كتب ول مخيطير (الموريتاني) مقالا ونشره في النت، تحت عنوان “الدين والتدين”، وجّه فيه اعتراضات على الدين الإسلامي، وقد تتبّعتُ مقاله، فقرة فقرة؛ لأبيّن أن كل ما كتبه هو افتراء على الدين، والدينُ براءٌ منه، ومَن رجع إلى كتب التاريخ والسير تأكّد له بطلانُ دعواه، فإن الصدق والأمانة العلمية يستوجبان أن يتثبّت الشخصُ فيما يكتب، وألا يكتب معلوماتٍ مغلوطة ليخدع بها مَنْ لا يعرِف الإسلام، فالصدقُ هو الخطوة الأولى لكل عمل جادٍّ، وإن كل قولٍ لا ينبني على الصدق سيقود صاحبه إلى هلاك محقّق؛ فالصدق منجاة، والكذب مهلَكةٌ، والأَوْلى لمَن كانت له أهدافٌ أو مكاسِبُ يسعى لتحقيقها أن يتّخذ لها الصدق والأمانة وسيلة، لا الافتراء والمغالطة؛ لأن ذلك سيقوده إلى أن يدفع الضريبة غالية.
وإنني إذ أكتب هذه السطور لا أردّ بها على ول مخيطير، فكل ما كتبه هو افتراء واضح على الإسلام وعلى المنهج النبوي في التعامل مع المسلمين وغير المسلمين بل إنه افتراء على التاريخ وخيانة للأمانة العلمية، وأنا أقول هذا لأنني أوجّه كلامي هذا لمن يبحث عن الحقيقة – من ذوي الضمائر والعقول المتحررة – بعيدا عن التعصب والمكابرة، فقد رأينا وسمعنا عن بعض الغربيين غير المسلمين وقوفهم مع الحقّ وإنصافهم للرأي الآخر ولو كان مخالفا، ولعلهم حين يسمعون هذا الكلام ينصفون المحِقّ، فإن العقل السليم يتطلّع إلى الحقيقة دون تحيّز، والحقّ أحقّ أن يتّبع، والإنصاف من شيم الأشراف، وأظن أن في الغربيين من غير المسلمين كثيرا من ذوي العقول السليمة التي تنشُد الحقّ وتنصِف صاحبه، لكنهم التبست عليهم الأمور لتضارُب الآراء وكثرة المحرّفين والمزيّفين.
وسأتناول في هذه الصفحات مجمل الافتراءات التي أثارها ول مخيطير، وأريد من القارئ المنصِف أن يرجع إلى المراجع في التاريخ والسيرة النبوية، ولو لتلك المراجع التي كتبها المؤرّخون الغربيون إذا كان أصحابها يتحلون بشرف الأمانة العلمية، وكان لديهم من الجرءة وحصافة الرأي، والبعد عن تحكم الأهواء والأفكار المسبقة ما يجعلهم يتقبّلون الحقائق، ولا يكونون أُسارى أهوائهم وعواطفهم المبنية على حقائق مزيّفة مؤدّاها الحكم على الدين من خلال ممارسات أهله.
أراد ول مخيطير أن يصف فصيلته المعروفة بــــ: (لَمعلْمينْ) – وهم سُلالة عُرفت في موريتانيا بالذكاء، والمهارة في الأعمال اليدوية – بأنهم مظلومون ومهمّشون، ولكنه – على فرض صدق دعواه – بدل أن يعلل هذا الأمر بتأصُّل الطبقية والقبلية في المجتمعات البدوية وجّه سِهامه إلى الدين محاولا سوق أمثلة مما سمّاه “التدين”، وهي أمثلة أراد من خلالها أن يثبت أنَّ الطبقية والقبلية والعصبية في أصل الدين، لكنه – لسوء حظّه – انتقى أمثلة تكذّب دعواه؛ وسأقدّم الأمثلة نفسها لأبيّن زيف دعواه من خلال الحقائق التاريخية ليكون القارئُ المنصِف حكَماً بين ما أكتبه وما كتبه ول مخيطير.
المثال الأول: قصة أسارى بدر: لما انتهت معركة بدر وأُسِر سبعون رجلا من قريش، واستشار رسول الله صلى الله عليه وسلم أبا بكر وعليا وعمر، فقال أبو بكر: يا رسول الله هؤلاء بنو العم والعشيرة والإخوان، وإني أرى أن تأخذ منهم الفدية، فيكون ما أخذناه قوة لنا على الكفار، وعسى أن يهديهم الله فيكونوا لنا عضدا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “ما ترى يا بن الخطاب؟” قال: قلتُ: والله ما أرى ما رأى أبو بكر، ولكن أرى أن تمكنني من فلان، قريب لعمر، فأضرب عنقه، وتمكن عليا من عقيل فيضرب عنقه، وتمكن حمزة من فلان أخيه فيضرب عنقه، حتى يعلم الله أنه ليست في قلوبنا هوداة للمشركين، وهؤلاء صناديدهم وأئمتهم وقادتهم، فهوِيَ (أي أحبّ) رسولُ الله صلى الله عليه وسلم ما قال أبو بكر ولم يهوِ ما قلتُ وأخذ منهم الفداء (السيرة النبوية لابن كثير 2/457 – 458).
نقل ول مخيطير جزءاً من هذا الكلام، وعلّق عليه بقوله: “ملاحظة: من هم الكفار إذا هنا في رأي أبي بكر….؟ ثم كان بعد ذلك قرار أبي بكر هو القرار النهائي مع إضافة عملية التعليم لمن لا يملك المال”) يراجع مقال ول مخيطير في النت تحت عنوان الدين والتدين).
وخلاصة المسألة أنه صلى الله عليه وسلم اختار رأي أبي بكر، لما جُبِل عليه من رحمة، وتغيَّر وجهُه وعُرِف فيه عدمُ الرضى عن قول عمر.
إذنْ كان الرأيُ أنّ من لديه مالٌ يفتدي بماله، ومن لا يملك المال، يعلّم عشرة من الأولاد القراءة والكتابة.
فما ذا يريد ول مخيطير أن يتوصّل إليه؟ هل يريد أن يقْتَل الأسْرى بدل فديتهم؟ أم يريد أن يُطلَق سراحُهم دون فدية؟ أم يريد أن يوصَفوا بأنهم مسلِمون وهم أعداءٌ للمسلمين؟
إن النبي صلى الله عليه وسلم تصرّف كقائد استراتيجي، يراعي ظروف المسلمين وضعفهم المادّي لكونهم خرجوا من ديارهم بغير أموال فاختار الفداء على القتل إبقاءًا على الأرواح وصوناً للأنفس من القتل، مع أن هؤلاء الذين كان حريصا على حياتهم هم مَن أخرجوه هو وأصحابه من ديارهم وتآمروا على قتله قبل سنوات قليلة!!! وخفّف عن من ليس له مالٌ بأن يقدّم خدمة تخدم البشرية والعلم والدين، وهي تعليم عشرة أولاد من المسلمين القراءة والكتابة.
فأيُّ إنصاف فوق هذا وأيّ رحمة وأي عدل وأي سماحة وعفو!!! فأخبِروني ما ذا يريد ول مخيطير أن يقول؟ وهل هناك خيارٌ أحسن من هذا الخيار؟ لا أظنّ منصفا يقول بذلك؟ فلو وقع هؤلاء الأسرى بيد ملك من ملوك الدنيا لما ترددّ في إبادتهم والتمثيل بهم نكاية وثأراً.
وتاريخ الشعوب عبر التاريخ لا يعرف الرأفة ولا الرحمة في مجال الحرب، أما الإسلام فإن معاملته للأسرى والنساء والصبيان والمسنين مسطورة في كتب التاريخ والسير والفقه، فيمكن لمن أراد الاطلاع عليها أن يرجع إليها وإن وجد غير ما قلتُه فليشهد عليّ بأني أكذب الكذابين والمحرّفين.
