إن الانفجار المدوي الذي يعرفه الفضاء العربي في الوقت الراهن والذي بات يعرف بالربيع العربي ليس مجرد هبة انفعالية عفوية تنم عن نوبة غضب عابرة،وإنما هو تجلي واضح لصحوة حقيقية يتبطنها وعي عميق لطبيعة أوضاع الأمة العربية الراهنة وماهية الأسباب الكامنة وراءها وإدراك كامل لمتطلبات التغبير الجذري الذي تستوجبه هذه الأوضاع.
وهذه الاستفاقة التي اتخذت شكل ثورات شعبية حقيقية قد تم انجازها بالفعل في كل من تونس ومصر وهي قيد الانجاز بخطى حثيثة في ليبيا (منذ 17فبراير2011)وفي اليمن (منذ 18 يناير2011)وفي سوريا منذ(15 مارس 2011) والتي هي بمثابة زلزال شديد قد طالت نذره وهزاته الارتدادية :الجزائر(28 دجمبر 2010)ولبنان(12 يناير 2011)والأردن(14 فبراير 2011)وعمان وموريتانيا(17 يناير 2011)والسعودية (21 يناير 2011)والمغرب(30 يناير 2011)والعراق(10 فبراير 2011)والبحرين(14 فبراير 2011)والحبل على الجرار…
والواقع أن هذه الاستفاقة عكسا لما قد يتبادر إلى الذهن لأول وهلة لم تكن تلقائية،بل جاءت كنتيجة حتمية لتراكم مشاعر الخيبة والإحباط وحدة الإحساس بالمهانة والدونية والعبثية والضياع التي عانت منها الشعوب العربية كافة طوال تاريخها المعاصر،والمتولدة عن الإخفاقات المتكررة التي ميزت مسيرة الأنظمة العربية على اختلاف أنواعها وتباين مشاربها الإيديولوجية،حيث تجلت عمالة الأنظمة الرجعية ووبال أساليب حكمها على شعوبها واتضح زيف ما وصف بالثورات التي استلهمت الإيديولوجيات” القومجية” و”الاشتراكية” والاسلاموية وغيرها والتي لم تكن في العمق سوى سلسلة من الانقلابات العسكرية الدموية التي سرعان ما كرست الاستبدادية والشمولية والتسلط.
ومع الزمن تبين بكل جلاء أن ما قد نسبته بعض الأنظمة لنفسها من مقاومة ورفض وممانعة وتقدمية واشتراكية ومعاداة الامبريالية الخ…. إنما هو سراب بقيعة. ومن ثمة فهو لا يرقى إلى مستوى توقعات وتطلعات الشعوب العربية.
ولقد برهنت الأنظمة العربية دون استثناء من خلال هزائمها المتلاحقة أمام تغول العدو الإسرائيلي وعمله الدءوب من اجل التهويد الممنهج لفلسطين ومن خلال استكانتها التامة وخضوعها المطلق لإملاآت الدول الغربية الداعمة لاسرائل و خذلانها المشين للانتفاضات الفلسطينية المتوالية والمقاومة الشعبية الباسلة للعدوان الإسرائيلي في كل من لبنان وغزة،وكذلك من خلال الارتماء في أحضان الولايات المتحدة الأمريكية وتبني ما تتقدم به من حلول مصدرها إسرائيل للقضية الفلسطينية ،والهرولة المخلة بالكرامة إلى اتفاقيات مجحفة وضارة بالمصالح العربية مثل اتفاقيات أوسلو وكامبد ديفد وشرم الشيخ ووادي عربه وغيرها،برهن كل هذا على أن الأنظمة العربية غير قادرة على تحقيق طموحات شعوبها وغير مهتمة بتلبية مطالبها وتجسيد أحلامها على ارض الواقع،الشيء الذي اوجد إحساسا عميقا بالاستياء والنقمة والغبن والهوان لدى القوى الحية بكل أطيافها على مستوى المشهد العربي بكامله وخاصة لدى الشباب المثقف.
