ها قد أشرق الربيع العربي فتفتحت أزهار الثورات وبدأت سنوات من الصمت تؤتي أوكلها، تحركت الشعوب كما لم تتحرك من قبل فارتعدت فرائص الطواغيت كما لم يسبق أن ارتعدت، وبدأت تلك القطعان المتوحشة في الفرار أمام هدير الجماهير العربية الغاضبة والرافضة للظلم والضيم.
ورافق هذا الفجر العربي الجديد حملات من التشويه الظالم تجاه كل من يقف مع هذه الثورات وينحاز لجانب الحق الصارخ، فتسلح أبناء الظلام بأقواسهم السحرية وبدؤوا في ترتيل تعاويذهم وشعوذتهم للنيل من أبناء الحرية وأهلها، متوهمين أنهم بأكفهم الصغيرة سيحجبون ضوء الشمس المنبلج.
وكانت دولة قطر الشقيقة من أكثر المنحازين للحق الذين تضرروا من هذه الحملة الشعواء، فقط لأنها أرادت للشعب العربي الليبي أن يعيش حراً كريما، وأن يعبر عن إرادته بحرية، مستنكرة زمجرة الآلة العسكرية الغاشمة للعقيد القذافي وغلمانه السفهاء.
فهل هذا ما تستحقه قطر السخية في عطائها والبهية في هيبتها، قطر التي لعبت وما تزال تلعب أدوارا محورية في المشهد العربي بعد أن تقاعست القيادات التاريخية عن أداء الدور المنوط بها.
قطر دولة قد يتحدث البعض عن صغر مساحتها وقلة ساكنتها إلا أنها تختزن معنى كبيراً عجزت دول أخرى تملك من المساحات والفيافي الشيء الكثير وذات مخزون بشري هائل عجزت عن الحصول عليه، فكما يقول الشاعر: ( ترى الرجل النحيف وتزدريه … ).
إن قطر استطاعت أن تلعب دورا محوريا في المشهد السياسي العربي فأصبحت الدوحة قبلة للعرب، فأظلتهم بظلها الوارف وسقتهم من حكمتها لتسوى الخلافات العربية على أديمها، فكانت راعية للوفاق ما بين الفرق السودانية واليمنية، ولن ننسى الدور الذي لعبته إبان الأزمة السياسية الموريتانية.
هذا عدا عن دورها التاريخي في القضية الفلسطينية حين تقاعست دول عربية أخرى كبيرة في حجمها وكمها البشري عن التأثير فآثرت الصمت، لتأتي قمة غزة بالعاصمة الدوحة فكسرت الصمت العربي المهين أمام قصف إسرائيل لأبرياء فلسطين بأكوام النار والجحيم.
وبعد أن بدأ الشعب العربي في التحرك والتعبير عن إرادته في إسقاط تلك الأصنام المهزوزة أصلا في مشروعيتها، لم تتردد دولة قطر ولم تحس قيادتها بالحرج في الانحياز لصوت الشعب العربي المشروع، وهو موقف يتناغم مع حركة التاريخ العربي الحديث الذي أدركت قطر بحكمتها أنه يحتاج قيادة من نوع آخر غير التي سبق وأن تربعت على الكراسي دون أن تكون أهلاً لها فكانت منفذة لمخططات أجنبية لا تتماشى ومصلحة الشعوب العربية الواعية.
إن هذا الموقف السياسي الريادي تجاه الشعوب العربية هو موقف عجزت الدول العربية الأخرى عن إدراكه والوقوف على حقيقته لأنه كان جريئا في طرحه مبنيا على قيم إنسانية بحتة لا حظ للمصالح الشخصية فيها، وهو ما ستدركه -ولو متأخرة- تلك الدول التي تشن حملات على قطر، وستدرك حينها أنها أخطأت في هجومها على قطر وأنه كان حرياً بها أن ترافقها في المقدمة.
استطاعت قطر أن تطور عقلية جديدة تختلف عن العقلية التقليدية التي يحكم بها حكام العرب، فأصبحت سياساتها تمتاز بالطموح والجرأة والذكاء في الاستفادة من كافة الوسائل المتاحة حتى تصل إلى مكانة مرموقة على المستوى الإقليمي والعربي والدولي، وذلك من خلال تنمية حس المبادرة الغائب لدى نظيراتها من دول العالم الثالث.
نعم نجحت قطر في سياساتها الخارجية نجاحا لم يسبق لأي دولة عربية أن وصلت إليه، وذلك النجاح هو نتاج لسياسات داخلية محكمة ومناهج واستراتيجيات بعيدة المدى، فأين هو التعليم القطري من التعليم العربي الآخر وأين هي الرياضة والإعلام والثقافة ومجالات اقتصادية كثيرة أخرى استطاعت قطر أن تحقق فيها نجاحات هائلة هي التي مكنتها من احتلال هذه المكانة المرموقة دوليا وعربيا وإقليميا.
أقل ما يمكن للمنصف أن يقوله في قطر هو أنها ورشة إنسانية فريدة يجب الوقوف عندها بتأن ودراستها بروية، فإن كانت نمور آسيا حالة اقتصادية حيرت اقتصاديي هذا العصر فإن قطر حالة استثنائية سيتحدث عنها العالم حين تجاهلها العرب وناصبوها العداء ولعل ذلك هو الدليل الساطع على أنها تمكنت من احتلال مقدمة الدول العربية، فكما يقول المثل الشهير: ( حين تستقبل الطعنات في الخلف فتأكد بأنك في المقدمة ).