تكمل موريتانيا المستقلة هذه الأيام عامها الخمسين،والخمسون في حياة الدول ليست شيئا مذكورا ولكنها في حياة الأفراد منعرج خطير ،وقد قال شاعر قديم في تصنيف مراحل حياة الإنسان:
وابن خمسين مر عنه صباه
فيراه كأنه أحلام
أما الشاعر الحديث نزار قباني فيقول:
إنها الخمسون ماذا بعدها
غير أمطار الشتاء المحزن
وموريتانيا الدولة هي موريتانيا الفرد،فهي حتى الآن دولة حكم الفرد وليس للمؤسسات فيها غير الوجود الشكلي.
لم ترث البلاد من المستعمر غير اسمها ولا شيئ غير ذلك من بنى تحتية ولا موارد بشرية مؤهلة لمواجهة تحديات الوجود التي ترعرعت الدولة تحت أعاصيرها.
وقد عبر مؤسس الدولة عن ذلك بصدق في عنوان مذكراته “موريتانيا على درب التحديات”،وإن كانت الترجمة تقريبية للعنوان الحقيقي:”la mauritanie contre vents et marees ،التي تقرب ترجمتها من “موريتانيا في مواجهة العواصف والأمواج”،وهي صورة السفين التائه تتقاذفه الأمواج وسط الأعاصير،حيث كانت أطماع الدول المجاورة تتهدد هذا الوجود،وكانت الساكنة تتشكل من أعراق وقبائل متنافرة وجدت في المستعمر ملاذا من نفسها ولم تكن تتصور الاستغناء عن هذا الملاذ،إضافة إلى شح شديد في الموارد وعقلية بدوية تستعصي على أي نوع من التنظيم.
بدأت البلاد إذن خطواتها الأولى في هذا الخضم المتلاطم من المصاعب،وكان عليها أن تجاهد تسع سنين من طفولتها،لتبدأ في التعايش مع جارتها الشمالية،قبل أن تورطها بعد ست سنوات فقط في حرب الصحراء التي دبرتها عليها جارة أخرى آنست منها ضعفا فصممت على أن تنهكها وتذهب ريحها ،كي تتردى في مصير بائس هو الحكم العسكري الذي أطاح بقيمها وحولها إلى عصابات تعبد المادة وتدوس المبادئ وتتجرد من الكرامة،لا فرق بين حاكم عسكري يرتدي بزته وحاكم عسكري يرتدي بدلة مدنية تلف عقلية وممارسات عسكرية وتجعل البلاد تدار كأية ثكنة صغيرة.
كانت مهمة الجيش فيما يروي الرواة الدفاع عن حوزة البلاد وأمنها وسيادتها،قبل أن تتحول في العالم الثالث إلى أدوات قمع للشعوبوكبت لحريتها وتدجينها وتحويلها إلى قطعان من المنافقين والمصفقين.
لقد تواترت حجج تربو على ثلاثة عقود ونحن نتأرجح بين الانقلابات الناجحة والفاشلة وبين انتخابات لا يعرف الغالب فيها من المغلوب حسب ما تدعيه أطراف الصراع.ولا تغني نتائجها عن انتفاضات في أروقة الحكم وجلد الناس بالبلاغ رقم واحد وما يستتبع ذلك من إحساس بعدم الاستقرار وأزمات مع الخارج وشحذ شهيات جديدة في الداخل.
هكذا نحن اليوم في سن الخمسين : مراهقون في ممارسة السلطة وفي اللهث خلف المكاسب المادية،حتى إن الوطن ومستقبله لم يعودا من أولوياتنا عكس ما نشأ عليه الجيل الأول من وطنية وتفان ونزاهة.
المراهقة تتجلى في التمرد على القيم وفي الأنانية وفوران الغرائز،غرستها العقود الثلاثة الأخيرة ولابد من فترة مماثلة نبلغ معها سن التعقل والحكمة إذا بدأنا في العلاج منذ الآن.