هذا الشعور باليأس والإحباط والدونية قد زاد من حدته واستحكامه في النفوس القمع والاستبداد والتسلط وانعدام الحريات الأساسية وغياب العدالة الاجتماعية واستشراء الفساد وانسداد الأفاق،كل هذا في وقت تنامت فيه جموع الشباب المثقف وتكاثرت أعداد حملة الشهادات العليا المحكوم عليهم مسبقا بالبطالة والعطالة والضياع وذلك في سياق دولي اتسم بمعاداةاللبراليةالمتوحشة ومحاربة العولمة والانخراط في مقاومة تجلياتها ومضاعفاتها، وتميز بالمطالبة باعتماد الديمقراطية أسلوبا ومنهجا في الحياة وبتوطيد وتوطين العدالة وبتكريس حقوق الإنسان وتعميم ثقافة المواطنة،يضاف إلى هذا وذاك مطالبة منظمات المجتمع المدني الملحة والناشطين الجمعويين وقادة الرأي بالمزيد من الشفافية والحاكمية الحسنة وإشراك واسع لجميع الفعاليات الوطنية بمختلف اهتماماتها في عملية صياغة المستقبل ودوائر صنع القرار وآليات إدارة الشأن العام ،
هذا فضلا عن اتساع الرقمنة وانتشار المعلوماتية وتعدد وسائل الاتصال والتواصل ونجاعتها المتزايدة.
وقد وفرت هذه الملابسات للشباب العربي المحبط والمصاب بقرف وغثيان وجوديين و المتوثب إلى التجديد والتغيير،وفرت له ديناميكية وآليات فعالة وناجعة لخلق أرضية وبيئة مواتيتين للتحول والانزياح المنشودين،وقد تمثلت هذه الآليات تحديدا في أدوات التواصل الاجتماعي مثل الفيس بوك وتويتر واليوتيب وغيرها،فتوسل الشباب المثقف الواعي المتعطش إلى التجديد والراغب في تحقيق آمال شعوبه هذه الآليات لنشر الوعي بين صفوفه وتكثيف التعبئة وصياغة خطط العمل وتحديد أساليب النضال واختيار الشعارات التحسيسية وبلورة محتوى الخطاب السياسي التوعوي والتعبوي الخ…. ،ولم يكن بمقدور الأنظمة العربية أن تمنع استعمال هذه الوسائل أو أن تحد من توظيفها أو أن تسد المنافذ في وجه إشعاعها مع ما بذلته من جهود وما اتخذته من إجراءات من أجل ذلك.
ولم يبد الشباب العربي المتطلع إلى التغيير، في بداية حراكه،سواء خلال ثورة 14 يناير 2011 بتونس أو خلال ثورة 25 يناير 2011 بمصر أي تطرف جامح في مطالبه ومطامحه ،بل اكتفي بالدعوة إلى إصلاحات سياسية ومؤسسية تدريجية والى توفير الحريات الأساسية والى تحقيق العدالة ونبذ الفساد وتقويم الإعواجاجات والإختلالات الضارة وذلك في إطار الأنساق القائمة. لكن نظامي زين العابدين بن علي ومحمد حسني مبارك في كل من تونس ومصر قد اخفقا في تقدير إصرار شعبيهما على إحداث تغيير حقيقي للأوضاع القائمة،ولم يبادرا بالاستجابة لهذه المطالب المعتدلة،بل لجئا إلى القمع الشديد والعنف المفرط وأظهرا تعنتا ومكابرة وتماديا في استخدام أبشع وسائل الترويع والقمع والتعذيب والتقتيل بحيث سقط في تونس أكثر من 300 شهيد و1207 جريح ،إضافة إلى مئات المعتقلين الذين تم تعذيبهم والتنكيل بهم في حين سقط بمصر أكثر من ثمانمائة وتسعين قتيلا وأكثر من آلف وخمسمائة جريح بالإضافة إلى اعتقال وتعذيب ما يزيد على ثمانية آلاف مواطن مصري،فأدت وحشية نظامي بن علي ومبارك وغباؤهما السياسي الذي لا ينفردان به عن بقية”قادة” الأمة الذين لم يسقطوا بعد،أديا إلى تجذير الثورة في كلا البلدين والى رفع سقف مطالب الجماهير الثائرة بحيث أضحت تنادي بإسقاط النظام ومحاكمة أزلامه وبلاطجته بدلا من الإصلاحات والتقويمات التي طالبت بها في البداية،ورب ضارة نافعة كما يقال.