المثال الثاني: في نفس مسألة أسارى بدر، ساق ول مخيطير القصة التالية: “لما بعث أهل مكة في فداء أسراهم بعثت زينب في فداء أبي العاص بمال، وبعثت فيه بقلادة لها كانت عند خديجة أدخلتها بها على أبي العاص: فلما رآها رسول الله صلى الله عليه وسلم رق لها رقة شديدة، وقال: «إن رأيتم أن تطلقوا لها أسيرها، وتردوا عليها الذي لها». فقالوا: نعم” (سنن أبي داود الحديث رقم: 2692).
علّق ول مخيطير على القصة بقوله: برأيكم ما هذا الاستثناء…..؟
وردًّا على كلام ول مخيطير فإن في هذه القصة أمرين أولهما: أن زينب بنت النبي صلى الله عليه وسلم كما في نص الحديث بعثت مالا وبعثت فيه بالقلادة، فيحتمل أن يكون المال الذي أرسلت كافيا لفداء أبي العاص دون القلادة، فأراد أن يستبقي لها القلادة لكونها رمز وفاء وبرّ ومودة وذكرى لأمها خديجة رضي الله عنها، وعلى فرض أن المال لا يكفي في فداء زوجها فالمال أصبح غنيمة للمسلمين يتصرفون فيه حيث شاءوا وقد تنازلوا عنه بقولهم: “نعم”، ثم إن النبي صلى الله عليه وسلم لم يأمرهم أمرا قاطعا ملزِما وإنما التمس منهم بصيغة تدل على رقي التعامل والتماس الطلب على سبيل التودد والمشورة، لأن الأمور في الإسلام تكون على سبيل التشاور والشفافية.
ومن المؤكّد أنه لو كان الأمر عند أحد القادة أو الملوك لافتُدي من مال الخزينة العامة ولأرسل في بريد سري دون أن يدري بذلك خاصة المقربين من القائد فضلا عن عامة الناس، ولكنه العدل والشفافية والمشورة.
فأين الاستثناء الذي تشير إليه وأنت تعيش في مجتمع كله استثناء وظلم وتعسّف يُحرَم فيه الشخص من أبسط حقوقه المادية والمعنوية!! وتتطاول أنتَ على مَن ملأ الدنيا عدلا وإنصافا ورحمة وسماحة من غير مراعاة لمشاعر مليار و62 من المسلمين، بل قولُك هو الاستثناء الذي تغذّيه العصبية العمياء والحقد الدفين!!!!
المثال الثالث: ذكر فيه ول مخيطير قصة استئجار هند بنت عتبة لوحشي بن حرب (وكان عبدا) على أن يقتل حمزة عم النبي صلى الله عليه وسلم مقابل حريته في معركة أحد فقتل وحشي حمزة، ونال حريته.
وخلاصة ما جرى أن وحشيا قتل حمزة، ثم جاءت هند ومعها نساء من قريش فمثّلن بقتلى المسلمين وخاصة حمزة، فلنستمع لمحمد حسين هيكل ليحدثنا عن تفاصيل الحادثة حيث يقول: “وأمّا هند بنت عتبة زوجه (يعني أبا سفيان) فلم يكفها النصر، ولم يكفها قتل حمزة بن عبد المطلب، بل انطلقت هي والنسوة اللاتي معها يمثلن بالقتلى من المسلمين يجدعن الآذان والأنوف، وجعلت هند لنفسها منها قلائد وأقراطا، ثم إنها بقرت بطن حمزة وجذبت بين يديها كبده وجعلت تلوكها بأسنانها فلا تستطيع أن تسيغها. وبلغ من شناعة ما فعلت وما فعلت النسوة ممن معها، بل ما فعل الرجال كذلك من الفظائع، أن تبرّأ أبو سفيان (زوجها) من تبِعَتِها، وأعلن أنه لم يأمر به وإن كان قد اشترك فيه، بل قال يخاطب أحد المسلمين: «إنه قد كان في قتلاكم مثل، والله ما رضيت وما سخطت وما نهيت وما أمرت» (راجع كتاب حياة محمد، ص193 – 194، وقد ذكر هذه القصة كثير من كتب السير والتاريخ).
علّق ول مخيطير على هذه الحادثة بعد أن نقلها بقوله: “هند تصل للهدف وتمثّل في جثة حمزة.
وبعد سنوات عدة وأيام ما يعرف بفتح مكة دخلت هند في الإسلام لتنال اللقب الشهير “عزيزة في الكفر … عزيزة في الإسلام” أما وحشي فأمره النبي أن يتوارى عن أنظاره عند دخوله الإسلام .
هند قرشية ووحشي حبشي وإلا فما هو سبب التمييز بينهما وهم في الجرم على الأقل سواء أو إن شئتم الدقة فهند هي المذنب الحقيقي وما ذنب عبد مأجور” (راجع مقال ول مخيطير في النت).
أراد ول مخيطير أن يعلّق على هذه الحادثة باعتراضين:
أولهما: أن هند نظرا لكونها من قريش كانت “عزيزة في الكفر … عزيزة في الإسلام”، بينما وحشي نظرا لكونه حبشيا، فقد قال له النبي صلى الله عليه وسلم بعد أن دخل في الإسلام، وسأله «آنت وحشي» قلت: نعم، قال: «أنت قتلت حمزة» قلت: قد كان من الأمر ما بلغك، قال: «فهل تستطيع أن تغيب وجهك عني» (صحيح البخاري، الحديث رقم: 4072).
أما قول ول مخيطير إن هندَ كانت عزيزة في الكفر … عزيزة في الإسلام، فكذلك شأنُ كل الناس، فالشخص حين يتّصف بوصف فإنه يلازمه في كلّ أحواله، فمن كان شديدا في الكفر كان كذلك في الإسلام كعمر بن الخطاب، ومن كان شجاعا فاتكا في الكفر كان كذلك في الإسلام، وهكذا فالصفة تلازم الشخص في كل أطوار حياته، فلا يمكن أن يكون متصفا بها في وقتٍ غير متصف بها في وقت آخر، فلا وجه لهذا الاعتراض، ولا يمكن أن يُتصوَّر عقلا غير ذلك.
وأما قوله صلى الله عليه وسلم لوحشي أن يغيّب عنه وجهه فذلك – في رأيي – لأمور عديدة منها: أنه من المعروف أنه صلى الله عليه وسلم لا ينتصر لنفسه ولا ينطق عن الهوى، فهل قال له إنك حين قتلتَ حمزة كافر أو فاسق أو سيكون مصيرُك كذا، أو سينقص ذلك من مكانتك أو ستحاسب على فعلك هذا؟ بالتأكيد أنه لم يزده على هذه الكلمة، ثم إن تغييب وحشي عن المجتمع المدني خيرٌ له من البقاء بينهم، فكثير من الناس كأقارب حمزة قد لا يرضون بوجود قاتله بينهم وربما تجاسر عليه أحدٌ منهم فقتله أو سبّه أو آذاه، والإسلام لا يرضى بذلك لأن الإسلام يجُبّ ما قبله، وهو حين دخل الإسلام أصبح مصون الدم والعرض ولا يمكن أن يناله أحدٌ بسوء بذريعة أنه قاتل عم النبي صلى الله عليه وسلم؛ لأن المرء لا يحاسب على جرائمه قبل إسلامه مهما كان جُرمه، ثم إن المجتمع العربي مجتمع قبلي قريب عهد بالجاهلية وكانوا أهل حمية وعصبية، ولا يرضى فيهم الرجل الشهم أن يرى قاتل أبيه أو أخيه أو أحد أفراد قبيلته يعيش معه، فلعل النبي صلى الله عليه وسلم نظر إلى مآلات القضية عملا بارتكاب أخفّ الضررين وأمره أن يعيش خارج المدينة، والله ورسوله أعلم.
