا ماديا أو معنويا ب”حقوق الإنسان” ،ووكلاء لشخصيات سياسية واقتصادية وقبلية وفئوية و”جمعوية” محلية نافذة ومعروفة..!!
كان عليهم نشر لائحة بأسمائهم وتوقيعاتهم على شكل عريضة إصلاح، لن يتردد أي موريتاني في التوقيع عليها بالاسم والهاتف، وحتى الصورة (وأبدأ بنفسي فسأوقعها بدون تردد مادامت قانونية مشروعة واضحة لا عنف فيها ولا إفراط ولا تفريط ولا تفرقة ولا مساس بأمن الجمهورية الإسلامية الموريتانية ووحدتها الترابية ومواطنيها والمقيمين على أراضيها ولا غلو ولا مزايدة من أي نوع) ففي موريتانيا كل المعلومات عن الشخص متاحة، وليست بحاجة لجهاز أمن أو استخبارات لتوثيقها، فكل فرد عندنا معروف بالصوت والصورة، فالأمن يحسب حتى “الشهيق” و”الزفير”!!، ولا مجال للاعتقاد بأن أيا منا في مأمن من أن تكون معلوماته الشخصية – وبأدق تفاصيلها- معروفة لدى الآخرين..فما لم يجمعه الأمن من معلومات شخصية عنك وعنى وعنه وعنها تجمعه الصحافة، وما لم تجمعه الصحافة يجمعه السائقون والباعة وشيوخ الطرق والقبائل والمعلمون والأساتذة والأطباء، وما لم يجمعه كل هؤلاء يتطوع عامة الناس بإعطائه بأريحية لكل من هب ودب في جلسة شاي، أوفى السوق أو عبر اللقاءات الحميمية الدافئة ليلا أو نهارا.
ليس مقبولا من الشباب أن يترك صفوفه نهبا للفوضى بتلك الطريقة، فلو أن الشباب انتظم في منسقية معروفة “بالأسماء والعناوين وجدولة النشاطات” ومعتبرة ومحترمة لاستطاع عزل الدخلاء والمندسين، وإفشال مخططاتهم التي ربما أرسلوا لتنفيذها خدمة لجهات أمنية أو سياسية أو حتى قبلية اجتماعية، على أن من بينهم – بالقطع- لصوصا سابقين ولاحقين قذف بهم الشارع بعفوية لممارسة هوايات النهب والسطو المسلح والترويع (سألني أحد الشباب المحتجين فى ساحة المواجهة عن المنسقية ولجنة التنظيم موضحا حاجته للحصول على رقم شخصي لأحد أعضاء المنسقية أو اللجنة لعرض بعض القضايا والملاحظات عليهم فلذت بصمت رهيب وقد أعياني الجواب لأنسحب بهدوء محرجا أمام شاب بدا ضائعا وحائرا وسط ثورة لا يعرف من يقودها ولا مخططاتها ولا مساراتها ولا خطواتها المقبلة وكأن لسان حاله يقول:”أين الذي فجر الثورات في فمه/أين الذي هدم الدنيا وما هدما”؟!)..قيل لي مساء الجمعة إن كتابا وسياسيين ونشطاء كان الشباب يعولون على دعمهم واندفاعهم – عند الانطلاقة- اختفوا فجأة، وربما على طريقة “الفرنسي” الذي كان يقول لجموع الثوار الفرنسيين – منتبذا صفا خلفيا قصيا- : “موتوا من أجل فرنسا”.. وعندما سألوه: “وأنت ما الذي ستفعله من أجل فرنسا؟” قال: “سأتطوع بدفن الموتى”! ..أين ذهبوا..فحتى الدفن لم يتطوعوا به؟!