وفي نفس السياق لم يمنع نعت العقيد القذافي الثوار الليبيين الأشاوس بالجرذان وتعهده بملاحقتهم(زنكة زنكة)لإبادتهم عن بكرة أبيهم بواسطة الطائرات الحربية وراجمات الصواريخ و تسميم مياه الآبار وجموع المرتزقة الأجانب ،لم يمنعهم ذلك من الاستمرار الحازم في ثورتهم المظفرة والمضي بها إلى تحقيق النصر سعيا لإقامة نظام ديمقراطي تعددي يكفل الحريات الأساسية ويضمن العدالة في كل إبعادها وتجلياتها ويصون حقوق الإنسان ويتيح قيام نسق تسود فيه العقلانية والحداثة والفكر المتنوربدلامن الشعارات الجوفاء و الترهات الموغلة في البلادة . وقد تحمل الشعب الليبي المناضل تضحيات جساما من اجل ذلك تمثلت بوجه خاص و لحد الآن في سقوط ما لايقل عن عشرة آلاف شهيد وخمسين ألف جريح ومعتقل،إضافة إلى عشرات الآلاف من النازحين والمشردين.
كذلك لن تحول وحشية النظام السوري البشعة والفاضحة الذي ارتكب فظائع يندى لها الجبين تمثلت على وجه الخصوص في إطلاق الرصاص الحي بشكل منتظم ومتعمد على رؤوس ورقاب وصدور المتظاهرين العزل من طرف القناصة و”الشبيحة”المندسين في صفوف المتظاهرين المسالمين،كما تمثلت فياستعمال العتاد العسكري الثقيل ضد المدنيين العزل و الأهالي المسالمين وفي تعذيب اليافعين حتى الموت من أمثال الطفل الرمز حمزة على الخطيب،والتمثيل بجثثهم وسلخ جلود البعض الآخر ناهيك عن تكبيل الشباب وطرحهم أرضا ودوسهم بالإقدام حتى الموت من طرف البلاطجة والشبيحة وعناصر المخابرات الذين ظهروا وهم يتلذذون برفس و ركل ودهسس أجساد الشباب الغضة بحقد ووحشية منقطعى النظير!!!. إلا أن كل هذه الهمجية الحيوانية لن تحول دون انتصار ثورة الشعب السوري البطل الذي بلغت تضحياته من اجلها إلى حد هذا اليوم ألفا وخمسمائة شهيد وعشرة آلاف جريح وما يزيد على خمسة عشر ألف معتقل!!
وسوف ينجلي غبار ودخان هذه الثورة المباركة عن ميلاد سوريا جديدة تنعم بالديمقراطية والحريات الأساسية ويؤوب إليها مئات مثقففيها المرموقين الذين أجبروا على الحياة في المنفى وسيتم توظيف ما تمتلكه من طاقات وكفاءات على الوجه الأكمل مما سيجعلها حقيقة لا ادعاء بلد مقاومة وممانعة في وجه المشروع الصهيوني ومن هم ورائه . وسوريا تستحق لعمري ذلك وأكثر .
ولن يفلح نظام على عبد الله صالح هو الآخر مهما بلغ مكره وخبثه ومهما كانت مراوغاته ومهاتراته في إيقاف حشود الشعب اليمني البطل المصممة على إزاحته والتخلص مما فرضه على البلاد والعباد من قمع وقهر وفساد واستبداد وتخلف طوال ثلاث وثلاثين سنة متوالية.
وقد بلغت تضحيات الشعب اليمني المقدام من اجل تحقيق أهدافه لحد الساعة ما يتجاوز 1500 شهيد و2500 جريحا فضلا عن مئات المفقودين.
وسوف تنبت الأرض اليمنية المباركة التي أروتها دماء الشهداء الزكية ديمقراطية تعددية تفسح المجال أمام أبناء اليمن جنوبه وشماله للتعايش في تفاهم وتآلف وانسجام.