ثم أسألكم بربكم هل سمعتم بقتل كان أشنع من قتل حمزة والتمثيل به فإن القلب ليتقطع حسرة وألما حين يخترق مسامعَه هذا المشهدُ: “ثم إنها بقرت بطن حمزة وجذبت بين يديها كبده وجعلت تلوكها بأسنانها فلا تستطيع أن تسيغها. وبلغ من شناعة ما فعلت وما فعلت النسوة ممن معها، بل ما فعل الرجال كذلك من الفظائع، أن تبرّأ أبو سفيان (زوجها) من تبِعَتِها، وأعلن أنه لم يأمر به وإن كان قد اشترك فيه، بل قال يخاطب أحد المسلمين: «إنه قد كان في قتلاكم مثل، والله ما رضيت وما سخطت وما نهيت وما أمرت”.
فهذا أبو سفيان زوج هند يتبرّأ من شنيع فعلها ووحشيته!! فهل عرفت البشرية في تاريخها أبشع وأنكى مما فُعِل بحمزة، فإنّ داعش القرن الواحد والعشرين لم يخطر لها هذا العقاب ببال ولعلها حين يروى لها تترفّع عن فعله لوحشيته.
ومن المؤكّد أن وحشيا لو مثل أمام قائد من قواد الجيوش في الشرق أو الغرب وقد قتل أحد جنوده فضلا عن عمه الفارس الشجاع الذي كان أحب الناس إليه فإنه لن يفلت من بطشه ولنكّل به تنكيلا ولأحلّ به عقابا ما وراءه عقابٌ، ولعل العلماء الراسخين في العلم لديهم حُجج وبراهين أقوى وأوضح من هذه الإشارات التي حضرني ذكرُها، والله تعالى ورسوله أعلم.
أما الاعتراض الثاني فمؤدّاه في رأي ول مخيطير أن هند ووحشيا شريكان في قتل حمزة، بل إن وحشيا لاذنب له وإنما هو عبد مأجور، وهذا نص كلامه:” هند قرشية ووحشي حبشي وإلا فما هو سبب التمييز بينهما وهم في الجرم على الأقل سواء أو إن شئتم الدقة فهند هي المذنب الحقيقي وما ذنب عبد مأجور” (مقاله المنشور على النت).
فهو يريد أن يؤكّد أن هند هي القاتلة، ووحشي لا ذنب له وإنما استُؤجِر على تنفيذ مهمة فأكملها، لكن لكونها قرشية بُرِّئت، وجُرّم وحشي لا لشيء سوى أنه حبشي.
وأنا أسأل العقلاء كيف يمكن تبرئة وحشي؟ وهل كان فعلُه تحت التهديد القسري؟ أم كان اختياريا؟ وهل يعقل أن يقترف الشخص جريمة فيُبرَّأَ من الملاحقة لمجرّد الادّعاء بأنه مستأجَر، فأيّ منطق يقول بتجريم الآمر وتبرئة المباشر للفعل كما يدّعي ول مخيطير!! فقد بنى استنتاجه على فقه ومنطق خاطئين لا يقول بهما قائل له أدنى دراية بالشرع ولا بالقانون، وإنما أعماه الحقد والعصبية عن تصوّر الحقائق، وكذلك يفعلان بأمثاله.
والنبي صلى الله عليه وسلم لم يجرّم أحدهما قولا ولا فعلا، وأتحدّى ول مخيطير أو غيره أن يأتيني برواية ولو ضعيفة تقول بتجريم هند أو وحشي أو تدلّ على التمييز بينهما كما زعم، لأن الشخص بمجرّد دخوله للإسلام يصبح كيوم ولدته أمُّه، ويُصَفَّر عدَّادُ سيّئاتِه مهما كانت جرائمه قبل إسلامه.
المثال الثالث: قارَن فيه ول مخيطير بين وحشي وخالد بن الوليد، وقال إن خالدا كان سبب هزيمة المسلمين في معركة أحد، وحين دخل الإسلام لُقِّب “سيف الله المسلول”، بسبب أنه قرشيّ، بينما لم يلقّب وحشي “حربة الله التي لا تخطئ الهدف”؟
وهذا نصّ كلام ول مخيطير: ” و لنقارن ما حدث لـ”وحشي” مع دور شخص آخر هو خالد بن الوليد حيث أن هذا الرجل كان السبب الرئيسي في هزيمة المسلمين في “أحد” و قتل عددا من المسلمين و عند دخوله الإسلام أخذ اللقب الشهير “سيف الله المسلول” ، فلماذا لا يتم استقبال وحشي و يأخذ مثلا لقب “حربة الله التي لا تخطئ الهدف”…..؟ ( مقال ول مخيطير في النت).
وهذا من المفارقات العجيبة؛ فالذي له أدنى إلمام بالتاريخ لا يمكن أن يستسيغ وجه هذه المقارنة، إذ يُفترض أن يكون هناك تطابق أو تشابه أو تقارب بين خالد ووحشي في مجال المقارنة بينهما، ولا أرى وجه شبهٍ بينهما، فخالد بن الوليد كان شجاعا فاتكا حين كان في جيش قريش، وحين دخل في الإسلام كان كذلك، فقاد معارك كثيرة وحقق انتصارات كثيرة بين صفوف المسلمين استحق أن يظفر بهذا ّاللقب العظيم: “سيف الله”، لكن بأيّ منطق أو عقل يلقّب وحشيٌّ “حربة الله”؟ فهل يلقّب حربة الله لأنه قتل حمزة وهو كافر؟ والأولى له حينها أن يلقّب “حربة الكفر” أو “حربة قريش” أو “حربة هند”، أو غير ذلك، أما بعد دخوله في الإسلام فلم يشارك في بعض المعارك حتى يحظى بهذا اللقب؟
فقد أعمى الحقدُ والعداوة ول مخيطير عن رؤية هذه الحقائق، فلا يرى غير ما يمليه عليه هواه وبصيرته العمياء.
المثال الرابع: يعترض فيه ول مخيطير على أن الرسول صلى الله عليه وسلم حين فتح مكة عفا عن أهلها ولم يقتل أحدا، ولم يُسْبِ أحدا، وأمّنهم في أنفسهم وأموالهم، ولم يمسسْ أحدا منهم بسوء، وكلامه الذي نقل صحيحا غير مقتطَعٍ من سياقه وغير محرَّفٍ، يقول ول مخيطير: “نال أهلُ مكة عفوًا عامًّا رغم أنواع الأذى التي ألحقوها بالرسول محمدٍ ودعوته، ومع قدرة الجيش الإسلامي على إبادتهم، وقد جاء إعلان العفو عنهم وهم مجتمعون قرب الكعبة ينتظرون حكم الرسول محمد فيهم، فقال: «ما تظنون أني فاعل بكم؟»، فقالوا: «خيرًا أخٌ كريمٌ وابن أخٍ كريمٍ»، فقال: «لاَ تَثْرَيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ يَغْفِرُ اللهُ لَكُمْ» و عبارة “اذهبوا فأنتم الطلقاء” وقد ترتب على هذا العفو العام حفظ الأنفس من القتل أو السبي، وإبقاء الأموال المنقولة والأراضي بيد أصحابها، وعدم فرض الخراج عليها، فلم تُعامل مكة كما عوملت المناطق الأخرى” (مقال ول مخيطير في النت).
وهنا لا أكلّف نفسي عناء الرد لأن الكلام الذي نقله يعكس صفحة مشرقة من صفحات التاريخ الإسلامي، بل من صفحات تاريخ الإنسانية، ويُنبئ عن رقي التعامل مع العدوّ بسماحة ورحمة وعفو، فأهل مكة هم مَن آذوه وأخرجوه هو وأهله وأصحابه وتآمروا على قتله وحاصروه لمدة سنتين ليستسلم، وكان بإمكانه أن يلحق بهم أشدّ النكال.
