أحمد ولد محمدو
من حسنات المرحلة الراهنة أن نسمع بعض أفراد الطبقة السياسية يفكرون بصوت مرتفع، بعد ان سئمنا الكلام الفارغ المعد للاستهلاك الشعبي، و بينما تبقى الأفكار الحقيقة لهذه الطبقة ضمن دائرة ضيقة، تعتبر أفكارها من “المضنون به على غير أهله”، منصبة نفسها وصيا على هذا الشعب المسكين، الذي يعجز عن إدراك مصلحته، حسب اعتقادها، وبالتالي لا مناص بان تأخذ هذه المجموعة على عاتقها هذه المهمة، الى أن يبلغ الشعب سن الرشد التي “لن يبلغها أبدا”..
هذه النبرة الجديدة لطبقتنا السياسية، الكاسرة لحاجز الصمت في وجه العوام حتى لا أقول الشباب، تدفقت كالشلال في المجالس الخاصة والعامة، وبدأت ترتفع لتصل إلى وسائل الإعلام على شكل استفهامات مبطنة أحيانا بالإستهزاء، بعد الكشف عن لقاء بين رئيس الجمهورية وعناصر من مبادرة السبيل الآمن نحو المستقبل، المعروفة بـ ” VOILA “، افوالا .
إن هذا اللقاء الذي استمر لساعات وتم خلاله نقاش العديد من القضايا المتشعبة، كان من بينها إمكانية خلق إطار معين، تنصهر داخله مختلف الفعاليات الشبابية التي لم تستطع الأحزاب السياسية الراهنة عموما، والأغلبية على وجه الخصوص،استيعابها، لأسباب متعددة أقلها التقليدية المفرطة التي تسير بها هذه الأحزاب، العاجزة قياداتها عن فهم ، التغييرات العميقة التي أحدثتها التكنولوجيا المعاصرة في عقول الشباب، مما يتيح للواحد من هؤلاء الشباب أن يطلع خلال لحظات، وبكبسة زر واحدة، على تجارب لا حصر لها، تكفيه عناء خوض معمعان التجربة والخطأ، اللذين تعلمت بهما أجيال الشيوخ والمخضرمين، الذين يعانون “فوبيا” التعامل مع هذه التكنلوجيا في حين انها تحتل بالنسبة للشباب مكانة متقدمة في جدول عملهم اليومي.
لقد كشفت ردود الفعل على هذا اللقاء عن نوعية تفكير البعض حيث انصبت التحليلات والقراءات على جزئية بسيطة ربما جاء ذكرها عرضا دون ان يتساءل أي منهم كيف وصلت الأمور إلى هذا المستوى؟ أين مكمن الخطأ؟ ان أغالب الساسة لم يجد في الأمر سوى استهدافا شخصيا لهم، ليعملوا بذلك على توسيع الهوة بين الأجيال، وكأن الاتساع الحالي لا يكفيهم.
في المقابل خلق هذا الواقع لدى بعض الشباب انتصارا وهميا، حتى قبل ان يدخل أية معركة، عندما توهموا أنهم منافسا حقيقيا لهذه الطبقة، وأخذوا في بعث رسائل تطمينة، كشفت عن سذاجة توشك أن تفقد المشروع بريقه لدى الشباب، قبل أن يجهز عليه الشيوخ والمخضرمون.
إن الحديث عن ضرورة خلق إطار سياسي شبابي جديد داخل الأغلبية يحمل في طياته دليلا على بدإ تنفيذ وعد سابق بتجديد الطبقة السياسية تأكدت ضرورته بعد الحراك الذي تم داخل هذه الأغلبية، عاضده التحرك الشبابي الذي تم خارجها ويحاول البعض إلباسه لبوس رفض النظام، بينما واقعه رفض للوضع السياسي برمته، تبلور عندما قررت الشعوب يتقدمها الشباب ان تنزل الى الشارع بعد ان يئست من ان تحقق الأطراف السياسية التقليدية مطامحها، حيث انشغلت الأغلبية الحاكمة بالتهافت على موائد السلطان بينما اختارت المعارضة لنفسها التخندق الدوغمائي.
لقد فهم الشعب بذكائه الفطري ـ خلاف ما يعتقد أغلب الساسة ـ الواقع الجديد بكل أبعاده، وتلقفت طليعته الشبابية الفكرة التي هي أول من استوعبها و عمل على نقلها إلى بقية الفئات الاجتماعية وحرص على تجسيدها وبالتالي كان الأكثر تفاعلا وتناغما معها، فاختار لنفسه موقع الخيط الناظم، وذلك ما تجلى في قيادته للمرحلة لكنه أدرك أن هذه القيادة ستبقى ناقصة ما لم يستطع الوصول إلى المشاركة في صنع القرار تلافيا لأخطاء وقعت فيها حركات سابقة.
