أمتدح نهج النظام الحاكم وأكد أن “التصوف في موريتانيا متعلم في عمومه”
حوار: عبد الله اتفغ المختار
قال المفكر الإسلامي محمد المختار الشنقيطي إن “دعم الحركة الإسلامية لمحاولة الانقلاب عام 2003، كان جزءا من الثأر للمظالم التي ارتكبها ولد الطايع ضد أبناء الحركة وتعامله معهم بأسلوب التجريم والتشهير” وأعتبر الشنقيطي – في لقاء شامل مع صحراء ميديا – أن الرئيس محمد ولد عبد العزيز ” هو أول رئيس موريتاني يمنح الإسلاميين حقوقهم الدستورية في العمل السياسي والثقافي دون قيد أو شرط. كما تقدر الحركة له الجدَّ في محاربة الفساد، وهي سابقة جديرة بالتقدير من كل الموريتانيين، نظرا لما رأيناه خلال العقدين الماضيين من سلب ونهب هدّ أركان الدولة الموريتانية، وترك شعبنا في فقر مدقع رغم الثروات الهائلة في برنا وبحرنا” بحسب تعبير الشنقيطي.
وشدد الشنقيطي على أن “التصوف في موريتانيا تصوف متعلم في عمومه، يقوده في الغالب متفقهون في الدين، يدركون الفرق بين السنة والبدعة، وتقيدهم ثقافتهم الشرعية، فتحول بينهم وبين الشطح بعيدا، كما حدث في بلدان أخرى”.
ونفى الشنقيطي أي تجاف بين الحركة الإسلامية في موريتانيا وبين الطرق الصوفية، مؤكد أن “ما وقع من خلاف كان مبنيا على اختلاف المواقف السياسية، لا على أساس المفاصلة العقدية أو الفقهية” وأضاف قائلا: ” بعض مشايخ التصوف تخلوا عن شعار الزهد، وارتبطوا ببعض المصالح العاجلة مع بعض الحكام المستبدين، فأخذت الحركة الإسلامية عليهم ذلك. ولا تزال الحركة في موريتانيا ترتبط بعلاقة وثيقة مع بعض شيوخ التصوف الذين جمعوا بين العلم الشرعي والموقف الشرعي، مثل الشيخ اباه ولد عبد الله. كما أن في صفوف الحركة عدد من المتصوفة المجاهرين بانتمائهم الصوفي، وهو ما لا ترى الحركة فيه تناقضا مع الولاء السياسي لها ولرسالتها الإصلاحية” وفق تعبير الشنقيطي.
وهذا نص المقابلة:
صحراء ميديا: لعلكم من أكثر مفكري العالم الإسلامي اليوم عقلانية في التعاطي مع الإشكالات الفكرية .. لذا نريد لهذا اللقاء أن لا يكون تقليديا، بمعنى أننا نود أن نفتح معكم مواضيع مختلفة نبدؤها بموقف “الإسلام السياسي” إن صح التعبير من الديمقراطية التي ينزع جل منظريه إلى الإيمان بها على علاتها العقدية..واسمحوا لنا بأن نتساءل أين مفكرو الإسلام من اتهام البعض لهم بعدم تجاوز الإشكالات التي رافقت بدايات التأسيس الأيديولوجي للحركة الإسلاميّة؟
محمد بن المختار الشنقيطي: شكرا موصولا أخي الأستاذ عبد الله على الثقة، ولصحراء ميديا على توفير الفرصة للحديث إلى قرائكم الأكارم. لقد حسمتْ كل الحركات الإسلامية السياسية موقفها من الديمقراطية، بتبني الديمقراطية، والاقتناع بأن الشرعية السياسية هي مفتاح الأداء السياسي الجيد والتراكم السياسي المتوازن الذي ينهض بالمجتمعات. وباستثناء التيار السلفي الذي لا يزال متناقضا في موقفه من الديمقراطية -إذ هو يقاوم الاستبداد عمليا ويسوِّغه نظريا- فإن هذا الأمر أصبح محسوما في الأدبيات الإسلامية. أنا لا أتفق معكم أن للديمقراطية “علاَّت عقدية” فالديمقراطية ليست موقفا عقديا، وإنما هي صيغة إجرائية تسمح لنظام العقائد والقيم في المجتمع بالتعبير عن نفسه بحرية، وبتجسيد ذاته في قوانين وضوابط عملية. والقيم والعقائد تختلف من مجتمع لآخر. فقد يصوت برلمان دولة أوربية لصالح قانون يبيح عمل قوم لوط، بينما يصوت برلمان دولة مسلمة على قانون يحرم ذالك، وتتم كلتا العمليتين بأسلوب ديمقراطي شفاف رغم تناقض النتائج. فنتيجة الديمقراطية في مجتمع مسلم ستأتي بأحكام الإسلام من دون ريب، ونتائجها في مجتمع غير مسلم ستأتي بغير ذلك، ولا يتوقع منها غير ذلك. فالمعركة من أجل الديمقراطية اليوم هي جزء من المعركة من أجل الحياة الإسلامية، والديمقراطية هي الطريق إلى الإسلام، وليست انحرافا عنه.
