الإصلاح، نقيض الإفْساد، مفهوم شامل لتقويم الخلل والفساد في جميع جوانب الحياة، النفسية والمادية، الفردية والجماعية، بغرض إعادة الإنسان إلى مركزه الطبيعي في هذا الكون الذي تحمل فيه أمانة التكاليف الدينية والأدبية، و العدل في اللغة له دلالة مادية ودلالة معنوية، حسب السياق الذي يرد فيه، سواء باستعماله مصدراً أو وصفاً، أو في صيغ “الأفعال” المشتقة من المصدر. وقد فسر ابن منظور العدل بأنه ما قام في النفوس أنه مستقيم، وهو ضد الجور، والعدل هو الحكم بالحق، فيقال يقضي بالحق، أي يعدل، والعدالة كذلك تعني الاستقامة والحكم بالحق، كما تعني صفة الشخص المستقيم،الثابتة في نفسه ، والتي تحمله على ملازمة التقوى وعدم الميل مع الأهواء.
و قد ورد لفظ العدل في القرآن الكريم بمعان رئيسية ثلاث :
– التسوية في المقادير والقيم، وبين الأشخاص في الاعتبار، ومنه قوله تعالى : { ولا تتبع أهواء الذين كذبوا بآياتنا والذين لا يؤمنون بالآخرة وهو بربهم يعدلون }( سورة الأنعام، الآية 150).
– الإنصاف للمظلوم من ظالمه، وتمكين ذوي الحقوق من حقوقهم المغتصبة، ورد البغي عن المظلومين عند القضاء، ومنه قوله تعالـى : { فإن بغت أحداهما على الأخرى فقاتلوا التي تبغي حتى تفيء إلى أمر الله. فإن فاءت فأصلحوا بينهما بالعدل، وأقسطوا إن الله يحب المقسطين } ( سورة الحجرات، الآية 9).
– تحقيق التوازن الكفيل بانتظام الكائنات وحياتها، فلا يطغى بعضها على بعض، وبهذا المعنى نفهم قوله تعالى:{ وتمت كلمـات ربك صـدقاً وعـدلاً لا مبدل لكلماته } ( سورة الأنعام، الآية 115) ؛ أي تم إنزال القرآن على ما يقتضيه الصدق في الأخبار عن الواقع، أو على ما يقتضيه تدبير الكون بإجراء سننه على مبادئ التوازن والتكامل.
وقد كنى الله تعالى بالميزان عن هذا التوازن الكوني، فقال تعالى : { لقد أرسلنا رسلنا بالبينات وأنزلنا معهم الكتاب والميزان ليقوم الناس بالقسط }( سورة الحديد، الآية 25)، ولذلك اقترنت العدالة بالميزان باعتباره أفضل رمز لها، من حيث دلالته المحسوسة على التوازن بين المتقابلين أو المتخالفين، بل أطلق لفظ الميزان للدلالة على العدل من باب المجاز المرسل، فقال تعالى : { ونضع الموازين القسط ليوم القيامة } ( سورة الأنبياء، الآية 47)
إن هذا المعنى الأخير من المعاني الأساسية للعدل في القرآن هو المعنى المحوري الذي تفرعت عنه سائر المعاني الأخرى، ومنه نستنبط التصور الشمولي للعدل كنظام للكون، قائم على التوازن والانسجام. ، فالعدل حينما يرتبط بالحق بمعناه المصلحي ينصرف إلى مراعاة تمكين المظلومين من حقوقهم وجعلهم يمارسونها بحكم ما تقتضيه الحياة الاجتماعية من توازن ومساواة بين الناس. وهو ما يحتم على أي سلطة قضائية تمكين ذوي الحقوق من حقوقهم، طبقاً للأحكام الشرعية أو القوانين الوضعية.
غير أن العدل أو العدالة بهذا المفهوم المجرد غالبا ما يكون مختلفا عن الواقع اختلافا يكبر ويصغر حجمه من مجتمع لآخر ، بحسب مختلف البنى والأنساق الثقافية والاجتماعية السائدة فيه. وفي موريتانيا ظلت تلك الهوة بين مفهوم العدل وواقع العدالة في البلد تتسع شيئا فشيئا في شكل خط بياني دائم الارتفاع منذ الاستقلال حتى وقت قريب ، عندما باشرت الدولة لأول مرة تنفيذ سياسة إصلاحية جادة في مجال إصلاح العدالة بدأت تؤتي ثمارها مبكرا، على حداثة عهدها ، بسرعة فاجأت المهتمين ممن كان إصلاح القضاء بالنسبة لهم مجرد حلم بعيد المنال .
العدالة الغائبة..