إذن لا شيء أرقى ولا أسمى في التعامل من أن تظفر بألدّ أعدائك، وتكون قادرا على أن تُنزِل به أشدّ العقاب فتعفو عنه وتصفح، وكان أهل مكة أنفسهم يتوقعون التنكيل بهم، لكنه – كما في النص الذي نقله ول مخيطير – وجدهم مجتمعين قرب الكعبة ينتظرون القتل والانتقام فقوبلوا بالعفو والإكرام: “ما ترون أني صانع بكم؟ ” قالوا: خيرا , أخ كريم وابن أخ كريم. قال: ” اذهبوا فأنتم الطلقاء ” (السنن الكبرى للبيهقي، الحديث رقم: 18275).
أما عدم قسمة الأرض بين الغانمين فتلك مسألة شائكة تنظّمها نصوص شرعية مردّها إلى فتح البلد عنوة أو صلحا، ويحقّ للإمام أن يترك لأهل البلد المفتوح عنوة دورَهم، وهو حال أهل مكة (على خلاف بين العلماء في كونها مفتوحة عنوة أو صلحا)، ولم تُعامل مكة معاملة خاصة كما زعم ول مخيطير ولكنه جهلٌ بالسياسة الشرعية أدّى به إلى فهم خاطئ فاستنتاج باطل، وليس مستغربا أن يخطئ من يتكلم بما لايعلم لا سيما إذا كانت هناك نية مبيّتة وحقد يُعمي ويُصِمّ عن الحقائق التاريخية الواضحة.
المثال الخامس: أراد ول مخيطير أن يقارن بين عفوه صلى الله عليه وسلم عن قريش لأنهم – في رأيه – بنو عمومته وقتله لرجال بني قريظة لأنهم من اليهود، زاعما أن اليهود هموا بالتآمر مع قريش من أجل القضاء على رسول الله صلى الله عليه وسلم ودعوته، فعفا عن قريش وقتل رجال اليهود ليقول إن هذا الأمر فيه تمييز واضح بين قريش واليهود.
وهذا كلام مفترى مقطوع من سياقه حيث يريد ول مخيطير أن يوهم ذوي القلوب الحاقدة على الإسلام أن النبي صلى الله عليه وسلم يعفو عن قريش لصلة قرابته بهم ويقتل اليهود لا لشيء سوى أنهم يهود، وهذا – لو صحّ – لا يقِرّه الإسلام لأنه دين العدل والمساواة والرحمة، لافضل فيه لعربي على عجمي ولا لأحمر على أسود إلا بالتقوى، كما جاءت بذلك نصوص القرآن والسنة النبوية.
فلنرجع إلى كتب التاريخ والسير لنعرف سبب قتل الرسول صلى الله عليه وسلم لرجال بني قريظة، ثم نحكم بعد ذلك هل كان قول ول مخيطير صحيحا في شأن هذه التفرقة بين اليهود وقريش، أم إنه تحامل ومحاولة تلبيس وتحريف للحقائق. وأدعو القارئ إلى أن يقرأ عن معركتي الخندق وبني قريظة ليعرف ملابسات قتل رجال اليهود.
وسأحاول أن أختصر ما كتبته المراجع عن هذا الموضوع.
إن النبي صلى الله عليه وسلم حين جاء إلى المدينة مهاجرا فارًّا بدينه من بطش قريش ومحاولاتهم لقتله بدأ في تأسيس الدولة الإسلامية، فوجد في المدينة ثلاثة بطون من اليهود هم: بنو قينقاع، وبنو النضير، وبنو قريظة، فعاهد رسول الله صلى الله عليه وسلم مَن بالمدينة مِن اليهود، وكتب بينه وبينهم معاهدة تتلخص في أن سكّان المدينة يدٌ واحدة على من عاداهم، وأن لليهود ما للمسلمين من حقوق، وعليهم ما عليهم من واجبات مع بعض التفصيلات الجزئية، ومن أهم بنود الصلح أنَّ بينهم النصرَ علىٰ من حارب أهل هذه الصحيفة، وأن بينهم النصحَ والنصيحة، والبر دون الإثم، وأنَّ بينهم النصر علىٰ من دَهَم المدينة (أي فاجأها بحرب).
فأخلّ بالمعاهدة بنو قينقاع وبنو النضير وبنو قريظة، فأجلى بني قينقاع، وأخرج بني النضير.
أما بنو قريظة فخلاصة ما جرى بينهم وبين النبي صلى الله عليه وسلم أنه لما خرج بنو النضير بعد إخلالهم بالمعاهدة تذمّر زعماؤهم وذهبوا إلى مكة يستنجدون قريشا في مؤازرتهم على مقاتلة الرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه فتعاهدوا مع قبائل قريش وحلفائها أن يذهبوا إلى المدينة ويحاصروها ولا يبرحوها حتى يستأصلوا النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه.
فخرجت قريش وحلفاؤها في جيش عظيم بلغ عشرة آلاف مقاتل، ولما علم رسول الله صلى الله عليه وسلم بتحزّبهم واجتماعهم على قتاله استشار أصحابه في مواجهة هذا الجيش فأشار عليه سلمان الفارسي بأن يحفر خندقا كبيرا حول المدينة فبادروا إلى حفر الخندق حتى أكملوه قبل وصول الجيوش الغازية إلى المدينة، فلما رأى الجيوش الخندق عرفوا أنه لا سبيل إلى دخول المدينة إلا عن طريق بني قريظة، وخرج حيي بن أخطب النضيري بالتماس من أبي سفيان حتى أتى كعب بن أسد القرظي وكان كعب قد وادع رسول الله صلّى الله عليه وسلم على قومه وعاهدهم على ذلك فلما سمع كعب بحيي بن أخطب أغلق دونه باب حصنه فاستأذن عليه حيي فأبى كعب أن يفتح له فقال كعب ويحك يا حيي إنك امرؤ مشؤوم وإني قد عاهدت محمدا فلست بناقض ما بيني وبينه ولم أرَ منه إلا وفاءًا وصدقا قال ويحك افتح لي أكلمك قال ما أنا بفاعل، فلم يزل يحاول معه حتى فتح له فقال يا كعب ويحك جئتك بقريش قد عاهدوني وعاقدوني أن لا يبرحوا حتى يستأصلوا محمدا ومن معه فقال له كعب بن أسد جئتني بذل الدهر فدعني ومحمدا وما أنا عليه فلم أر من محمد إلا وفاءًا وصدقا، فلم يزل حيي بكعب يلحّ عليه حتى سمح له فنقض كعب عهده وبرئ مما كان عليه فيما بينه وبين رسول الله صلّى الله عليه وسلم فلما انتهى الخبر إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلم أرسل رجالا ليعرفوا الخبر فخرجوا حتى أتوهم فوجدوهم قد نقضوا وقالوا: “لا عقد بيننا وبين محمد ولا عهد”، فرجعوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبروه بنقض بني قريظة العهد. وبينما هم يتشاورون إذ جاءهم نعيم بن مسعود الأشجعي فقال يا رسول الله؛ إنّي أسلمت، وإنّ قومي لم يعلموا بإسلامي، فمرني بما شئت، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: “إنّما أنت فينا رجل واحد، فخذّل عنا ما استطعت، فإنّ الحرب خدعة”، فخرج حتّى أتى بني قريظة، فقال لهم: يا بني قريظة؛ قد عرفتم ودّي إياكم، وخاصة ما بيني وبينكم، قالوا: صدقت، فقال لهم: إنّ قريشا وغطفان ليسوا كما أنتم: البلد بلدكم، وبه أموالكم وأبناؤكم، ونساؤكم، فإن رأوا نهزة..أصابوها، وإن كان غير ذلك.. لحقوا ببلادهم، وخلّوا بينكم وبينه ببلدكم، ولا طاقة لكم به إن خلا بكم، فلا تقاتلوا معهم حتّى تأخذوا منهم رهنا من أشرافهم، يكونون ثقة لكم على أن يقاتلوا معكم محمّدا، حتى تناجزوه، فقالوا: لقد أشرت بالرأي، ثم أتى قريشا فقال لأبي سفيان ومن معه: قد عرفتم ودّي لكم، وفراقي محمّدا، وإنه قد بلغني أمر، فاكتموه عني، قالوا: نفعل، قال: إنّ معشر يهود ندموا على ما صنعوا، وأرسلوا إلى محمّد: إنّا قد ندمنا على ما فعلنا، أيرضيك أن نأخذ لك من أشراف قريش وغطفان رجالا فتضرب أعناقهم، ثمّ نكون معك على من بقي منهم، حتّى نستأصلهم؟ فأرسل إليهم: نعم، قال نعيم: فإن بعثت إليكم يهود يلتمسون منكم رهنا فلا تدفعوا إليهم رجلا واحدا.