أما عن عجز بعض الإسلاميين في بعض الدول العربية عن تجاوز مرحلة التأسيس، فهذا صحيح، وهو من أسباب التباطؤ في تطور بعض الحركات الإسلامية. وخذ –مثلا- قضية العمل السري الذي كان جزءا من تراث الحركات الإسلامية في طور التأسيس، بحكم ظروف القمع التي ولدت فيها تلك الحركات. فالعمل السري لم يعد ضروريا في بعض الدول العربية. لكن بعض الإسلاميين لا يملكون شجاعة العمل العلني، ومواجهة المجتمع في فضاء مفتوح يمحِّص الكفاءات، ويظهر الخلل وجوانب القصور في حركة التغيير الاجتماعي. بل يميل هؤلاء إلى العمل في الظل، والتحرك تحت جنح الظلام، لأن ذلك أستر للعيوب، وأضمن للابتعاد عن عين الرقيب المتربص من خارج الصف، وعين المحاسب النبيه من داخل الصف. والعمل في الظلام من خصائص المستبد، كما لاحظ عبد الرحمن الكواكبي، فكتب منذ أكثر من مائة عام في كتابه (طبائع الاستبداد): “لو كان المستبد طيرا لكان خفاشا يصطاد هوام العوام في ظلام الجهل، ولو كان وحشا لكان ابن آوى يتلقف دواجن الحواظر في غشاء الليل”. وفي أجواء العمل السري يسهل على من لا كفاءة لهم أن يتشبثوا بالقيادة، ويسدوا منافذها أمام غيرهم، فحالة الطوارئ الذهنية والعملية التي تصاحب العمل السري هي أحسن مُعين لعديمي الكفاءة على بقائهم في أي منصب قيادي، ولمن تجاوزتهم حركة المجتمع للتشبث بما ليسوا له بأهل، حيث لا مجال للفرز الواضح أو للمدافعة العاصمة من الفساد. والمحافظة على شرعية القيادة مع ظلمات العمل السري أمر عسير للغاية، فالشرعية والسرية أمران لا يجتمعان في الغالب الأعم، والاستبداد والسرية حليفان في الغالب الأعم. فكما تميل أنظمة الاستبداد بحكم طبيعتها الاستبدادية إلى السرية والتكتم، فإن الحركات السرية تميل بحكم طبيعتها السرية إلى الاستبداد. وقد سرتني كثيرا تصريحات بعض القادة الإسلاميين في موريتانيا مؤخرا، حينما أعلنوا تخلي الحركة الإسلامية في موريتانيا عن العمل السري، وانخراطها في العمل العام المفتوح.