وإذا أردنا أن نقوم مسيرتنا وما آلت إليه اليوم،أمكننا ان نقول بتجرد وموضوعية إننا لسنا أسوء من كثير من بلدان العالم الثالث في المجالات الهامة مثل الحريات والديموقراطية والتنمية،بل نمتاز عنها بثرواتنا الطائلة وإن لم يقدر لنا أن نستفيد منها حتى الآن ،إلا أنها تبقى نافذة مشرعة على مستقبل واعد.
ففي مجال الحريات بالغ الموريتانيون في إنشاء الأحزاب والمنظمات غير الحكومية كما تعددت المواقع الإلكترونية والصحف المستقلة التي لا يستمر في الصدور منها إلا عدد قليل،ولكنها تتيح التعددية في الآراء وتمارس النقد إلا أنها غير مقروءة من قبل الجماهير ولا تغير من ممارسات السلطة ولا تؤثر في توجهاتها.
وقد تظهر من حين لآخر كوابح لحرية الإعلام ولكنها تثير من ردود الفعل ما يجعلها تفقد غايتها التي مورست من أجلها.
وفي مجال الديموقراطية والتبادل السلمي على السلطة،بدأت الدولة مع الأحزاب ونظام برلماني،ولكنها ما لبثت أن سارعت إلى نظام رئاسي مركزي وحزب واحد مصون بالدستور.وربما كانت هذه المرحلة ضرورية لتجذير الوحدة الوطنية لشعب متعدد الأعراق والانتماءات.وعندما بدأت مخايل الانفتاح تتراءى في الأفق البعيد،ألغت حرب الصحراء كل ما يمت إلى المعركة بصلة قبل أن يتم وأد هذه الخواطربوصول الجيش إلى السلطة سنة 1978 ومنعه تعاطي أي نشاط سياسي حتى سنة 1991 .
والحقيقة أن مطالب المشاركة السياسية والتعددية الحزبية،لم تتأت من ضغوط شعبية ولا بدعوات من النخب السياسية والطبقات المثقفة،بل جاءت وكأنها مفروضة من الخارج،عندما ربط شركاؤنا في التنمية مساعداتهم بانتهاج هذا النهج الجديد على المجتمع المتأصل في قبليته وتناقضاته. وهكذا وضع دستور جديد وصممت الديموقراطية بطريقة ترضي الغرب على أن لا تمس بما هو أساسي ،أي بقاء النظام على حاله.وقد ساعد استمرار هذا النمط من الحكم طبيعة الشعب الموريتاني(وهي طبيعة أغلبية شعوب العالم الثالث) ألا وهي التأييد الأعمى لكل من يصل إلى الرئاسة بأية طريقة ومجاراته والتملق له مادام في مقعده الوثير حتى إذا دارت الدوائر انقلبت الجماهير ضده في هستيريا”غريبة””كلما دخلت امة لعنت أختها”.وهذه حالة ليست جديدة فقد قال أبو الفتح البستي:
الناس أعوان من وافته دولته وهم عليه إذا خانته أعوان. أما أن يقع تبادل سلمي على السلطة كما نرى في ديموقراطيات العالم فهو ما لم يسجل لدينا إلا مرة واحدة سنة 2007 كالشذوذ الذي يؤكد القاعدة.
أما في مجال التنمية،فإن ظروفها مواتية نظريا،فنحن نتوفر على شواطئ غنية جدا بالأسماك ،وثروة حيوانية ضخمة وأرض زراعية خصبة تقع على ضفة نهر غزيرالمياه،إضافة إلى ثروات معدنية لا تكاد تحصى ،إذ لا نكاد نسمع بيانا لاجتماعات الحكومة الأسبوعية إلا وصمت آذاننا من سرد الأعداد الهائلة من رخص التنقيب.إلا أن المواطن ما زال ينقب عن أية فائدة يجنيها من كل هذه الثروات بل إنه ما فتئ يتردى يوما بعد يوم في دركات الفقر والبؤس والمرض والأمية. أما في مجال تنمية الموارد البشرية،فقد وقع اهتمام بالتعليم خلال العقدين الأخيرين،لكن طغيان الكم فيه على الكيف أفقده غائيته.وقد تواترت إصلاحاتللنظام التربوي ما بين سنة 1959 حتى 1999 ،غير أنها لم تجد نفعا،إذ كانت مضطربة مرتبكة وفي بعض الأحيان مرتجلة عمقت نوازع التفرقة وحولت مؤسساتنا التعليمية إلى مصانع لإنتاج الجهالة والبطالة إذا قدر لها أن تنتج شيئا،فالحكم على نجاعة أي نظام تربوي إنما يستند إلى نتائج الامتحانات الوطنية،والكل يعرف ما هي نسب النجاح في هذه الامتحانات في جميع مستوياتها.