وكان من صنع الله لرسوله: أنّ أبا سفيان ورؤوس غطفان أرسلوا إلى بني قريظة عكرمة في نفر من القبيلتين فقالوا: إنّا لسنا بدار مقام، وقد هلك الخفّ والحافر، فأعدّوا للقتال حتى نناجز محمّدا، ونفرغ ممّا بيننا وبينه، فأرسلوا إليهم: لسنا مقاتلين معكم.. حتّى تعطونا رهنا من رجالكم، يكونون بأيدينا ثقة لنا، حتّى نناجز محمّدا، فإنّا نخشى إن اشتدّ عليكم القتال.. أن ترجعوا إلى بلادكم، وتتركونا والرجل في بلادنا، ولا طاقة لنا به، فقالت قريش وغطفان: والله إنّ الذي حدّثكم به نعيم لحق، فأرسلوا إليهم: إنّا والله لا نقاتل معكم.. حتى تعطونا رهنا، فأبوا عليهم، وخذل الله بينهم، ويئس كل منهم من الآخر، وقفلوا راجعين كلّ إلى وجهته التي جاء منها بعد أن نقض بنو قريظة العهد.
ولما رجع رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه إلى المدينة ووضعوا أسلحتهم أمرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يبادروا إلى الخروج إلى بني قريظة، فحاصروهم خمسا وعشرين ليلة، ولما اشتد عليهم الحصار، خيرهم زعيمهم كعب بن أسد قائلا: يا معشر يهود؛ قد نزل بكم ما ترون، وإنّي أعرض عليكم خلالا ثلاثا، فخذوا أيّها شئتم.. قالوا: وما هي؟ قال: نتابع هذا الرجل ونصدقه، فوالله؛ لقد تبيّن أنّه نبيّ مرسل، وأنّه لَلّذي تجدونه في كتابكم، فتأمنون على دمائكم وأموالكم وأبنائكم ونسائكم. فأبوا، قال: فإذا أبيتم عليّ هذه.. فهلمّ فلنقتل أبناءنا ونساءنا، ثمّ نخرج إلى محمّد وأصحابه رجالا مصلتين السيوف، لم نترك وراءنا ثقلا حتى يحكم الله بيننا وبين محمّد، فإن نهلك.. نهلك ولم نترك وراءنا نسلا نخشى عليه، وإن نظهر.. فلعمري؛ لنجدنّ النساء والأبناء، فقالوا: أيّ عيش لنا بعد أبنائنا ونسائنا؟! فقال: فإن أبيتم عليّ هذه، فإنّ الليلة ليلة السبت، وعسى أن يكون محمّد وأصحابه قد أمِنونا فيها، فانزلوا لعلّنا نصيب من محمّد وأصحابه غرّة. قالوا: نفسد سبتنا، ونحدث فيه ما لم يحدث فيه من كان قبلنا إلّا من قد علمت، فأصابه ما لم يخف عليك من المسخ؟! قال: ما بات رجل منكم منذ ولدته أمه ليلة واحدة من الدهر حازما.
و لما يئس بنو قريظة بعد اشتداد حصارهم.. أذعنوا أن ينزلوا على حكم رسول الله صلى الله عليه وسلم، فحكّم النّبيّ فيهم سعد بن معاذ سيد الأوس.
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ألا ترضون يا معشر الأوس أن يحكَّم فيهم رجل منكم؟» قالوا: بلى. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «فذلك إلى سعد بن معاذ». فلمّا حكّمه رسول الله صلى الله عليه وسلم في بني قريظة.. أتاه قومه، ثمّ أقبلوا معه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهم يقولون: يا أبا عمرو؛ أحسن في مواليك؛ فإنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم إنّما ولّاك ذلك لتحسن فيهم، فقال سعد: عليكم بذلك عهد الله وميثاقه أنّ الحكم فيهم لما حكمت؟ قالوا: نعم. قال: وعلى من ههنا؟ – في الناحية التي فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو معرض عن رسول الله صلى الله عليه وسلم إجلالا له – فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «نعم» (انظر أغلب كتب السير والتاريخ، وشرح الزرقاني على المواهب اللدنية 3/82)، وفي الصحيحين “فلما بلغ قريبا من المسجد، قال النبي صلى الله عليه وسلم: “قوموا إلى خيركم، أو سيدكم”، فقال: “يا سعد إن هؤلاء نزلوا على حكمك”، قال: فإني أحكم فيهم أن تقتل مقاتلتهم وتسبى ذراريهم، قال: “حكمت بحكم الله، أو: بحكم الملك” (اللفظ للبخاري، الحديث رقم: 3804).
علّق ول مخيطير على ما سماه التفرقة بين قريش وبني قريظة بقوله: “و نعود للمقارنة بين الحالتين – مكة و بني قريظة-: بنو قريظة هموا بالتمالئ – و الأمر لم يحدث – مع قريش من أجل القضاء على محمد و دعوته. فتم العفو العام عن قريش و نفذ الإعدام في بني قريظة سيان من هم بنقض العهد أو من لم يهم بذلك فقد تم الحكم على بني قريظة، فقتل مقاتلتهم وسبى ذراريهم، قريش واجهت المسلمين في أكثر من معركة و حاصرتهم حصارا شديدا في الخندق و في بدايات الدعوة انتدبت أربعين شابا لقتل محمد ليلة الهجرة و قبل الهجرة و في مكة قتلوا و عذبوا المسلمين أشد تعذيب و في فتح مكة وجدوا أمامهم أخا كريما و ابن أخ كريم فقال لهم اذهبوا فأنتم الطلقاء.
بني قريظة فقط هموا بالتحالف مع المشركين فكان جزاؤهم القتل الجماعي.
أين راحت الرحمة؟….. أم أن للأخوة و “أَتْبَنْعِيمَه” دورها في “العقل الشامل/المطلق”. (مقال ول مخيطير في النت).
لم يكلّف ول مخيطير نفسَه عناء البحث عن الحقيقة، وإنما أراد أن يهوّل في شأن التفرقة بين معاملة الرسول صلى الله عليه وسلم لقريش وبني قريظة، فقريش التي قاتلت المسلمين وشردتهم وحاولت قتل الرسول صلى الله عليه وسلم وجدت أخا كريما عفا عنها ولم يمسسْها بسوء، أما بنو قريظة فإنهم لم يعملوا سوى أنهم تمالؤوا على التحالف مع قريش وكان جزاؤهم القتلَ، والسبب الأوحد في هذه التفرقة هو قرابتُهم من النبي صلى الله عليه وسلم في النسب.
فبدل أن يبحث في الأسباب المباشرة التي غصّت بها كتب التراث والتاريخ الإسلامي ذهب ينتحل أسبابا لا علاقة لها بالموضوع.