صحراء ميديا: ربما يواجه الإسلاميون، وأعني التيار العريض للإخوان تهمة استعجال الوصول إلى مقاليد الحكم، وأن غايتهم ومنتهى أملهم هو السلطة كلّها وعلى جميع مستوياتها وتمظهراتها، وعلاقتهم كانت قوية – هنا في موريتانيا وعلى سبيل المثال للحصر- بالمحاولة الانقلابية الدامية التي قادها فرسان التغيير عام 2003، ثم إنهم هم أول من اعترف من أحزاب المعارضة بنتائج الانتخابات الرئاسية الأخيرة التي أوصلت الجنرال محمد ولد عبد العزيز إلى السلطة؟
محمد بن المختار الشنقيطي: من الطبيعي أن تسعى كل حركة سياسية أو حزب سياسي إلى الوصول إلى السلطة، فهذا جزء من تعريف العمل السياسي. لكن الوصول إلى السلطة ليس “غاية ومنتهى أمل”، وإنما هو وسيلة لبناء المجتمع. ومع ذلك فلا يبدو لي أن الحركة الإسلامية في موريتانيا تستعجل الوصول إلى السلطة، وإنما هي تسعى إلى أن تكون جزءا فاعلا في الفضاء السياسي، وأن تتمتع بالحرية الكاملة في إبلاغ رسالتها الفكرية والسياسية إلى الناس. وربما يفسر هذا جزئيا اعتراف الحركة المبكر بسلطة الرئيس محمد ولد عبد العزيز، وقربها منه مقارنة مع بعض قوى المعارضة الأخرى. وذلك أن عزيز هو أول رئيس موريتاني يمنح الإسلاميين حقوقهم الدستورية في العمل السياسي والثقافي دون قيد أو شرط. كما تقدر الحركة له الجدَّ في محاربة الفساد، وهي سابقة جديرة بالتقدير من كل الموريتانيين، نظرا لما رأيناه خلال العقدين الماضيين من سلب ونهب هدّ أركان الدولة الموريتانية، وترك شعبنا في فقر مدقع رغم الثروات الهائلة في برنا وبحرنا.
أما دعم الحركة الإسلامية لمحاولة الانقلاب عام 2003، فقد كان جزءا من الثأر للمظالم التي ارتكبها ولد الطايع ضد أبناء الحركة وتعامله معهم بأسلوب التجريم والتشهير، وهو ما فعله ضد قطاعات عريضة من الشعب، بمن فيها جل الحركات والأحزاب السياسية، فلم يعدل معاوية في شيء مثل عدله في توزيع الظلم على الجميع. وبالمناسبة فإن أغلب القوى السياسية المعارضة لولد الطايع، دعمت فرسان التغيير، بمن في ذلك قادة أحزاب سياسية معروفة، ومترشحون سابقون للرئاسة، وحركيون يساريون. فلم تكن الحركة الإسلامية سوى جزء من هذه الفسيفساء التي جمعتها روح الثأر ضد نظام ولد الطايع الذي استعبد الأحرار، ونهب البلاد، وتحالف مع إسرائيل.
ومع ذلك فأنا أنصح الإسلاميين في كل مكان بعدم القفز إلى السلطة بوسائل غير شرعية، حتى وإن مكنهم ميزان القوى الداخلي من ذلك. ويتعين هذا الأمر في الدول التي تعيش تحولا ديمقراطيا، ويتمتع فيها الإسلاميون بحقوقهم الدستورية في العمل السياسي. فالموقف السليم أخلاقيا وسياسيا في هذه الدول هو أن ترضى القوى الإسلامية بموقعها، جزءا من التطور السياسي السلمي نحو سلطة شرعية وفاعلة، حتى تنمو إلى حزب أغلبية يحكم بالقانون ويحكُمه القانون. وفي تجربة الحركة الإسلامية السودانية عبرة، فهي حركة استعجلت الثمرة، في ظروف تهديد وخوف، فاقتطفت الثمرة مريرة المذاق، وأساءت التصرف في المسؤولية التي تحمَّلتها افتئاتا على شعبها، وهدمت