يمكن لأي ملاحظ أو مراقب أمين أو محايد لواقع القضاء في موريتانيا منذ الاستقلال حتى يومنا هذا أن يلاحظ أن هنالك تحولا يحصل تدريجيا في القضاء الموريتاني بدأ سنة 2010 ، كما يمكنه أن يتوقع أن هذا المسار، إن كتب له الاستمرار، سيؤتي نتائج باهرة يمكن أن تشكل نقلة نوعية للعدالة خصوصا و للأمة الموريتانية عموما ، بعد أن
استحالت العدالة فيها ، خلال عقود ، حظوة اجتماعية أو اقتصادية ،أو جهوية …
فتحولت العدالة ، خلال الفترة المظلمة الممتدة من تاريخ استقلال البلاد حتى وقت قريب جدا ، إلى أداة قتل خارج القانون ، حيث تسببت بعض الأحكام “القضائية” من كثرة جورها في حالات انتحار عديدة (حالة المغفور له نجيب النبهاني ..)، كما نٌهبت باسم العدالة ممتلكات عمومية وخصوصية كثيرة، وهي حالات أكثر من أن تحصى أو تعد ( SMAR ، LIBD ،..) ، وباسم العدالة أيضا استبيحت أعراض وأنساب … و باسمها كذلك تم ترويع بعض المستثمرين من الأشقاء والأصدقاء حتى أصبحت أمنية الواحد منهم أن يهرب بجلده من انواذيبو أو انواكشوط قبل أي شيء آخر، بما ترتب عن ذلك من أضرار فادحة لحقت اقتصاد البلاد وسمعتها و استعدادها لجذب الاستثمارات….
و باسمها أيضا، أي العدالة، تحولت أروقة المحاكم و مكاتب القضاة والمحامين إلى أوكار تفوح منها رائحة الظلم و الدسائس و الاضطهاد والمتاجرة بحريات الناس وأرواحهم وأرزاقهم وأمن الأمة وأمانها…
كان طبيعيا جدا ، في مثل هذه الظروف ، أن يفقد “القاضي” عزة النفس وإباءها والأنفة والكرامة والترفع، فهانت عليه نفسه قبل أن تهون على غيره ، و كان طبيعيا أيضا أن يتحول المحامي من كونه ناطقا ومدافعا عن الحق والعدل إلى رائش بين موكله و بين القاضي، يحمل أكياس النقود ، و شياه الضأن والماعز، والبقر، والإبل ، و قناني الغاز، والثياب الجديدة والبالية… ، وغير ذلك مما خف أو ثقل وزنه وغلا أو قل ثمنه… ففقد عزته وكبرياءه وهان على الناس أيضا بعد أن استهان بنفسه ودوره و مكانته ….، استأسدت السلطة التنفيذية على السلطة القضائية واستخفت بأعمالها ، بل و بالمنظومة التشريعية في مجملها بعد أن أصبحت التعديلات فيها تتم فقط لتلبي مصلحة عابرة لقريب أو صديق أو متنفذ…!!! ، توقف تنفيذ الأحكام ، إلا على المستضعفين ، و تحولت الخصومة إلى مسرحية أبدية لا ينتهي فصل منها إلا ليبدأ فصل آخر مع كل طعن لصالح “القانون” أو بالأحرى لصالح الصديق والقريب، ترجع معه المسرحية لأول مشهد من مشاهدها …. كل ذلك أدى إلى النتائج التالية:
1-غياب الأمن القانوني في المجتمع
2- عزوف مطلق عن اللجوء إلى القضاء، واعتماد طرق أخرى بدائية لتسوية النزاعات
3- الاستخفاف بأعمال القضاء وعدم الثقة فيما تمنحه أو تنزعه لأنها، في نظر المتقاضين، لا تعتبر سندا لحق بقدر ما تعتبر وصلا عن مبلغ من المال أو عين من الأعيان
4- هروب الاستثمارات الوطنية قبل الاستثمارات الأجنبية، و ما رافق ذلك من أضرار جسيمة بالمنظومة الاقتصادية
5- تخلف مهنة المحاماة وتردي أوضاع المحامين المعنوية والمادية
6- تخلف المنظومة القانونية للبلد بأكمله بعد أن فقدت النصوص القانونية أهم خصائصها من عمومية و تجريد واستمرارية
7- غياب الديمقراطية و تخلف الحياة السياسية
إصلاح العدالة …بداية الطريق
ظل الأمل ، رغم هذا الواقع الكئيب ، قائما في مجيء يوم تتحمل فيه الأمة الموريتانية مسؤولياتها، و تضيء بسرعة شموع الإصلاح في ظلام الفساد الذي ظل ينخر جسم العدالة ، وبالفعل جاء اليوم الذي بدأت فيه معركة إصلاح العدالة، معركة الخير ضد الشر، معركة التنمية ضد التخلف ، معركة الإصلاح ضد الإفساد … مع التغيير الذي حصل نهاية 2008 ، من خلال إرادة سياسية حديدية جادة في إصلاح العدالة لدى السيد/ رئيس الجمهورية عبر عنها أكثر من مرة ، بل وبمرارة في بعض الأحيان ، وهي الإرادة التي كان لا بد لتجسيدها من الخطوات التالية :