إن ما يصعب فهمه على الكثيرين ان موريتانيا ما بعد 2005 لم تعد تشبه ما قبل ذلك، وان خيار الإصلاح والتغيير لا رجعة فيهما، فقط الأسلوب هو محل الخلاف ولا أدل على ذلك من الأزمة السياسية المستعصية التي دخل فيها البلد بعد الثالث من اغسطس 2008، وعليه فان الأطر التقليدية والأساليب التي تدار بها لم تعد تلبى طموحات هذا الشعب بعد ان أدرك انه طرف فاعل في اللعب ويمكنه أن يؤثر فيها بطريقة أو بأخرى، من هنا كان من الضروري أن تتم إعادة النظر في بعض المفاهيم التي تم التسليم بها طيلة العقود الماضية من قبل الخبرة والحنكة السياسة التي كان نتاجها الأساسي الفشل على مختلف الصعد، وأجبرنا خلالها على أن نعيش حلقة مفرغة حيث أننا ما زلنا نعيش الإشكالات والتناقضات نفسها التي برزت صبيحة فجر الاستقلال.
أمام الواقع الجديد نجد أنه من الضرورة بمكان الحذر من تضخم الأنا والهوس بنظريات المؤامرة وبتقديم قراءة شاملة للموروث الاجتماعي والتاريخي لدور الشباب بدل الأسلوب التقليدي الذي عهدناه، القائم على الانتقائية والقراءة المجتزئة، فلا احد يجادل في الدور الهام لكبار السن لكن قيادتهم من طرف الشباب في مراحل معينة لم تكن مثلبا ولنا في قيادة أسامة بن زيد خير مثال.
إن استباق الأحداث ومحاولة تحديد عمر منتسبي هذا المشروع يفتقد إلى الجدية التي ينبغي أن ينظر بها إلي الموضوع، لكن هذا المعيار ربما يؤخذ به في شغل المناصب العليا، كوسيلة لإشراك فعلى للقوى الحية العريضة لهذا المجتمع والمتهمة دوما بالنزق والمثالية، بدل الإشراك التمييعي القائم على أسس اللجان والهيئات الفرعية التي هي في الواقع مسميات لا أكثر ولا أقل.
إن من يحاول تقزيم طموحات الشباب خلال هذه المرحلة وتصويرها على انها محصورة في محاربة التهميش ـ رغم مشروعية هذا المطلب ـ لم يدرك بعد أن العالم دخل مرحلة جديدة، تماما كالحديث عن احتكار فئة ما لإطار سياسي معين، والحكم على الأمر بالفشل رغم انه مازال مشروعا ، ومحاولة وسمه بأنه إعادة إنتاج للماضي، كل ذلك يعبر عن مستوى الرعب الذي يتملك البعض من المدى الذي يمكن ان تصله إليه التغييرات الجذرية التي يبشر بها هذا المشروع إذا ما كتب له النجاح أقلها ان يسحب البساط من القطبين التقليدين في الساحة السياسية.
إن منطق المصلحين الحقيقيين كان يفترض تلقف الفكرة الجديدة على أساسها أنها إضافة نوعية يمكنها ان تسد النواقص التي تعترى الجهد البشري ما لم يعتقد أصحابه أنهم مفوضون إلهيا، أو يمتلكون الحقيقة الكاملة دون غيرهم.
ان الفكرة الجوهرية التي ينبغى أن يقوم عليها هذا المشروع ، أن يراعي أخطاء التشكيلات السابقة والتي تتراوح مابين الحسابات العرقية والفئوية .. الضيقة التي تفرض إقحام البعض على أساس انتمائه، مراعاة لتوازنات وهمية، وكذا غياب التناوب بيت الداء، ومحاولة التفرد بالمشروع بحصره ضمن الحلقة الضيقة سهلة الانقياد، حيث يسهل لبذرة شيطان الديكتاتورية أن تنمو ، إضافة إلى أسلوب محاولة استمداد المشروعية من القمة بدل القاعدة، والإيحاء بان المشروع تقف وراءه جهة معينة هي التي تصدر عنها التعليمات، في محاولة مكشوفة لتمرير قرارات مرفوضة شبابيا وشعبيا، كل هذه الأساليب يبقى مصيرها الفشل طال الأمد أو قصر.
أخيرا يبقى الابتعاد عن أسلوب استيراد تجارب الآخرين الاستعانة بأفكارهم المحكومة بالزمكان مكمن التجديد مما يستدعى استحضار الحالة الموريتانية المتفردة عن غيرها دون الانكفاء على الذات خصوصا في البعد التاريخي الذي يستحيل تكراره، كل ذلك في إطار من الشفافية و الديمقراطية الحقة.