تراث نصف قرن من تاريخها، كان مفعما بالعمل التنظيمي والسياسي المبدع. لقد كان انقلاب الإنقاذ في السودان آخر نجاح باهر للمنهج الحركي الذي انتهجه الإسلاميون السودانيون، لكنه وضعهم على عتبة أول فشل سياسي مدوٍّ في تاريخهم. وهكذا تحوَّل ذلك الاختراق العظيم لجهاز الدولة الذي نجح فيه الإسلاميون السودانيون، وفشل فيه غيرهم من الإسلاميين في الدول العربية، إلى أكبر كارثة على حركة التغيير التي بشر بها قادة الحركة، وربَّوا عليها أجيالا من الإسلاميين داخل السودان وخارجه. لقد تمخض النجاح العظيم في منهج الحركة عن فشل عظيم في إدارة الدولة، وهنا تكمن المفارقة، وتظهر العبرة التي نحتاج إلى الاعتبار بها اليوم. وتكمن العبرة هنا في أن التضحية بالشرعية السياسية لصالح أي قيمة أخرى هدم لأساس الاجتماع السياسي، واختلال في الموازين الأخلاقية والسياسية. وليست الحركة الإسلامية السودانية هي وحدها التي تستحق العتب على هذه النكسة في التطور السياسي السوداني، ولكن يتحمل ذلك أيضا أولئك الضباط المغامرون من قادة الجيش السوداني الذين هددوا الحكومة السودانية المنتخبة عام 1989 بالتخلص من الإسلاميين أو مواجهة العواقب، في تهديد صريح بالانقلاب العسكري عليها وعلى الإسلاميين. فالمشكلة في جوهرها ترجع إلى ضعف الثقة بين الفاعلين الاجتماعيين في أوطاننا، وتفريطهم في بناء قواعد سلمية لتداول السلطة وحل الخلاف. كان نيلسون مانديلا يقول مزدهيا وهو شاب يافع يقود الجناح العسكري للمؤتمر الوطني الإفريقي: “إن الحق والديناميت إلى جانبنا.” وكان يقول: “إذا حرَمك أهل السلطة من الحرية فإن طريقك إلى الحرية هو السلطة”. لكن ذلك الحكيم الإفريقي أدرك -بعد أن عركتْه التجارب وأنضجتْه السنون- أن الحق يمكن أن ينتصر من دون الديناميت، وأن تحدي القوة الغاشمة بالحق الظاهر غير الملجلِج كفيل بتعريتها وهدّ أركانها في النهاية. ويبدو أن الحركة الإسلامية في السودان نهجت نهج الزعيم الإفريقي الشاب، حينما قررت أن لا يستضعفها نظام قمعي أو يصادر مشروعها السياسي، كما استضعف غيرها من الحركات الإسلامية وصادر مشروعها بطلقة بندقية وتسطير بيان.. لكنها فرطت في الحكمة السياسية التي توصل إليها مانديلا في كهولته ونضجه، وعبر عنها في مذكراته المعنونة (طريقي الطويل نحن الحرية) بالقول: “الثورة ليست مجرد الضغط على الزناد، ولكنها حركة تهدف إلى إقامة مجتمع العدل والإنصاف”.
وعموما فأنا أرى أن المستقبل في الدول العربية خصوصا، وفي العالم الإسلامي عموما، سيكون لمن يتبنون منهج الليبرالية الإسلامية التي تتمسك بقيم الإسلام دون إكراه، وتتشبث بحرية الفرد والمجتمع دون وصاية. كما أرى أن الحركات الإسلامية بحاجة إلى مراجعة رؤيتها السياسية في التغيير أخلاقيا واستراتيجيا، من رؤية محكومة بالخوف من السلطة والطمع فيها، إلى رؤية محكومة بالأمل في الشعب والسعي إلى تحريره. وهذا النهج هو الذي انتهجتْه القوى الإسلامية في تركيا، وقصرت فيه القوى الإسلامية في الدول العربية حتى الآن.
