باحث بمجال العلوم السياسية
في هذه المساهمة نحاول أن نفهم حدود التغيير المأمول في موريتانيا وجعله مأمونا ونتحاور حوله ، حوار تدعوا له الحاجة وقد قرأت أيضا من ذي قبل دعوات له من شخصيات هامة ومرموقة في المجتمع نكن لها التقدير من بينها الأستاذ د حان ولد أحمد محمود الذي عرفته مثقفا ووزيرا متواضعا و منفتحا على الشباب فرغم خلفيته العسكرية فإنه من الشخصيات المنجذبة بفعل مزاولته للثقافة والدبلوماسية للحوار، علينا أن نعترف أولا بالحاجة الماسة للإصلاح في موريتانيا والحوار حوله ، وتنبع أهمية وضرورة الحوار هنا لكونه وسيلة عقلانية تعتمد التفكير الهادئ ومقابلة الحجة بالحجة ذلك أن هناك دائما فرق –أو يجب أن يكون – حين نتناول ظاهرة سياسية ما كمناضلين أو نتناولها كمحللين دارسين ؛وفي موضوع الثورات العربية غلب على التناول روح النضال على حساب روح التحليل السياسي.
فأغلب الكتاب تغلب عليهم سيكولوجية الجموع في الميادين العامة فيتعاطون مع الموضوع كأطراف فلا يمتلكون تلك المسافة الضرورية لفهم الموضوع والإلمام بجوانب هذه اللحظة التي هي لحظة تأسيسية بل لحظة كتابة التاريخ ، هذا الوضع نتج عنه خطأ عميق في التحليل أدى إلى خطيئة التعميم ، فرغم أهمية بل وحاجة المنطقة العربية إلى حدوث تغييرات جذرية وشاملة ، إلا أن شيات الواقع وإن تشابهت في كثير من النواحي فإنها تختلف في العمق، من حيث الطبيعة الخاصة لكل مجتمع، ومن حيث مستويات التغيير المطلوبة فيه ومن حيث العلائق الخفية التي تربط بين جوانب ومعطيات الواقع السياسي والاجتماعي ، لكن الأخطر هو تسور البعض ليركب موجة التغيير ويجعلها على مقاس طموحه أو إيديولوجيته ، وهو وضع ساهمت فيه وسائل الإعلام – وخصوصا الجزيرة القطرية القوية إعلاميا والضعيفة فكريا -، فقد تعمدت نوعا من التسطيح للأحداث جعل كثيرا من مجاذيبها لا يميزون بين اختلاف الحالات ولا بين تنوع الوسائل وما يصلح منها في كل حالة دون أخرى ، وعلى كل حال هو أمر غير جديد على كثير من المحللين الذين كثيرا ما تعوزهم أدوات التحليل السياسي فينزون على وقائع لا علم لهم بكنهها فضلا عن مآلاتها ، إن معطيات الواقع ستظل عنيدة ، والثورة ليست شيئا خارج عن القوننة بل هي خاضعة للسنن، وما لم يحبل رحم الأوطان بها ويعطي جنينها الفرصة للتخلق فقد يولد مسخا مشوها ، والمواليد لا ترجع إلا الرحم ثانية ، فلنعمل من أجل ثورتنا الخاصة على أنفسنا أولا كي تقبل الثورة أن تولد عندنا ، أقول هذا وبوعي كامل بخطورة أن يستخدم البعض الدين والعقل وبرياء ، ورغم وضوح هذه المسلمات إلا أن التغيير قد أطل برأسه فكيف تركب بلادنا قطاره وبأقل تكلفة وأقرب محطة؟ أولا علينا -في ما أقدر- أن ننظر إلى هذا الحراك باعتباره فرصة وطاقة ايجابية ، ونحاول مجتمعين اهتبالها ونرسم القنوات والمسارات لتسلكها هذه الطاقة ، لكي لا تكون عمياء ومنفجرة ، وهنا على الحكومة الجادة وكذا النخب المستنيرة أن تنتهز الفرصة التي تعبر عنها هذه الرغبة الجامحة في التغيير ، والمنطلق هنا هو الاعتراف ” بمادة الثورة والتغيير” أعني الشباب الذين يجب مراجعة الموقف الرسمي والاجتماعي منهم واعتبارهم شريحة إستراتيجية وليس عمرية فحسب ، فرغم أن المجتمع الموريتاني بمجموعه هو ضحية بشكل من الأشكال لغياب الدولة إلا أن الشباب الموريتاني يعاني بشكل صارخ ومؤلم لعدم وجود إستراتيجية متكاملة تتعاطي مع همومه في الحرية والتنمية ، وهذا الفشل في التعبير عن الشباب يعم الحكومات المتعاقبة وكذلك الأحزاب كفاعلين سياسيين ، وهو واقع يكرسه غياب الشباب عن مواقع المشاركة في صنع القرار وانغلاق الإعلام وقنوات التعبير المعتادة أمامه، علينا إذن أن نتعرف على أزماتنا ، وأزمة موريتانيا هي إن صناعتها الثقيلة والوحيدة هي السياسية !، السياسة في بعدها السطحي والغرائزي ، حين تكون مركبا من أدواء الأهواء والمصالح الآنية والضيقة ، حين لا تكون فعلا بناءا لتحقيق المصالح العامة والخاصة في انسجام وفي غير ما تضاد أو تنافر، حين لا تكون السياسة تقنية وموقفا ورؤية للتغيير البناء ، وفعلا تنافسيا مثابرا لتحقيق طموح بلد لا تعوزه الإمكانات ولكن تعوزه النفوس الكبيرة المتعالية على الميولات الضيقة والمتناقضة مع قيم العدل والمساواة والتضحية ، والهدامة لكل ما هو عام وصالح ورشيد ؛أما بشكل أكثر تخصيصا فموارد ومصادر تراجعنا فهي كثيرة ومتعددة ، وقد يكون من التخلف إدعاء قلم واحد الإحاطة بها ، ولكن سنحاول وبشكل برقي سريع الإماءة إلى عناوين رئيسية على سبيل المثال لا الحصر ؛ لعل أولها : المحنة التاريخية ذات الأثر المستمر محنة الاستعمار، والذي و إن كان أحدث تغييرا ما في جغرافيتنا السياسية والثقافية والنفسية من خلال ما سماه أحد الباحثين ” الإقحام عنوة في زمن العالم ” فإن هذا الإقحام أو الاقتحام مثل تمزيقا لنسيج مجتمع ما يوحده أكثر مما يفرقه ، وهو ما مثل كسرا أو لنقل ليا لسير تطور المجتمع، وهو حدث آثاره لن تكون طبيعية تماما مثلها قيام كائن مسخ سموه الدولة الوطنية – ستفشل نخبه دوما أن تعكس تمثلات مجتمعه – كيان لن يلقى الاعتراف في عقل ووجدان مكونه البشري ذي الطبيعة القبلية والطبقية والتقليدية المعادية لا شعوريا ” للدولة” ولن ينجح في إعادة ذاكرة المجتمع للتعرف على التنظيم الذي خبرته يوما ، ونتيجة هذا الفصل من الفعل التاريخي هو قيام كيان قانوني غير أصيل تقوم عليه نخبة منبتة الصلة في تجربته السلطوية بالعمق الاجتماعي والتاريخي لمجتمع المحكومين ، الغريب أننا بعد خمسين من الاستقلال يعترضنا سؤال وجودي مؤرق ومعقد عن كيفية استمرار الكيان وسر بقاءه رغم بذور الفناء والتفتيت اليانعة في جوانبه ، ويحيلنا سؤال كيف هذا إلى استنتاج ماكر يرجع بقاء الدولة الوطنية إلى ضرورة و إرادة ومصلحة الخارج حتى الآن ؛ وهو ما أبعد شبح انفراط العقد في هذه الصحراء القلقة ، هل تدركون معي أن نتيجة هذه المثولوجيا غير المتخصصة أننا دولة استقلت بقرار خارجي ولا زالت قائمة و مستمرة به ، يا ترى