وعلى مستوى البنى التحتية،فقد سجل بعض التقدم في مجالات الطرق والمطارات والكهرباء والاتصالات وغيرها من المشاريع الاقتصادية والاجتماعية ،ولكنها ضئيلة أمام احتياجات البلاد،هزيلة إذا قيست بالأموال التي تدفقت على البلاد خلال السنين الأخيرة.
ففي مجال بناء الطرق أخشى أن يكون هناك بعض الرياء،إذ لا نكاد نفرح بطريق جديد إلا وبكينا على طريق كانت قائمة فتدهورت تدهورا مريعا،ولا نكاد نسمع بوصول الكهرباء على مكان إلا نغصت علينا فرحتنا انقطاعات في أماكن أخرى وشائعات بأن شركتنا الوطنية في حالة احتضار.
وفي حقل الاتصالات ،أصبح لكل مواطن جواله وأصبح ينفق عليه أكثر مما ينفق على عياله،فامتصت الشركات الثلاث كل ما لدى المواطن الفقير أصلا من إمكانات حتى قال البعض إن مكافحة الفقر يجب أن تمر بمحاربة الهاتف الجوال.
هذا وقد حصلت البلاد مؤخرا على وعود بتمويل عديد المشروعات التنموية ،ولكن الإدارة الحكومية بوضعها الحالي عاجزة عن استيعاب هذه التمويلات من حيث القيام بالدراسات اللازمة وتعبئة ومساهمة الدولة في التمويل،مما يهدد باستنفاذ الآجال المحددة لها وإلغائها بالتالي.
وإلى جانب عجز الإدارة ،فإن الفساد ما زال يعشش في اوكارها،متحديا مظاهرالحرب المعلنة عليه.ولعله هو أكبر التحديات التي تنصب في طريق التنمية،ومحاربة الفساد لا يمكن أن تتم بالمفسدين،فكيف لفارس محاربة الفساد أن ينتصر في معركته وجل أعوانه مفسدون،إنما ذلك كمن يحلب في غربال أو يضرب بقضيب على أديم اليم الزاخر،فالإدارة اليوم تتظاهر بالخوف من أجهزة الرقابة،ولكنها في إضراب وشلل متواطئ عليه ،بسبب انعدام وسائل العمل المرتبطة بصرف الاعتمادات المخصصة لها ورفض الاستقامة طبقا لما جرت عليه العادة،فكأننا نشهد حربا حربا غير معلنة ضد الحرب المعلنة.
ومن كوابح التنمية أيضا سلوك المواطن تجاه الدولة،فهو ملح في الاستفادة منها،ملحف في المطالبة بحقوقه عليها،متهاون في أداء ما يجب عليه نحوها،فهو لا يزال ينظر إلى الدولة كما كان ينظر إلى المستعمر منذ أكثر من خمسين سنة.
هذه صورة نقدية خاطفة لما نحن عليه اليوم ،والحاضر كما يقال هو بوابة المستقبل،لذلك يتعين وضع سياسات جديدة للتغلب على مختلف العوائق،على أن تشمل الإدارة والتعليم والاقتصاد والأمن والتشغيل وممارسة الحريات العامة والمشاركة السياسية،وتوطيد دعائم الوحدة الوطنية ومشاغل المجتمع في معاناته اليومية.
ولن يسع مقال مثل هذا مفاصل هذه السياسات،بل سأكتفي بالإشارة إلى بعض مواطن الخلل عسى أن يكون في تلافيها بعض الأسس التي يمكن البناء عليها.