فمن المعلوم أن الإسلام قد حرّم قتل النفس، وجعلها أكبر جريمة يقترفها المسلم، وأنزل بقاتل النفس أقسى العقاب، وجعل إحياء النفس إحياءًا للناس جميعا كما في نص الآية القرآنية، كما حثّ على الوفاء بالعقود والذمم، وحرم نقض العهود، ولا سيما إذا تعلّق الأمر بالمعاهد الجار، لافرق في ذلك بين مسلم وغير مسلم، وأقسم النبي صلى الله عليه وسلم أيمانا مغلّظة على عدم إيمان من يخفر ذمّة جاره كما في أصحّ الأحاديث النبوية: “والله لا يؤمن، والله لا يؤمن، والله لا يؤمن» قيل: ومن يا رسول الله؟ قال: «الذي لا يأمنُ جارُهُ بوايِقَهُ” (صحيح البخاري، الحديث رقم: 6016).
فقد تمالأ أكثر من عشرة آلاف مقاتل من مختلف القبائل الحاقدة على النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه، وكان أصحاب المبادرة هم يهود بني النضير بقيادة حيي بن أخطب الذي جاء لقريش وألّبهم وتعاهد معهم على أن يكونوا يدا واحدة حتى يقتلوا محمداً ويستأصلوا شأفة المسلمين، وحين جاءوا للمدينة كان حيي مَن حاول إقناع كعب بن أسد القرظي فرفض استقباله وقال: “يا حيى إنك امرؤ مشؤوم وإني قد عاهدت محمدا فلست بناقض ما بينى وبينه ولم أرَ منه الا وفاءًا وصدقا فلم يزل حيي بن أخطب بكعب يلحّ عليه حتى سمح له فنقض كعب عهده وبرئ مما كان عليه فيما بينه وبين رسول الله صلّى الله عليه وسلم”، وكان نقض زعيم بني قريظة هو السبيل الوحيد لدخول المدينة – بعد أن خندقوا حواليها – وتنفيذ مخطط الإبادة المُزمع من طرف قريش وأعوانها.
لم يتعرّض ول مخيطير لشيء من هذا، ولم يتعرّض لمعاهدة المدينة التي وقعها النبي صلى الله عليه وسلم مع كافة الجاليات، والتي كانت نواة لأرقى المعاهدات والاتفاقات والدساتير التي تصون حقوق الأفراد والجماعات، وتحفظ دماءهم وأموالهم، والتي كان من ضمن بنودها أنَّ بين أطراف المعاهدة النصرَ علىٰ من حارب أهل هذه الصحيفة، وأن بينهم النصحَ والنصيحة، والبر دون الإثم، وأنَّ بينهم النصر علىٰ من دَهَم المدينة.
ولم يفكّر ول مخيطير في إبادة أمة الإسلام بالمدينة، ولا بخيانة العهود ونقض الميثاق التي سيترتب عليها إبادة آلاف من الأبرياء من رجال ونساء وأطفال ومسنّين من غير جرم اقترفوه سوى أنهم دخلوا في دين يدعو إلى العدل والمساواة وإنصاف المظلوم وإطعام الطعام وإعانة المحتاج وتحرير البشرية من الظلم والعبودية والطبقية والعصبية القبلية وغير ذلك.
ثم إني أسأل ذوي العقل والروية والإنصاف ما ذا تعني عبارة ” بنو قريظة هموا بالتمالئ – و الأمر لم يحدث – مع قريش من أجل القضاء على محمد و دعوته”؟
هل يريد ول مخيطير من الرسول صلى الله عليه وسلم أن ينتظر أن ينفّذ المتآمرون عليه مخططهم ثم بعد ذلك يحاسب بني قريظة على فعلهم؟ لا أظن أن عاقلا يتصور هذا الطرح لأن الشخص لا يُتأتى منه فعلٌ بعد إبادته!!!!، وهل فوق التمالئ والتخطيطِ له جرمٌ؟
فهبْ أن جماعة خططوا لإبادة مجتمع واكتَشف المستهدَف تخطيطهم وأفشله، فهل يستساغ أن يقول لهم عفوتُ عنكم لأنكم لم تنفّذوا مخططكم؟ ولم تصلوا إلى هدفكم؟ فلو نفّذتم إبادتكم لعاقبتكم؟ ولكن احذروا من التنفيذ؟؟ أيصدّقٌ عاقلٌ هذا الكلام؟ لا أتصور!!!!
فإذا كان مخططو الانقلابات الفاشلة الذين يسعون للوصول إلى الحكم بحجة الإصلاح والتغيير للأفضل يلاحَقون فردا فردا، ويقتَلون ويُسجنون وتُنَزّل بهم أقسى العقوبات بتهمة تغيير السلطة، أفلا يستحقّ الصائلون الناقضون للعهود الذين يخططون لإبادة مجتمع بكامله إبادة مَن كان منهم ضالع في المؤامَرَة!!!!
إن ما خطّط له بنو قريظة هو ما يعرف في القانون الدولي المعاصر بالخيانة العظمى التي تعاقب عليها الدول بالقتل، جراء إفشاء أسرار الدولة، أو التعاون مع عدو خارجي أو غير ذلك.
ثم إن زعيم بني قريظة بعد أن طال حصارُهم خيرهم بين ثلاث خصال: الأولى: إما أن تتبعوه فوالله؛ لقد تبيّن أنّه نبيّ مرسل، وأنّه للّذي تجدونه في كتابكم، فتأمنون على دمائكم وأموالكم وأبنائكم ونسائكم، والثانية: أن يقتلوا نساءهم وأولادهم حتى لا يكون وراءهم ما يخافون ضياعه، فإن نهلك.. نهلك ولم نترك وراءنا نسلا نخشى عليه، وإن نظهر.. فلعمري؛ لنجدنّ النساء والأبناء، والثالثة: يغيرون على الرسول صلى الله عليه وسلم يوم السبت وعسى أن يكون محمّد وأصحابه قد أمنونا فيها، لينالوا منه غرّة، فرفضوا الخيارات الثلاثة فقال لهم: ما بات رجل منكم منذ ولدته أمه ليلة واحدة من الدهر حازما.
ثم إن النبي صلى الله عليه وسلم لم يقتل رجال بني قريظة – رغم جرمهم – إلا بعد أن حاكمهم محاكمة علنية عادلة رضي بها كل الأطراف: فلنستمع إلى وقائع الجلسة يرويها العدول: لما يئس بنو قريظة بعد اشتداد حصارهم.. أذعنوا أن ينزلوا على حكم رسول الله صلى الله عليه وسلم، فحكّم النّبيّ فيهم سعد بن معاذ سيد الأوس، وكان الأوس حلفاء لبني قريظة.
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ألا ترضون يا معشر الأوس أن يحكّم فيهم رجل منكم؟» قالوا: بلى. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «فذلك إلى سعد بن معاذ» . فلمّا حكّمه رسول الله صلى الله عليه وسلم في بني قريظة أتاه قومه، ثمّ أقبلوا معه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهم يقولون: يا أبا عمرو؛ أحسن في مواليك؛ فإنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم إنّما ولّاك ذلك لتحسن فيهم، فقال سعد: عليكم بذلك عهد الله وميثاقه أنّ الحكم فيهم لما حكمت؟ قالوا: نعم. قال: وعلى من ههنا؟ – في الناحية التي فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو معرض عن رسول الله صلى الله عليه وسلم إجلالا له – فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «نعم» قال سعد: فإنّي أحكم فيهم أن تقتل الرجال، وتقسّم الأموال، وتسبى الذّراريّ والنساء، قال: “حكمت بحكم الله، أو: بحكم الملك”.
غير أن الرسول صلى الله عليه وسلم أمر بعدم قتل غير البالغين منهم، ولعله صلى الله عليه وسلم استثناهم لكونهم غير مكلَّفين أو غير قادرين على الحرب لو وقعت أو لغير ذلك، والله أعلم بقصده.