صحراء ميديا: آخرون يرون أن الصحوة الإسلامية بحضورها الثقافي والإعلامي والنقابي وتغلغلها القوى في العمل الإحتماعي تسعى لسدّ الفراغ الذي أحدثه تراجع المدّ اليساري، وإلى تقديم نفسها بديلاً سياسيّاً اجتماعياً عنه..أين محمد المختار الشنقيطي من هذا الطرح؟
محمد بن المختار الشنقيطي: أعتقد أن في هذا تبسيطا للظاهرة السياسية الإسلامية، وهي ظاهرة كانت ضاربة الجذور في تراث الأمة وتاريخها قبل وجود اليسار. فاليسار ليس أكثر من صفحة عابرة في تاريخ هذه الأمة، ظهر في عتمة التأثير الأجنبي، ثم انحسر بانحساره. بينما تعتبر الصحوة الإسلامية امتدادا لتاريخ طويل من حركات الإحياء والإصلاح. فليست الصحوة الإسلامية بديلا عن اليسار، بل هي امتداد ليقظة أمة تتقدم إلى مسرح التاريخ بعد ليل طويل من الانحطاط والاستعمار. ولست أقلل من شأن اليسار ودوره في حركات التحرر ومقارعة الاستبداد، لكني أرى أن الربط بينه وبين الصحوة الإسلامية ربط غير سديد بمنطق التحليل التاريخي.
صحراء ميديا: اسمحوا لي، هي فعلا مقابلة صحفية، وليست محاكمة للتيار الإسلامي البتة، ولكن فرصة لقائكم تثير في الصحفي ما لم يخطر بباله قبل من الأسلة المحرجة ربما لغيركم، ولأن الأمر كذالك فإننا مطالبون ببحث مسائل أخرى ..هل أنتم راضون عن وضع المرأة في العالم الإسلامي؟ وهل من مقاربة اسلاموية تسمح بقراءة جديدة للنصوص على ضوء متطلبات المرحلة؟
محمد بن المختار الشنقيطي: أنا أميل إلى عدم شطر المشكلات الاجتماعية والسياسية أو تجزئتها. وأرى أن مشكلة المرأة المقهورة لا يمكن فصلها عن مشكلة الرجل المقهور. فجوهر القضية هي الإنسان المقهور في أوطاننا، وكيف نحرره ليحقق رسالته في الحياة، ويعيش بكرامة واحترام للذات وللغير. كما أن مشكلة الأقليات المضطهدة، جزء من معضلة أكبر هي معضلة الأكثريات المضطهدة على أيدي حكامها. نحن بحاجة إلى رؤية تأسيسية، تقوم على بعث نظام أخلاقي يتأسس على الإيمان المبدئي بكرامة الإنسان، وبحرية الفرد بغض النظر عن دينه وجنسه وبشرته ولغته. وحينما نتوصل إلى ذلك، نستطيع أن ننزل إلى التفاصيل، وننظر في مستوى التوزيع العادل للحرية والكرامة بين الأكثرية والأقلية، وبين الرجل والمرأة…الخ أما الصراع على توزيع عدالة مفقودة وحرية محجوبة فهو وضع للعربة أمام الحصان. وأما النص الشرعي فليس عقبة في وجه تحرر المرأة أو الرجل، ففي أجواء الحرية وإطلاق العنان للاجتهاد، سنتوصل إلى حلول إسلامية لكل المشكلات.