فالإدارة يجب أن تكون تنموية لا بوليسية ولا قمعية،ويكون مقياس مردوديتها ما تنجزه في مجال التنمية،وان تتخفف من الرتابة و”البيروقراطية” على أن يوضع توصيف دقيق لما على كل عامل فيها ان ينجزه،ويفر لها ما يتيسر من الوسائل وتمنح الثقة،وحرية المبادرة،وأن يبتعد عن مركزية القرار في مجال التسيير لا أن يكون كل شيئ بيد أعلى سلطة في الدولة تتيه في تفاصيله وجزئياته.
كما ينبغي أن يتم تكييف أهداف التعليم مع حاجيات البلاد،وأن يعاد الاعتبار إلى الكيف وتنمية القدرات العقلية والتحليلية والتعلم الذاتي،فالتربية الناجحة لا تقوم على حشو الأدمغة بمعلومات تتبخر غداة يوم الامتحان،بل على المنهجية والقدرة على البحث ،أي على تعليم الإنسان كيف يتعلم.
وفي مجال الاقتصاد أثبتت هيمنة الدولة فشلها،كما أحدثت استقالتها أضرارا فادحة لما أنتجته الليبرالية المتوحشة من فوضى وعمقت الهوة بين الأغنياء والفقراء،فلابد إذن من وجود الدولة لحماية المواطن ضد وحشية الحريات الجامحة للاقتصاد،على ألا تصبح تاجرة تنافس رجال الأعمال الوطنيين وتخنق ببيروقراطيتها وروتينها المقيت،وجنوح مسؤوليها إلى التفنن في التعقيد ووضع العراقيل المبادرات المبدعة نحو الخلق والإنتاج.
أما بالنسبة إلى الثروات المعدنية فلابد من إعادة النظر في تقاسم الإنتاج بين الدولة والشركات الأجنبية ،حتى يكون لهذه الثروات نفع للبلاد والعباد. كل هذا لا يمكن أن يتم إلا في ظروف أمنية مواتية، تجمع الدولة فيها بين الصرامة ووضوح الرؤية والعدل والإقناع ومعالجة مسببات التطرف من فقر وبطالة وانسداد آفاق.
وإلى جانب الأمن هناك الوحدة الوطنية التي هي أساس وجود البلاد وهي ما تزال هشة،خاصة وأن خطابات التطرف العرقي قد تكاثرت في الآونة الأخيرة،تارة باسم حقوق الإنسان وأحيانا تحت شعار الحقائق التاريخية،مستهدفة إثارة النعرات العنصرية ،مما يوجب على حكماء البلد ومثقفيه وقادة رأيه أن يتصدوا لها بما تستحقه من حزم وثبات.
إن مواجهة كل هذه الاختلالات هو مفتاح المستقبل،وعليه فإن الإخلاص في العمل والصدق في القول هما وسيلتا الوصول إلى بر الأمان،لا أن نبقى سادرين في غلواء الرضى عن النفس وتضخيم المنجزات.
ومع أن ما نشهده عبر وسائل الإعلام الرسمية من حركية في مختلف المجالات يبعث على التفاؤل الحذر،فإن كل هذه الجهود لن تؤتي أكلها إلا بتغيير أساليب التخطيط والتسيير ومحاربة الفساد بصفة خالية من التحامل وتصفية الحسابات.
كما يجب أن يسود التعقل والحكمة مفاصل تصريف الشأن العام ،وبعد النظر والحس الاستراتيجي وعدم اعتبار التسيير اليومي غاية الغايات.
ومن المفيد إشراك القوى الفكرية والكفاءات المجربة في وضع تصورات المستقبل،لا أن يقتصر إسنادها على موظف يتثاءب في مكتبه وقد حاصرته شواغل الحياة اليومية.
كما يمكن استلهام التجارب الناجحة خارج حدود الوطن،بدون عقد إذا كان كان فيها ما يصلح لبلادنا ويستجيب لقيمها.
وتبقى الحريات والديموقراطية والتسامح والتوعية من أجل تطوير العقليات وتأصيل قيم المواطنة،الرداء الذي يلف كل المبادرات وخطط المستقبل،خاصة إذا وضعت كل كفاءة حيث يجب أن تكون بما في ذلك قواتنا المسلحة وقوات أمننا الباسلة.
والله الموفق للصواب