أين رغبتنا ” النحن” وأين إرادتنا وأين ما نرغب أن تكونه موريتانيا متى سنشب عن الطوق ونبني خياراتنا المنبثقة منا والمتطلعة للبناء والتعارف مع الآخر على قدم الندية؛ التاريخ الحقيقي لبلدي ينبئنا أنا كنا مرة كذلك ،والتاريخ غالبا ما يكرر نفسه لكن حين ننصب له الفخ فقط “فخ الإرادة” – هنا الكثير مما يقال وهو فج عميق؛ هذا العنوان عنوان البداية التي ترسم النهاية غالبا ما لم تتدخل الإرادة مع التوفيق –
أما السبب الثاني : فرغم ما تعاور بناء دولة الاستقلال من النواقص والأخطاء المرافقة بفعل النشأة والتكوين من الفراغ ، فإن التدبير البشري رغم إخلاصه الذي لا نشكك فيه فقد كان محدودا بالخبرة والظروف ، ولذا فالسبب الحقيقي والذي سيمثل خللا وضعفا بنيويا ملازما للدولة فيما بعد هو التوجهات العشوائية للأنظمة العسكرية التي ظل هذا البلد رهينة لديها منذ 1978 ،فباستثناء واحد هو الخروج من الحرب ( لا لنا وربما علينا ) فإن العسكرية فشلت في كل شيء وفشلت في كل وعودها في تمدين الحكم وبناء الرخاء … ، بل الأدهى والأمر هو بقاء النخب المدنية أداة طيعة في يد ثلة العسكر ، وأصبحت التيارات السياسية – لا أستثني أحدا – متنافسة على خدمة نزوات العسكري الذي يعلن البيان رقم (1) إلى اليوم وبعد عشرين عاما من الديمقراطية الصورية لا يزال الجيش متمكنا من مسح العناوين الشكلية للجمهورية في أي وقت يرتئيه ، ومنذ ذلك الحين أصبحت عناوين الاتفاق والاختلاف بين نخبنا قائمة على كل ما هو شخصي وقبلي وجهوى واثني وليس على معيار المصلحة العامة وإدارة الشأن العام بما هو مناسب وصحيح؛ ولذا فتاريخ 78 من حينه وحتى اليوم والدولة مع كل حاكم وحكم تجير لخدمة أقلية ما على حساب مجموع الناس – الأكثرية من المواطنين – ! لماذا لا نقيم عقدا اجتماعيا على أساس انتماءات ما قبل الدولة ونريح أنفسنا من الهذيان حول دولة الحق والقانون والديمقراطية … ؟ هذا هو السؤال الضمني الذي يلقيه تطورنا السياسي في وجوهنا ساخرا ومعاتبا!
لكن العامل أو السبب الثالث لأزمتنا المركبة ، فتمثله محنة النخب الحاكمة والموازية التي ظلت تفتقر لرؤية عامة و كبيرة للبناء والإصلاح ، وهو ما جعل منها نخبا ضيقة الأفق ومحدودة الطموح فهي إما حارسة لمجد شخصي متوهم للنفس أو القبيلة …إلخ ، أو حارسة مصالح قوى خارجية على حساب الداخل الوطني في ظل ارتباك قل نظيره يطال الخطاب والممارسة تصورا وتنفيذا ، ولا يمكن أن يعدم القارئ الأمثلة والتي من أبرزها التسيير الكارثي للمقدرات والموارد الوطنية مما بدد مصادر الثروة وأشاع القناعة بالعيش في كنف اقتصاد ريعي لا توزع غلاله بعدالة وإنما تذهب لجيوب أقلية هي الصفوة العسكرتارية وخدمها المتحالفين معها من المدنيين ورجال المال –( وليس الأعمال)- والمستفيد دوما ليس السواد الأعظم من الشعب الذي يعصف به الفقر وتردي نوعية الحياة وإنما ما يسمي زورا وبهتانا شركاءنا في التنمية ! فأين التنمية ؟ أو على الأقل أين الماء والكلأ والنار؟.