صحراء ميديا: حركة الإخوان المسلمين بدون شك هي كبرى الحركات الأيديولوجية في العالم العربي، ولها حضورها القوى والفاعل في موريتانيا..هل تخلت هذه الحركة العالمية عن مطلب تطبيق الشريعة الإسلامية؟ وهل لكم مآخذ على هذه الحركة هنا أو هناك..وبعبارة أخرى هل هناك انسجام بين النظرية والتطبيق؟
محمد بن المختار الشنقيطي: لم تتخل حركة الإخوان طبعا عن مطلب تطبيق الشريعة، ولن تتخلى عن ذلك، لكنها أصبحت أكثر نضجا وأقل سذاجة في فهمها لتطبيق الشريعة. لقد كان مفهوم تطبيق الشريعة مشوها في أذهان الكثير من الإسلاميين، إذ حولوه مفهوما جنائيا، وكأن قطع يد سارق سرق دريهمات على يد سارق سرق مليارات هو الشرع ذاته!! أو كأن رد بيت من مغتصبه إلى صاحبه على يد من اغتصب وطنا بأكمله هو العدل عينه!! أو كأن تحرير فرد واحد من السجن على يد من تحكم في رقاب ملايين البشر أمرا ذا بال!! والحق أن تطبيق الشريعة يبدأ أولا ببناء نظام سياسي يكون القانون فيه فوق الإنسان، حاكما ومحكوما. فأساس الشريعة العدل، ولا عدل إذا ظل بين المواطنين من هو فوق القانون ومن هو تحت القانون. ومهما يكن جمال القانون – سماويا كان أو أرضيا- فلن يكون له أثر عملي إذا لم يتصف بصفة العموم والإطلاق. كان أبراهام لنكولون يقول: “لا أحد فوق القانون ولا أحد تحت القانون”، وكان جان جاك روسو يقول: “هذه هي المشكلة الكبرى في السياسة: إيجاد شكل من الحكم يضع القانون فوق الإنسان”. وبهذا التفكير استطاع الإنسان الغربي أن يحقق العدل لنفسه في وطنه، رغم قصور قوانينه الأرضية عن شريعة الإسلام السماوية، ورغم جوره في تعامله مع الآخرين خارج حدود أرضه. أما في دنيا العرب والمسلمين فلا يزال الحاكم فوق القانون لا يُسأل عما يُفعل، ولا يزال أغلب الشعب تحت القانون لا يجد إنصافا ولا عدلا. ولا يزال هوى الفرد المتأله هو المرجع الأخير. فإن أحسن الحاكم منَع مواطنيه من بعض التظالم فيما بينهم، مع ولوغه هو في ظلمهم جميعا. فمثله مثل الإقطاعي القديم، الذي يمنع عبيده من اعتداء بعضهم على بعض، لكنه يمارس الاسترقاق والظلم عليهم جميعا. وهذا اختلال خطير في الأولويات الشرعية، أدى إلى اختلال في التطبيق. فكم يدا تم بترها ويد الحاكم الذي بترها أولى بالبتر، وجرمه أكبر، وسجل مظالمه أعرض. وكم سجينا عانى وامتهنت كرامته الإنسانية في أرض يدين أهلها بشريعة العدل الإسلامية. ولذلك فإن إقامة حكم سياسي ديمقراطي يحترم إرادة الأمة وحرية الفرد هو السبيل إلى تطبيق أحكام الشريعة الإسلامية، بل هو أهم جزء من هذا التطبيق في أخطر مناحي الحياة وأكثرها إثارة للخلاف، موضوع سالت فيه الدماء والدموع مدرارة، وهو موضوع: من يحكم من؟ ومن يخضع لمن؟ وأعتقد أن هذا الأمر هو الذي ينبغي أن يلح عليه الإسلاميون في المستقبل: الشرعية السياسية أولا، ثم تطبيق الشريعة بعد ذلك. والحق أن الشرعية السياسية تطبيق للشريعة في شقها الدستوري الأهم، وما ندعوه اليوم “تطبيق الشريعة” مجرد تنفيذ لها في الجانب القانوني التفصيلي. وكل من يفهم السياسة والقانون يدرك أولوية الدستور على القوانين التفصيلية. وعموما، فلن تقام أحكام الشريعة إلا إذا احتضنتها الغالبية من أبناء الشعب، وأصبحت تعبيرا إجرائيا عن إرادة أمة حرة، يلتزم بها جميع السياسيين طوعا وكرها، كما هو شأن الأحكام الدستورية والقانونية في دول الغرب اليوم. ولن ينجح مشروع سياسي لا يجعل حرية الإنسان وكرامته همه الأهم. أما الصراع بين الإسلاميين والعلمانيين حول هوية القوانين التي تحكم المجتمع، هل يجب أن تكون إسلامية أو وضعية، فهو صراع زائف في الوقت الحاضر، ما دامت دولنا لم تؤسس لحكم القانون أصلا. أعتقد أن الإخوان وضعوا أقدامهم على الطريق الصحيح بتركيزهم على حكم القانون بدل التركيز على هوية القانون. وحينما نحسم الأمر لصالح حكم القانون، ونتخلص من حكم الهوى الفردي لحكامنا، ستصبح الظروف ناضجة للنقاش حول هوية القوانين التي ستحكمنا. وحينها سيتحيز الإخوان –بل غالبية المسلمين- إلى تطبيق الشريعة في شقها القانوني التفصيلي، ويصبح ما ندعوه اليوم “تطبيق الشريعة” إجراء عمليا، لا شعارا سياسيا.