1- وضع خطة فعالة لإصلاح العدالة تبدأ باستئصال الأورام الخبيثة التي نخرت جسمها مهما كان نوع الألم الذي قد تتسبب فيه. و في هذا الإطار تم وضع عدد كبير من القضاة الذين ارتبطت أسماؤهم وأعمارهم بتلك الحقبة الكئيبة من تاريخ العدالة في موريتانيا تحت تصرف وزارة العدل إبعادا لهم عن ميدان الحكم ، كما شُرع في استئصال الأورام الأخرى التي طالما نخرت جسم العدالة ، من رشوة ومحسوبية و جهوية … من خلال تفعيل مبدأ المكافأة والعقوبة
2- تم إسناد تنفيذ تلك العملية “الجراحية ” إلى فريق من المحترفين المهنيين بقيادة مشتركة لوزير العدل ، و رئيس المحكمة العليا ، بعد أن توفرت الضمانات الجدية والإستراتيجية لدعم وحماية خططهما بهذا الخصوص
3- صدرت التعليمات الرئاسية أكثر من مرة إلى أعضاء الحكومة بالامتناع عن التدخل في أعمال القضاء أو ممارسة أي نوع من الضغط عليه ، تحقيقا لاستقلاليته
ما ذا أثمرت تلك الجهود حتى اللحظة؟
رغم أن الوقت مبكر جدا للحديث عن نتائج السياسة الإصلاحية التي تنتهجها الدولة الموريتانية في مجال العدالة لحداثة عهد تلك الجهود ، من جهة ، و لأن الإصلاح عملية تراكمية لا تؤتي ثمارها إلا بصفة متدرجة بمرور الوقت ، من جهة أخرى ، ومع ذلك فإنه يمكن القول بأن بعض المكتسبات قد تحققت من أهمها :
1-إن مجرد الحديث عن بعض النتائج الإيجابية الأولية في مجال إصلاح العدالة في هذه الفترة الوجيزة يعتبر في حد ذاته معجزة خارقة لشدة ما وصلت إليه هذه الأخيرة من فساد خلال العهود الماضية، ومع ذلك يجب القول بأن مكسبا عظيما تحقق خلال هذه الفترة الوجيزة للعدالة الموريتانية تمثل فيما تم من إحلال عناصر شابة متعلمة من القضاة ، محل ؤلائك الذين تم وضعهم تحت تصرف الوزارة ، ممن ارتبطت أسماؤهم وأعمارهم بتلك الفترة المظلمة من تاريخ العدالة في موريتانيا. و قد مكن هذا الإجراء الضروري، المنهجي الموفق ، وبشكل فوري ، من تحسين صورة هيئات الحكم شكلا ومضمونا في ذهن المتقاضي وبعث في نفسه شعورا جميلا بأن حلمه في تحقيق دولة القانون الذي كان بالأمس بعيد المنال أصبح اليوم ممكنا
2- الجدية والانضباط وغير ذلك من الأوصاف الحميدة التي أصبح مشهودا بها لأغلب المحاكم في انواكشوط أو في داخل البلاد، بشكل يلمسه أي متقاض ، وما صاحب ذلك من شعور متزايد بسيادة منطق القانون على غيره من الاعتبارات الأخرى التي جثمت على العدالة عقودا من الزمن
3- الدور الرائد الذي نهضت به وتنهض المحكمة العليا بشكل جريئ وجلي وشفاف من خلال تأطير وتوجيه مختلف تشكلات الحكم على عموم التراب الوطني ومتابعة أعمالها
4- الإدارة القضائية المحترفة لوزارة العدل التي سعت من خلالها إلى ضمان أكبر قدر ممكن من استقلال القضاء، والتي مكنت في مرحلة مبكرة من وقف سيل الطعن لصالح “القانون” الذي كان يجرف في طريقه كل لحظة وبازدراء شديد أعمال القضاء ليحولها هباء
ماذا بعد ؟؟
أن ما تحقق للعدالة الموريتانية من مكاسب في هذا الظرف الوجيز ، يعتبر حدا أدنى لما يجب أن تكون عليه ، إلا أنه من حقنا ان نفخر به ونتغنى تشجيعا و دعما ومساندة للقائمين عليه من أجل عدالة أتم وأكمل تحقق الحريات وتفرض احترام القوانين والتشريعات وتضمن السير المضطرد للمؤسسات وتشكل مرتكزا صلبا لأي بناء ديمقراطي ومدخلا لا محيد عنه لتحقيق أي تنمية ، لهذا كتبت كشاهد عيان عايش حالين للعدالة مختلفين بين الحلم والحقيقة … يتواصل ، إن شاء الله