إذنْ فرجال بني قريظة كانت لهم فرصة للنجاة من القتل؛ فلو أنهم حين حاصرهم المسلمون أسلموا لعصموا دماءهم وأموالهم كما أمرهم بذلك زعيمهم، لكنهم غدروا ونقضوا عهود الأمان، وتمادوا في عداوتهم للإسلام مع اعتراف رئيسهم بأنه الدين الحق الذي وجدوه في كتبهم، ثم إنهم رضوا بحكم سعد بن معاذ – الذي أيّده الوحي – لظنهم أنه سيحكم لصالحهم.
فلو كانت المسألة تتعلق بالتآمر على قتل النبي صلى الله عليه وسلم لجاز أن يعفو عنهم كما عفا عن كثيرين أرادوا قتله كدعثور وغورث وبني النضير حين هموا بقتله، لكن الأمر يتعلّق بمسألة عامة هي مسألة السلم والحرب بين المسلمين وغيرهم، لاسيما وأن اليهود لديهم سوابق كثيرة في الغدر والكيد للإسلام والمسلمين، سبقت مع بني النضير وبني قينقاع، وقد عامل صلى الله عليه وسلم كلاًّ منهم – رغم غدرهم – حسب جرمه.
والخلاصة أن النبي صلى الله عليه وسلم عقد عهوداً مع اليهود، فكان أول مَن نقض تلك العهود هم بنو قينقاع فأُجْلُوا إلى أذرِعات، لكن حُفِظت لهم دماؤُهم وأموالُهم، ثم بني النضير فأُخرجوا من المدينة ولهم ما حمِلتْ إبِلُهم، فصاروا يُؤَلِّبون عليه المنافقين من داخل المدينة والعرب من خارجها، فغَزوْا غزوة الأحزاب في تلك الجموع الهائلة، وغدرت معهم بنو قريظة، فإن هو أبقاهم استمرّوا على تدبير الكيُود، وإن أخرجهم عملوا كما عمل إخوانُهم، فلم يبق إلا خيار القتل في مَن يقاتِل منهم.
هذا من حيث العقل والمنطق، وأما من حيث الحقيقة والواقع فإنهم حُوكِموا محاكَمة علنية عادِلة رضُوا بنتائجها، ونزل الوحي بتأكيد هذا الحكم.
مع التنبيه إلى أن بني قريظة هم من قتلوا أنفسهم لسببين أولهما: أنهم نقضوا العهد فاستحقوا القتل، وثانيهما: أنهم حين حوصروا لم يُسلِموا؛ فلو أسلموا لعَصَم الإسلام دماءَهم ونجوا من القتل كما قدمنا.
أما الافتراءات التي تعوّد ول مخيطير أن يرد إليها كل تصرف فقد أثبتنا أنها لاتمتّ إلى الواقع ولا إلى الحقيقة بصلة.
أما سؤاله أين راحت الرحمة؟ فإن رحمته صلى الله عليه يعرفها كلُّ من قرأ سيرته العطِرة بقلبٍ سليم، فهو الرحمة المهداة، ففي القرآن الكريم {وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين}.
وإن رحمته صلى الله عليه وسلم عرفها المسلم وغير المسلم، والقاصي والداني والقوي والضعيف؛
فقد عرَفها أشدُّ أعدائه عليه، فحين عرض عليه ملَك الجبال قوله: “إن شئت أن أطبق عليهم الأخشبين؟ قال صلى الله عليه وسلم: بل أرجو أن يخرج الله من أصلابهم من يعبد الله وحده، لا يشرك به شيئاً” رواه البخاري.
وعرفتها النساء في الحرب، ففي الحديث “أن امرأة وجدت في بعض مغازي رسول الله صلى الله عليه وسلم مقتولة. فأنكر رسول الله صلى الله عليه وسلم قتل النساء والصبيان” رواه البخاري ومسلم.
وعرفها اليهود، فعن أنس بن مالك رضي الله عنه: “كان غلام يهودي يخدم النبي صلى الله عليه وسلم فمرض، فأتاه النبي صلى الله عليه وسلم يعوده، فقعد عند رأسه، فقال له: أسلم. فنظر إلى أبيه وهو عنده، فقال له: أطع أبا القاسم صلى الله عليه وسلم، فأسلم، فخرج النبي صلى الله عليه وسلم وهو يقول: الحمد لله الذي أنقذه من النار” رواه البخاري.
وعرفها المعاهد (غير المسلم الذي له مع المسلمين عهد)؛ فعن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: “من قتل نفسا معاهدا لم يرح رائحة الجنة، وإن ريحها ليوجد من مسيرة أربعين عاما” رواه البخاري.
وعرفها أمراء الجيوش في التعليمات والتوجيهات التي كانت تقدّم إليهم؛ فعن بريدة بن الحصيب عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان إذا أمّر أميرا على جيش أو سرية، أوصاه بتقوى الله ومن معه من المسلمين خيرا. ثم قال “اغزوا باسم الله. وفي سبيل الله. قاتلوا من كفر بالله. اغزوا ولا تغلوا ولا تغدروا ولا تمثلوا ولا تقتلوا وليدا. وإذا لقيت عدوك من المشركين فادعهم إلى ثلاث خصال (أو خلال). فأيتهن ما أجابوك فاقبل منهم وكف عنهم. ثم ادعهم إلى الإسلام. فإن أجابوك فاقبل منهم وكف عنهم. ثم ادعهم إلى التحول من دارهم إلى دار المهاجرين. وأخبرهم أنهم، إن فعلوا ذلك، فلهم ما للمهاجرين وعليهم ما على المهاجرين. فإن أبوا أن يتحولوا منها، فأخبرهم أنهم يكونون كأعراب المسلمين. يجري عليهم حكم الله الذي يجري على المؤمنين. ولا يكون لهم في الغنيمة والفيء شيء. إلا أن يجاهدوا مع المسلمين. فإن هم أبوا فسلهم الجزية. فإن هم أجابوك فاقبل منهم وكف عنهم. فإن هم أبوا فاستعن بالله وقاتلهم. وإذا حاصرت أهل حصن، فأرادوك أن تجعل لهم ذمة الله وذمة نبيه. فلا تجعل لهم ذمة الله وذمة نبيه. ولكن اجعل لهم ذمتك وذمة أصحابك. فإنكم، أن تخفروا ذممكم وذمم أصحابكم، أهون من أن تخفروا ذمة الله وذمة رسوله. وإذا حاصرت أهل حصن، فأرادوك أن تنزلهم على حكم الله، فلا تنزلهم على حكم الله. ولكن أنزلهم على حكمك. فإنك لا تدري أتصيب حكم الله فيهم أم لا” رواه مسلم.
وعرفها اليهود؛ فعن خالد بن الوليد رضي الله عنه قال: “غزوت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم خيبر فأتت اليهود فشكوا أن الناس قد أسرعوا إلى حظائرهم فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم ألا لا تحل أموال المعاهدين إلا بحقها” رواه أبو داود بسند حسن.
وعرفها المشركون رغم عداوتهم؛ فعن أبي هريرة رضي الله عنه أنه قال: قيل: يا رسول الله ادع على المشركين. قال “إني لم أبعث لعانا. وإنما بعثت رحمة”. رواه مسلم.
وعرفها العصاة؛ فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قدم طفيل بن عمرو الدوسي وأصحابه، على النبي صلى الله عليه وسلم فقالوا: يا رسول الله، إن دوسا عصت وأبت، فادع الله عليها، فقيل: هلكت دوس، قال: “اللهم اهد دوسا وائت بهم” رواه البخاري.
وعرفتها ثقيف وكانوا أشد الناس عداوة للنبي صلى الله عليه وسلم؛ فعن جابر بن عبد الله أنهم قالوا: يا رسول الله أحرقتنا نبال ثقيف، فادع الله عليهم. فقال: اللهم اهد ثقيفا”. رواه الترمذي بسند صحيح.