هذه هي بعض العوامل – وليس كلها – التي تشكل متضامنة خلفية المشهد الوطني المتأزم ، ومع ذلك لم نعدم فرصا سانحة للتغيير لكننا للأسف لم نستغلها بالشكل الأمثل لإدارة العجلة ؛ ولذا أصبح لزاما لكي تقوم موريتانيا من رمادها أن نحدث “قطيعة ” مع ذلك الإرث؛ والتفتيش عن لحظة تأسيسية جديدة ينبني عليها عقد اجتماعي جديد ، بمعنى آخر على “التاريخ أن يفشل” على حد تعبير مالك بن نبي ؛ لكي نستخلص العبر . ملامح هذه القطيعة هي بت الصلة مع قيم الخذلان والتقاعس والرياء ، والأهم هزيمة ثقافة الخنوع واليأس والاستسلام .وبناء منظومة جديدة تتأسس على الإيمان والعقلانية وعلى المشاركة والفعالية والمواطنة . مستخدمين كل وسائل التنشئة والتعبئة الممكنة لهدم تلك السلبيات وغرس وتعهد هذه القيم الإيجابية ، وهو ما يسمح بناء دينامكية للبناء تكون جديدة تماما ومن نوع خاص، تقوم على التعاقد والتصالح والتفاهم على أفكار وقيم إستراتيجية جديدة، تنهل من روح الإسلام السمح في العلم والعمل والتزكية ، وروح العصر في الديمقراطية وحقوق الإنسان والتكنولوجيا , وهذه القطيعة والروح الجديدة التي ندعو لها يمليها النقل والعقل والواقع ، في هذه الظروف الخاصة المتسمة بالاحتقان بين الدولة والمجتمع ،واستدامة الفقر وتعثر التنمية والاقتصاد ،وتراجع الروح الوطنية ، وترسخ صورة نمطية لبلدنا كبلد يعيش على المساعدات وتوجهاته الرئيسية ترسمها جيوب ساسته وأمعاء مواطنيه – للأسف – بل إن من مفارقات هذا البلد الذي تغنى دوما بالعلم والثقافة ما يعانيه من القصور المشين في التعليم اليوم ،بل إن فلسطين المحتلة والصومال الخربة المجزاة تتقدم عليه كما ونوعا في التعليم ؛مرة أخرى يعلن مالك ابن النبي(أن الجهل عورة…).
بشكل عام وسريع ودون الخوض في الأفكار والمشاريع التي علينا أن نتذرع بها ، فنحن اليوم على مفترق طرق حقيقي إما الاستمرار في دفن الرؤوس في الرمال والاطمئنان إلا أن موريتانيا ليست كالدول الأخرى ، والاعتماد على “التباين” والالتفاف على ضرورات الإصلاح ، والاستمرار في هذا الوضع المزري اقتصاديا واجتماعيا وسياسيا ، وبالتالي مواجهة مطالب التغيير بالرفض والعنف وفي أحسن الأحوال بالتجاهل والاحتيال ، مما يعرض بلادنا للدخول في المجهول .
وإما أن تفهم طلائع الشعب الموريتاني والسلطة فيه سنن التغيير وتتبنى الاختيارات الأكثر عقلانية لإحداث التغيير ؛ عن طريق مجموعة من الإجراءات والقرارات :
– تبني الحوار – ليس سياسيا فقط – ولكن في مفهومه الواسع وأبعاده المختلفة وتجذ يره في منظوماتنا التربوية والاجتماعية والإعلامية كقيمة حضارية وإستراتيجية لا غنى عنها.
– الاستثمار في المصالحة بين مكوناتنا الاجتماعية بالعفو والتعويض والتسامح والتعارف.
– إدارة تنوعنا وتعددنا واختلافاتنا بأفضل الطرق نضجا وترفعا وتنظيما .
– وتوسيع نطاق الحقوق المختلفة و إرساء ضماناتها .
– بهذا وغيره نضمن انفتاحا سياسيا عقلانيا يرسم خارطة طريق جديدة لمراجعة وتقييم العلاقة بين السلطة والمجتمع وتصحيحها بما يضمن مستقبلا زاهرا وعادلا آليته إرساء نموذج حكم ديمقراطي حقيقي شفاف وتنافسي .
هذه في اعتقادنا تمثل ملامح سبيل جديد للبقاء والتغيير ، ذلك أن تقنية البقاء اليوم تكمن في القدرة على التجاوب وتغيير الاتجاه كلما اقتضت الظروف ذلك ؛ فالثبات على موقف واحد هو من سمات الأغبياء – حسب تشرشل –
وهي أفكار أولية تندرج تحتها العديد من السياسيات التي يجب وباختصار أن تطال : المسلكيات ، والقيم ، وترسيخ الهوية ، ومعالجة التداخل بين المال العام والخاص ، وبين ما هو عسكري ومدني ، واعتبار ما هو علمي وثقافي ، ومأسسة محاربة الفساد، ومأسسة العناية بالشباب ، ومأسسة رعاية الوحدة الوطنية . واعتماد دور جديد للإعلام العمومي والوطني في عدة اتجاهات :
– كونه تنويريا
– كونه مفتوحا
– كونه تنمويا
– كونه راقيا
والأهم عقلانيا ومحترما.