وبالنسبة للنخبة السياسية الوطنية فقد كان عليها أن تكون صريحة وواضحة في مواقفها المتذبذبة، فهل من المنطقي أن تدفع أحزاب معارضة، وأخرى “برزخية” بشبابها إلى ساحات الاحتجاج سرا ثم تتبرأ علنيا من أية علاقة لها بما يحدث في تلك الساحات؟!وهل بقاء النخبة في قوقعها صمام أمان حقيقي للبلاد؟..ولماذا لا يمتلك السياسيون عندنا الشجاعة للقول صراحة دون نفاق أو خوف إنهم مع مطالب الشباب أو ضدها؟! وهل من المعقول أن تظهر أصوات مبحوحة من الأغلبية للتهجم على الشباب، ووصفهم بأوصاف غير لائقة (والقول – كذبا- بأن أوضاعنا تختلف عن أوضاع بقية البلدان العربية سياسيا واقتصاديا ) لمجرد أن لديهم مطالب مشروعة..كما فعل نائب عن إحدى مقاطعات البلاد خرج سكانها تذمرا وعطشا وغضبا من سوء الأحوال المعيشية عندما قال- بصفاقة ودون خجل- إنهم غوغائيون بلا مطالب وكأنه ليس ابن المقاطعة التي تعانى أزمة عطش حقيقية.
وقد كان على الصحافة الوطنية المستقلة – الصحافة الرسمية ليست معنية إلا بالاستقبالات والتوشيحات والمغادرات والتدشينات الحكومية- أن تكون على المستوى، لا أن تتعامل مع الأحداث بصب الزيت على النار وإمدادها برقيق الحطب، وتشنيع الأمور، والدفع نحو التصعيد، خدمة لأجندات القائمين عليها سياسيا واجتماعيا واقتصاديا. وللأمانة فإن علماءنا ودعاتنا وأئمتنا غائبون للأسف عن مشهدنا المحلي وكأن الدين لم يعد “نصيحة لله ولرسوله ولائمة المسلمين وعامتهم” لدرجة أن اهتمام بعضهم بأمور خارج حدودنا أصبح (نقولها بمرارة وأمرنا لله) يفوق اهتمامهم بما تشهده بلادنا من احتقان وتجاذبات هنا وهناك.!!
لقد أخطأنا جميعا – كل من موقعه وموقفه – في حق وطننا وعلينا الاعتراف بذلك..وكان علينا جميعا أن ندرك أن موريتانيا ليست محمد ولد عبد العزيز،ليست ملكا شخصيا له ولا لبطانته، وليست ملكا للمعارضة، ولا للأغلبية، ولا للعوان الذي بينهما، وأن حرق سيارة أو ضرب مواطن أو نهب متجر ليس حلا لمشاكلنا..فمن يريد إصلاح النظام عليه أن يصلح أولا النظام العام في الشارع بتثبيت الوقار والسكينة العامة..مشكلة الشباب هي مع رئيس من حقهم عليه أن يلتفت نحوهم وليست مع شرطي أو ضابط أو مواطن، أو ممتلكات عامة أو خاصة، أو رموز سيادية..النظام سيرحل اليوم أو غدا أو بعد غد لكن الوطن سيبقى، وهو المهم، وهو المشترك، وهو القيمة الجمعية لنا، ويجب أن يكون دون تفكيك وحدته، والمساس بأمنه وسيادته خرق القتاد.
لقد اغتسلنا مساء الجمعة بماء الفضيحة..نعم كانت فضيحة وطن بأكمله..وعلينا أن نتطهر بصدق من الذنوب المشتركة التي اقترفتاها- معا- في حق وطننا، وفى حق بعضنا..إن موريتانيا ملك لنا، وأمانة في أعناقنا ..وعلينا حمايتها والدفاع عن تماسكها ولحمتها، سواء كنا في النظام، أو بين المطالبين بإصلاحه أو رحيله، أو هنا في الأغلبية العريضة للصمت..تلك التي سئمت المهاترات السياسية والتجاذبات الأمنية، وجلست تحت “شجرة الزبير” تحلم بوطن آمن مستقر يتسع للجميع، ويوفر لهم الخبز والحرية والشمس والرحمة والسلام.