اســلكو ولد ابهاه*
اختار الله لجمال ان يعيش آخر عام من عمره بدولة الامارات العربية المتحدة، واختار له من بين مدن الامارات افسحها واجملها ( مدينة العين ) ، واختار له من احياء مدينة العين أهدأها وانظفها حي ( المسعودي ) ، ومن منازل حي المسعودي اختار له اطهر تلك المنازل واكثرها اشعاعا بالعلم والمعرفة ( منزل الدكتور الشيخ محمد الأمين ولد الشيخ ولد مزيد ) أو منزل الدكاترة كما كان يعرف في أوساط الجالية الموريتانية بمدينة العين يومها.
ولقد قدر الله ان كان مقر عملي يومئذ علي بعد دقائق من ذلك المنزل ” العامر” فكنت ادمن التردد عليه ، حتي لا يكاد يمر يوم الا وتجدني هنالك ، فوفر لي ذلك فرصة لا تعوض لمعرفة الراحل د.جمال ولد الحسن رحمه الله ، فعرفت لين جانب الرجل ، وبسمته التي لا تفارق محياه ، واشتغاله بالعلم والجمع والتدوين مع ركن تعبد وتبتل لا تخطئه عين المتتبع .
كان ذلك المنزل يومها دار حكمة وعلم وفقه وسياسة وشعر… وأشياء أخري ، وكانت تنتظم فيه مجالس علمية وسياسية يجد فيها المرء من المتعة الذهنية والعقلية ما عز نظيره في مثل هذ الزمن الرديئ أهله.
كانت علاقة حميمة قد توطدت بين جمال والشيخ مزيد وكان المرء لا يخطئ ذلك الاكبار المتبادل والحب الصادق بين الرجلين، وكان لجمال أهلون ومحبون وطلاب ومريدون ومشايخ كثر في الامارات كلها ولكنه اختار من بين كل أولئك أن يكون سكنه في بيت الشيخ مزيد، وأذكر أنني جئت مرة لأخذ الشيخ مزيد الي المطار في احدي سفراته الي موريتانيا … كان الرجلان يتحدثان في ردهة البيت في مسائل عليمة لا اذكرها الان ، او تستيطيع ان تقول انني لم استوعبها جيدا , وحين أزفت ساعة الرحيل تعانقا طويلا قبل أن يقول جمال : نستودعك الله … ” لاتبطأ عنا ولا تنس الحاله ال خليتنا فيها ” ، فرد مزيد وانا استودعكم الله كذلك ” ولا تنسو الحال ال امشيت عنكم فيها” ، فعلق جمال مبتسما : ” لست ادري من سيوقظني بعدك علي صلاة الفجر ، فتبسم مزيد من قوله ضاحكا وهو يرد : ولست ادري انا الاخر من سيوقظني من بعدك علي صلاة العصر….
لم يكن الرجل مجرد دكتور عابر في جامعة عجمان للعلوم والتكنلوجيا بمدينة العين ، بل كان يبحث ويؤلف و يكتب ويحاضر ، وقبل ذلك كله كان سفيرا لبلده ولبني قومه ، أغري مستواه الخارق ادارة الجامعة باكتتاب اكثر من استاذ موريتاني من بعد ذلك ، ولعل ذلك يكون في ميزان حسناته ان شاء الله تعالي .
وحقا انه ليتملكني الفخر والاعتزاز كلما ذكرت ذات مساء قدمت الي المنزل ولم يكن به غيره فناداني مبتسما ممازحا وهو يقول : تعال يا بن ابهاه … يامن تزعم انك تكتب المقالات.. ثم قرأ علي مقالا كان قد فرغ للتو من كتابته عن موضوع هدم حركة طالبان لتماثيل بوذا في عمق الجبال الافغانية وهو موضوع يومها كان الشغل الشاغل للساحتين السياسية والدعوية ، وبعد ان فرغ من قراء المقال ربت علي كتفي وسألني رأيي وان كان بامكاني نشرالمقال في جريدة الخليح ” وكنت يومها اكتب بها مقالات في ركن “رأي ودراسات” وقد نشر المقال في صفحة بريد القراء من ذات الجريدة بعد ذلك بيومين ،وهو حقا مقال رصين منصف مقاصدي ينم ويشي بأن كاتبه جمال … ولا أزيد علي ذلك .