أما مآخذي الفكرية والعملية على حركة الإخوان فأقترح عليكم الرجوع فيها إلى مقالاتي المنشورة على موقع الجزيرة نت، وخصوصا مقال: “ملامح المأزق القيادي لدى الإخوان المسلمين” ومقال: “الإخوان المسلمون من التنظيم المغلق إلا الفضاء المفتوح”.
صحراء مديا: أخيرا، هل أنتم ممن يعتقد أن الصوفية في هذه البلاد عائق في وجه تيار الإخوان؟..عهدي بك صريحا، لا تنتقي الأجوبة الدبلوماسية خلافا للبعض
محمد بن المختار الشنقيطي: لا أعتقد أن الصوفية في موريتانيا عائق في وجه حركة الإخوان المسلمين. فقد نشأت حركة الإخوان المسلمين منذ البدء بخلفية صوفية، فمؤسسها الإمام الشهيد حسن البنا كان عضوا في طريقة صوفية، هي الطريقة الحصافية. لكن الحركة ابتعدت بعد ذلك قليلا عن أجواء التصوف ومقولاته. ورغم أن المنحى التجديدي لدى شباب الحركة يميل بهم إلى الرجوع إلى أصل الدين ومنابعه الأولى، وإلى التجافي عن طرائق التدين العرفية التي شابها بعض الغبش والبدع، فإن فقه الحركة فقه إصلاحي مبني على استثارة مكامن الخير حيثما كانت، ولو لا بسها بعض انحراف. وبناء على هذا النظر الفقهي والتقدير المصلحي انفتحت حركة الإخوان في بلدان كثيرة على الطرق الصوفية واستوعبت منهم كثيرين، فأفادوها حشدا وكمًّا سياسيا، وأفادتهم فقها شرعيا وعملا ميدانيا.
ولئن كانت بعض التيارات السلفية قد شغلتها محاربة البدع التي شابت التصوف، وبالغت في ذلك إلى حد الجفاء، فإن حركة الإخوان لم تجد مسوغا للتركيز على هذا الجانب، نظرا لأن البدع الموروثة في طريقها إلى التلاشي أمام الوعي الإسلامي الأصيل، والثقافة العقلية المعاصرة، كما أن أسلوب الجفاء والإنكار برهن على فشله في كسب قلوب المتدينين على الفطرة من المتصوفة. ولذلك اتجهت الحركة إلى التركيز على البدع السياسية، مثل بدعة الشيوعية والعلمانية والاستبداد.
ثم إن التصوف في موريتانيا تصوف متعلم في عمومه، يقوده في الغالب متفقهون في الدين، يدركون الفرق بين السنة والبدعة، وتقيدهم ثقافتهم الشرعية، فتحول بينهم وبين الشطح بعيدا، كما حدث في بلدان أخرى. لذلك لم يقع تجاف بين الحركة الإسلامية في موريتانيا وبين الطرق الصوفية، وما وقع من خلاف كان مبنيا على اختلاف المواقف السياسية، لا على أساس المفاصلة العقدية أو الفقهية. ذلك أن بعض مشايخ التصوف تخلوا عن شعار الزهد، وارتبطوا ببعض المصالح العاجلة مع بعض الحكام المستبدين، فأخذت الحركة الإسلامية عليهم ذلك. ولا تزال الحركة في موريتانيا ترتبط بعلاقة وثيقة مع بعض شيوخ التصوف الذين جمعوا بين العلم الشرعي والموقف الشرعي، مثل الشيخ اباه ولد عبد الله. كما أن في صفوف الحركة عدد من المتصوفة المجاهرين بانتمائهم الصوفي، وهو ما لا ترى الحركة فيه تناقضا مع الولاء السياسي لها ولرسالتها الإصلاحية.