وليس هناك شك والحالة هذه في أن الشباب العربي قد اتخذ القرار في تحمل مسؤولياته التاريخية في تحريك الساحة وهز عروش جبابرة الأمة وإخراج المارد العربي من القمقم الذي ظل حبيسه طوال قرون ، وصولا إلى تحقيق قفزة نوعية غير مسبوقة ،يكون لها ما بعدها ولو كره المفسدون. ولن يحد من عنفوان هذا الحراك أسطورة التآمر الصهيوني الامبريالي الصليبي ولا فزاعة القاعدة ولا شماعة الإرهاب التي تلوح بها بعض الأنظمة العربية في الوقت الراهن ،فهذه المبررات والمسوغات لم تعد تخدع أحدا بل صارت مدعاة للاستهزاء بهذه الأنظمة البائسة التي باتت قاب قوسين أو أدنى من الانهيار تحت ضربات شعوبها المتطلعة إلى غد أفضل والطامحة إلى تبوء مكانة أرفع بين الأمم.
ولا ريب أن هذه الثورات سوف تغير مجرى تاريخ الأمة العربية بل سوف تحور معالم خريطة العالم وتعيد ترتيب الأوراق على المشهد الدولي. فإذا أفضت هذه الثورات إلى قيام أنظمة ديمقراطية تعددية في الفضاء العربي، تكفل الحريات الأساسية وتضمن العدالة والمساواة وتمكين المرأة ، بحيث يصبح بمقدورها ليس فقط قيادة سيارتها لتوصل أبناءها إلى المدرسة ، دون أن تحدث ضجة تفضي بها إلى السجن كما حل بالسيدة منال الشريف ، بل أن تساهم في صياغة مستقبل الأوطان العربية وتشارك في إدارتها ، عندها سوف تتوحد أهداف الشعوب العربية وتتماهى تطلعاتها وينمو وعيها بضرورة العمل المشترك والجهود الموحدة والمواقف المنسجمة من اجل إسماع كلمتها وفرض رأيها ومراعاة مصالحها واحترام إرادتها.
فقيام الديمقراطية في الفضاء العربي هو الخطوة الأولى نحو بناء كيانات إقليمية متكاملة ومنسجمة وصولا إلى بناء فضاء موحد، وإقامة مؤسسات اقتصادية وسياسية وأكاديمية تكاملية وفعالة. وإذ ذاك سوف يصبح من الممكن أن تشكل الأمة العربية محورا مسموع الكلمة ومهيب الجانب على الساحة الدولية ، يكون بإمكانه أن يتعامل مع الدول العظمى من موقع الندية ويخاطبها بلغة المصالح التي لا تفهم سواها ، وسوف ترى هذه الدول نفسها مضطرة أن تعيره ما يشترطه من عناية واهتمام و احترام.
وهذا في التحليل النهائي هو الطريق الأمثل لمواجهة غطرسة إسرائيل و التعامل مع الازدراء البين الذي أظهره الكونكرس الأميركي لتطلعات الأمة العربية المشروعة لدى استقباله لبن يامين نتنياه في بحر الأسبوع المنصرم .
وهذا ما تعيه الولايات المتحدة الأمريكية جيدا رغم تجاهل الكونكرس لإرهاصات التغيير التي تلوح في الأفق العربي وهو كذلك ما يدركه الكيان الصهيوني رغم ما يبديه من تماد في غيه وتعنته.
وبكلمة واحدة فان انعتاق الشعوب العربية وتسنمها المكانة اللائقة بها بين الأمم وتخلصها من الاحتلال الصهيوني لأراضيها واستعادتها للقدس الشريف ونيلها لاحترام الأمم الأخرى، كل ذلك يمر حتما بإسقاط الأنظمة المتكلسة التي ما زالت تنوء بكلكلها على شعوب الأمة وبإنجاح الثورات العربية المحتدمة ألان وبقيام أنظمة ديمقراطية تعددية ضمن الفضاء العربي على أنقاض الأحكام الاستبدادية القروسطوية القائمة حاليا التي يستخف بها الغرب و مؤسساته والتي قد آن الأوان لإزاحتها وللتخلص من الفكر الظلامي الماضوي الذي يتيح إعادة إنتاجها لنفسها و يسمح بتأبيدها.
ولعل الثورات العربية الملتهبة الآن هي الخطوة الأولى على مسافة الألف ميل التي تفصل بين الأمة العربية والأهداف التي طالما تاقت إلى بلوغها و التي تحول بينها و ين كسب الرهانات التي طالما تمنت كسبها. و يبدو أن الأمة قد صممت على قطع كل المسافة. وسوف تقطعها لا محالة. و قديما قيل من دق الباب ولجّ،ولج.
نواكشوط¬، 30 مايو (أيار) 2011