كنت مرة مع الراحل جمال في “سفر ” بين مدينة ابوظبي والعين وكنا بسيارة الأستاذ محمد غلام ولد الحاج الشيخ النائب الحالي لرئيس حزب تواصل – (وكانت بين الرجلين مودة وحب و”صحبة ” )وكان جمال يسمي سيارة محمد غلام سيارة الجالية لما كان الرجل يقوم به يومها من العمل العام وخدمة اعيان الجالية وضيوفها ، ولان المسافة تأخذ وقتا طويلا فقد تشعبت الاحاديث داخل السيارة وفي ما نحن في حديث عن بعض السياسيين الموريتانيين سأل احد الاصدقاء وكان معنا في السيارة ان كان فلان من الاخوان فعلق غلام قائلا انه ليس كذلك بل هو من “اخواك البظان ” وهي عبارة كثيرا ما كان يستخدمها يومها للتعبير عن عدم وجود اي انتماء سياسي لشخص ما ” فقال جمال مبتسما وموجها حديثه لغلام : ” حقوق النشر محفوظة ، والمفاهيم معتبرة ….. أو تعرف انني أول من اطلق مصطلح أخوك البظان ، … ثم اردف : كان ذلك في مطلع الثمانينات ، وكان نظام هيداله لما يتصالح بعد مع التوجه الاسلامي ، وكان احد الشباب من ذوو الميول الاسلامية العامة قد نجح في مسابقة شعرية تخوله تمثيل موريتانيا في مسابقة شعرية عربية معروفة ، بيد أن ملاحظات امنية ثارت حوله وحول ملفه ، وتصادف ان كنت يومها في أحد الأيام بمجلس عام بمدينة روصو فسأل احد الحضور ممن كان الناس يتحدثون عن علاقات وثيقة له بالأمن ، سأل في “تجاهل” وهو يوجه حديثه الي ان كنت أعرف ان كان فلان – يعني الشاعر الشاب المذكور – من “الدعاة أم هو من الكادحين أم أنه من أخوك الحرطان “! فرددت علي البديهة : ” لا الي هؤلاء ولا إلي هؤلاء بل هو من أخوك البظان ” ، وقد تنوقلت الكلمة يومها علي نطاق واسع حتي وصلت الي بعض المجالس الأمنية، علي ما علمت فكان الرجل – يقول جمال – لا ينساها لي ويذكرها لي دائما في امتنان حيث كانت سببا في التأشير بالايجاب علي ملفه مما مكنه من تحقيق حلمه وتمثيل موريتانيا في تلك المسابقة .
وأخيرا …. لقد كنت احد اخر من قابلهم جمال في حياته، ذلك أنني كنت بالمنزل ليلة الخميس حينما هاتفني في حدود الساعة العاشرة مساء وأخبرني أنه ينوي الذهاب غدا مساء الي مطار دبي لإستقبال احد الإخوة القادمين من البلد والذهاب به الي مدينة ابوظبي ثم سألني ممازحا ان كان معي “مركوب ” وهي عبارة كثيرا ما كان يستعملها معي كناية عن السيارة – في استحضار رمزي لمعني محلي طريف لا أعرف ان كان من المناسب شرحه في حديث عام يقرأه الكل –فأجبته علي الفور بأن: نعم ، رغم أن سيارتي يومها كان بها عطب ، لكن حب مرافقة الرجل أوحت الي بتلك الاجابة السريعة ،وعرفت في اليوم الموالي أن علي أن اتدبر أمر السيارة مبكرا ، ولم تكتمل الساعة الثانية ظهرا حتي كنت بمنزل الشيخ مزيد ومعي “مركوب ” غير أن جمالا فاجأني وهو ببسمته المعهودة قائلا إن محمدا “يعني محمد ول محم ” رحمه الله قدم الينا من بعيد ومعه سيارة ، لذا علينا ان نقدم “البرانيين ” ولم يكن أمر اقناعي في البداية بالتخلي عن مرافقة الرجل بالأمر السهل ، لكنني أخيرا رضخت للأمر الواقع وأنا اخبر جمال ان لي عليه دينا وهو الذهاب معه متي ما سمحت الظروف، فلم يمانع وهو يقول بل انا الذي لي عليك دين بمشوار آخر ان شاء الله تعالي … ولم أكن أعلم ساعتها وأنا أودع ذلك الطود الشامخ والركن العالي أنني لن القاه بعد ذلك وأن خبر رحيله عن هذه الحياة الدنيا سوف يصل الي بعد ساعات قليلة حينما تعرض لحادث سير اليم بمدخل مدينة ابوظبي في حدود الساعة التاسعة من ذات المساء .
ذرفت دموعا كثيرة لا أذكر ان كنت قد ذرفتها علي احد من قبل ذلك أو من بعده ، بما في ذلك ابي رحمه الله ,,,, واخيرا تذكرت ان تلك حكمة الله وقضاءه وقدره ولا راد لقضاء الله وقدره وأن الرجل باذن الله مع النبيئين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقا ، فطفت أردد مع بهاء الدّين زهير قوله :
أرى الـبــاكــيــن مـــعــــي كــثــيـــراً
وليس كمن بكى من قـد تباكـى
فـيـا مــن قــد نــوى سـفـراً بعـيـداً
متى قـل لـي رجوعـك مـن نواكـا
جــــزاك الله عــنـــي كـــــل خــيـــرٍ
وأعـــلـــم أنــــــه عـــنـــي جـــزاكــــا
فـيــا قـبــر الحـبـيـب وددت أنـــي
حملـت ولـو عـلـى عيـنـي ثـراكـا
ســـقــــاك الــغــيـــث هــتــانـــاً وإلا
فحسبك من دموعـي مـا سقاكـا
ولا زال الــســلام عـلــيــك مــنـــي
يــرف مــع النسـيـم عـلـى ذراكـــا
فوجو – فوجيان.