بقلم:
أبوبكر ابن احميّد
أستاذ جامعي وباحث مقيم بدمشق- سوريا
بريد إلكتروني: [email protected]
لا يبدو أن أحداً اليوم يراوده شك في أن وعود الإصلاح التي جاءت بها الحكومة الموريتانية الحالية بنسخها المختلفة، قد تبخرت وأصبحت أثراً بعد عين، والدليل أنها توقفت عن إطلاق الكثير من الشعارات التي راهنت عليه، وسارت في كثير من سياساتها على طريق سابقاتها. ومن ذلك – مثلاً- تجاهلها المطلق لمطالب التشغيل التي ينادي بها الشباب، خاصة أصحاب الشهادات العليا: (الدكتوراه- الماجستير)؛ بل زادت من إغلاق الأبواب أمامهم في الحُلم بإمكانية توظيفهم في المستقبل القريب في جامعة بلدهم اليتيمة من خلال إصدارها القانون الأخير المشؤوم المعروف بـ”شروط المدرّس الجامعي”؛ إذ يشترط هذا القانون الظالم على كل من يحلم بالتسمّي بأستاذ في جامعة نواكشوط أن يحمل شهادة دكتوراه، وأن يبلغ من الكبر عتياً، فيثبت بالفعل أنه وصل سنّ اليأس من الإبداع والتطوير: (حدود الخمسين عاماً)..!
ومن الواضح أن اليد الآثمة التي صاغت هذا القانون يغلب عليها الاستبداد والجهل بأبسط مبادئ التربية والتعليم والأخلاق.. ذلك أن سنّ الخمسين لا يمتلك أصحابها – في الغالب- مقومات للإبداع كالتي يمتلكها أبناء الثلاثين والأربعين في التدريس مثل: الرغبة في التميز، وصفاء الذهن، والنشاط العقلي الناتج عن قلة التجارب والمنغّصات.. أما أساتذتنا وشيوخنا أبناء الخمسين عاماً فهم أحوج إلى من يمنّ عليهم بالراحة من عناء التدريس، أو الاكتفاء بدلاً منه باستشارتهم، والأخذ بنتائج تجاربهم الإيجابية، والحذر من تكرار أخطائهم الماضية.
وهكذا، فقد عبرت الدولة من خلال هذا القانون الظالم – وغيره كثير- عن تمسكها المطلق بنهجها القديم الذي سارت عليه منذ عقود مضت، وهو رفض الإصلاح والتجديد عن طريق منع الشباب الأكاديمي من العمل في المؤسسات الجامعية، والإصرار في مقابل ذلك على تطبيق سياسة المحسوبية والتهميش ضد الطبقات الاجتماعية الضعيفة؛ إذ أغلقت الباب بإحكام أمام حاملي الشهادات العليا، تاركة التدريس في الجامعة للمحظوظين من أصحاب النفوذ السياسي والقبلي، الموجودين في هرم الدولة، مانعة بهذا القانون الظالم أبناء جامعتها اليتيمة من الاستفادة من خبرات أجيال شابة ما تزال في عقد الثلاثين أو الأربعين من عمرها، وتمتلك من إرادة التغيير ووسائل التطوير ما يفتقده الكثير من أفراد الجيل المسيطر على الجامعة منذ تأسيسها.
لكن ألا يستحق الشباب الذين أكملوا دراستهم العليا قبل بلوغهم الثلاثين عاماً تشجيعاً من الدولة بتوظيفهم بدلاً من معاقبتهم بمنعهم من التدريس الجامعي إلا بعد استكمالهم السنّ القانوني: (45 عاماً)…؟. ما ذنب هؤلاء الشباب إذن.. أم أن فلسفة القوة وفرض رأي السلطة هو المبدأ الوحيد الذي يؤمن به جيل الشّيب الذي يستبد بحكم هذا البلد المنكوب به منذ عدة عقود..؟!
إن نظرة فاحصة للتعليم الجامعي بموريتانيا تظهر ضعفه وتراجعه؛ بل قصوره وتهافته؛ فهو يعاني مشكلات عميقة في صميمه قد تؤدي بحياته إن لم تتداركها الدولة بعلاج عاجل -ولا أظنها ستفعل-.. ويكفي للتمثيل لهذا القصور والجمود أن بعض الأساتذة الشيوخ في هذه الجامعة المنكوبة ما يزال إلى اليوم يدرّس طلابه في الجامعة – وربما في المعهد العالي- بقية محاضراته التي كتبها عام 1981 من القرن الماضي، يوم كانت الجامعة لا وجود لها، وكأن العلم لا يتطوّر، والثقافة لا تتغيّر، فنظريات العلم، ومناهج الأدب، والسياسة، والاقتصاد.. كلها تتطوّر باستمرار، ومع كل ذلك ما يزال بعض الأساتذة الشيوخ يصرّون على تدريس طلابهم نظريات تجاوزها التاريخ منذ عشرات السنين إن لم نقل منذ مئاته..!
إن التغييب القسري للكفاءات الشابة – وهي التي قد تمتلك استقلالية عن القبليّة المسيطرة- عن المؤسسات الأكاديمية أمر في غاية الخطورة على مستقبل هذه الجامعة التي لا يمكن أن تستغني بخبرات أساتذتها الشيوخ عن إرادة أساتذتها الشباب ومعلوماتهم الحديثة التي أنفقوا أعمارهم ثمناً لها.
وإذا كانت الدول تسعى دائما إلى تطوير تشريعاتها وقوانينها لتصبح أكثر عدالة وإنصافاً لشعوبها وكفاءاتها، إلا أن ما يحصل في موريتانيا يبدو استثناءً من هذه القاعدة؛ إذ هو العكس تماماً، فالحكومات المتعاقبة وبرلماناتها سعت بكل جهودها نحو تشريع القوانين الظالمة، وتشديد جَوْرها إن كانت منصفة، وذلك من أجل تشديد الخناق على توظيف الشباب والكفاءات من خارج السلطة القائمة وتحالفاتها السياسية والقبلية. ولعل قوانين الالتحاق بالوظيفة العمومية الموريتانية من أكثر قوانين العالم جوراً وتهميشاً للشباب، لكن لا نعجب من ذلك لأن من صاغ هذه القوانين هي حكومات تفتقر –غالباً- إلى الخبرة العلمية، والإحساس بهموم الوطن، فضلاً عن عجزها الواضح عن مسايرة التطور المذهل الذي يعيشه العالم اليوم.
إن قانون “المدرّس الجامعي” الذي أقرته الحكومة أخيراً يكشف بصدق عن استمرار مشاريع التهميش المقنّن والإقصاء المشرّع لشريحة اجتماعية تعدّ أساس السكان وهي طبقة الشباب عامة، في حين تفتح الباب أمام الشيوخ الشيب لمواصلة نفوذهم ومضاعفته، وهم – بلا شك- أقلية في المجتمع الموريتاني. وجامعة نواكشوط -كغيرها من مؤسسات البلد- بحاجة ماسة إلى اكتتاب الشباب الأكاديمي – الذي قد يضخ فيها مياها جديدة، ويربطها بما اطّلع عليه من معلومات جديدة في هذا العالم- أكثر من حاجتها إلى شيوخ وكهول بلغوا من الكبر عتياً، فوهت قواهم، ونضبت أفكارهم في مؤسسات تعليمية أساسية أو ثانوية، وسيطرت مناهجها عليهم في باقي أعمارهم..
أليس في موريتانيا ومن يشرعون لها القوانين رجل رشيد يقول لهذه الحكومة إن الدول تبنى بسواعد الشباب وأفكارهم وحماسهم، وبخبرة الشيوخ ورحمتهم لا باستبدادهم وأنانيتهم.. ألا يكفي هؤلاء الأساتذة الشيوخ سيطرتهم على التعليم العالي مدة ثلاثة عقود رأينا نتائجها الإيجابية والسلبية.. أليس من الجمود القاتل أن يظل طلاب جامعتنا اليتيمة يُدرَّسون بعقلية سبعينيات القرن الماضي وثمانينياته..؟.
إنه لأمر غريب استمرار الحكومة الموريتانية الحالية في اللعب بالنار عن طريق إصرارها على تهميش الكفاءات الشابة الحاملة للشهادات العليا، الأمر الذي يعد استخفافاً واضحاً منها بأمن الوطن واستقراره الاجتماعي؛ إذ هي تُعرّض بهذه السياسة حياة المئات – وربما الآلاف- ممن أنفقوا أعمارهم لاكتساب المعارف المعمقة لمصير مجهول، يعكسه الإهمال والتهميش والاستخفاف من طرف الدولة ومؤسساتها المختلفة، هذا في مقابل استمرار الدولة ومؤسساتها في التوظيف السّري والعلني لكثيرين لا يمتلكون غير النفوذ القبلي والسياسي، ويفتقدون لأبسط مقومات الثقافة العامة، أحرى أن يملكوا علماً أو فكراً يفيد الوطن وأبناءه أو مؤسساته..!.