فمن لي بحصر أمثلة رحمته، وقد قال تعالى: {وما أرسلناك إلا رحمة للعالَمين} (والعالَمين كما هو معلوم هو ما سوى الله)، وقد امتلأ منها البرُّ والبحر والفضاء والكون أجمعُه، ولم يُحرم منها أحدٌ، لكنها قد تُحجَب عمّن كان أعمى البصيرة؛
قد تنكر العين ضوء الشمس من رمد وينكر الفم طعم الماء من سقم
ولا يضير الشمسَ أنْ لم يرها الأعمى؛ ولا رحمةَ النبي صلى الله عليه وسلم أنْ عمِيَ عنها ول مخيطير، لكن نقول لك: {فإن يكفُر بها هؤلاء فقد وكلنا بها قومًا ليسوا بها بكافرين}.
هذه هي الافتراءات التي تناولها ول مخيطير، ثم ختم مقاله بخلاصة هذا نصها: إذا كان مفهوم ” بنو العم والعشيرة والإخوان” يجعل ابا بكر يحجم عن قتل المشركين و علاقة الأبوة بين زينب و الرسول تمنحها إطلاق سراح زوجها مجانا ، و الانتماء القرشي يعطي ألقاب البطولات للقرشيين و يمنعها عن الحبشيين. و الأخوة و علاقة الدم و القربى تمنح حق الرحمة لقريش في الفتح و تحرم بني قريظة من ذلك الحق، و كل هذه الأمور تتم في عصر الدين فما بالك بعصر التدين.
إخوتي: أريد فقط أن أصل معكم – و أخاطب لمعلمين أساسا – أن محاولة التفريق بين روح الدين و واقع التدين هي محاولات “طيبة لكنها لا تنافس” فالحقائق لا يمكن طمسها، و هذا الشبل/البيظاني من ذاك الأسد… و أن الذي يعاني يجب أن يكون صريحا مع ذاته في سبب معاناته مهما كان السبب، إذا كان الدين يلعب دورا فلنقلها بأعلى صوت: يلعب الدين و رجال الدين و كتب الدين أدوارهم في كل القضايا الاجتماعية من: قضايا لحراطين و لمعلمين و إيكاون الذين لا زالوا صامتين رغم أن الدين يقر بأن مأكلهم حرام و مشربهم حرام و عملهم حرام…….
قد كان ول مخيطير يضرب أمثلة على بعض القضايا ويقارن بين بعض الأمور، ولا تكاد تخرج اعتراضاته عن مسألة التعامل مع القضايا من منطلق القرابة، فالأقارب في نظره يعاملون معاملة خاصة، بالعفو عنهم وإكرامهم مهما كانت جرائمهم، أما غيرهم فتُنزَّل به أقسى العقوبات، وقد تناولتُ تلك المفتريات، وحاولت الرد عليها واحدة واحدة.
أما في هذه الخلاصة فإن ول مخيطير ينادي بأعلى صوته مخاطبا طبقات: “لَمْعلْمينْ” (فئة من المجتمع تعيش بعمل أيديها)، وهي فصيلته هو، ولَحْراطينْ (العرَب السّمر)، وإيكّاونْ (الفنانون: المطرِبون): ليقول لهؤلاء جميعا إن ما أنتم فيه من ظلم واضطهاد ومعاناة هو من صنيع الدين ورجاله وكتبه.
وهذه دعوى كبيرة لا أعرف من أين أبدأ في الرد عليها؛ لأن من له أدنى دراية بالإسلام يعلم أنه جاء لإنقاذ البشرية من ويلات الظلم والاضطهاد، ونشر العدل والمساواة ونشر الفضيلة ومحاربة الطبقية بكل أنواعها، وهذه نصوص الشرع حكمٌ بيننا، وهذا ما يدين به مليار واثنان وستون مليون مسلم، فإن كان ول مخيطير لديه غير هذا فليأت ببرهانه إن كان صادقا!!!!
لكن ول مخيطير لديه اعتقاد راسخ، وحقد واضح على الدين، فبدل أن يجعل قضيته قضية وطنية، يستعطف بها فصليته ومن يراهم مستضعفين ومظلومين في مجتمعه الذي يعيش فيه (موريتانيا)، جعل الدين وحملته هم من ظلمه وسلبه حقّه وجعله وفصيلته ونظراءه ممن يزعم أنها الطبقات السفلى من المجتمع، وهو بهذا قد جنى على نفسه، إذ أصبح خصما لكل مجتمعه الذي يدين بالإسلام، ويعلم علم اليقين أن الدين يحارب الطبقية، ويحرّم الظلم والكذب، ثم إنه نال من أعظم مقدّسات الوطن، وهو دين الإسلام ورسوله صلى الله عليه وسلم ورجال الدين وكتبه؛ فهو إذن بدل أن يستعطف أهل وطنه استعداهم. ومن لا يحترم وطنه لا يحترمه غيره.
ثم إنه جعل كل المسلمين في العالم خصوما وأعداءًا له، إذ سفّه دينهم ووصفه بأنه دين الطبقية والظلم والعنصرية والقبلية.
فإذا كان فَعَل ذلك بدافع حرية الرأي، فإن حرية المرء تنتهي من حيث تبدأ حريات الآخرين، فهل يعقل أن تنال حريتك على حساب حريات مليار واثنين وستين مليون مسلم؟ لا أظن عاقلا يقول بذلك!!!
ثم إنك جنيت على نفسك؛ إذ ذهبت تبحث عن حرية الرأي، فأصبحتَ تبحث عن حرية التصرف والحركة، ومن المؤكد أنك لن تخرج من سجنك إلا إلى سجن آخر أو إلى القبر، بسب تطاوُلِك على أعظم مُقدّساتِ شعب خرج كلّه في يوم مشهودٍ هو يوم 31/1/2017، ليطالب بإعدامك.
وإذا كان فَعَل ذلك من أجل الحصول على مكانة اجتماعية، فقد تردّى في دركات الاضطهاد الاجتماعي، لأن المجتمع لا يساوم في مقدّساته!!!
وإذا كان فَعَل ذلك من أجل كسب أموال الغرب، أو الحصول على جنسية أجنبية، فإني أدعو عقلاء الغرب أن يتثبتوا في دعوى ول مخيطير، فإذا كانوا يتحرون في منح جنسياتهم لذوي الهويات والجنسيات المزورة، فبالأحرى يلزمهم التثبّتُ من الدعاوى المزوّرة، فإن تزوير الأوراق ضرره لا يتعدّى صاحبَه، وتزوير الأفكار إرهاب وانحراف فكري محقّق يفسد المجتمعات.
هذه مجمل افتراءات ول مخيطير، وقد كتبتُ هذه الصفحات لا لأردّ عليها، فالافتراء لا يردّ عليه إلا بتكذيبه، وتوضيح الحقيقة، وهذا ما قصدتُه. وإنما أردت أن أترجم هذه الصفحات إلى اللغات الإنجليزية والفرنسية والإيطالية، وأحاول نشرها في النت، وغيرها من وسائل الإعلام ليهلِك من هلك عن بيّنة ويحيى مَن حيي عن بينة.
د. الشريف الفقيه (ألفغ)
وإنني إذ أكتب هذه السطور لا أردّ بها على ول مخيطير، فكل ما كتبه هو افتراء واضح على الإسلام وعلى المنهج النبوي في التعامل مع المسلمين وغير المسلمين بل إنه افتراء على التاريخ وخيانة للأمانة العلمية، وأنا أقول هذا لأنني أوجّه كلامي هذا لمن يبحث عن الحقيقة – من ذوي الضمائر والعقول المتحررة – بعيدا عن التعصب والمكابرة، فقد رأينا وسمعنا عن بعض الغربيين غير المسلمين وقوفهم مع الحقّ وإنصافهم للرأي الآخر ولو كان مخالفا، ولعلهم حين يسمعون هذا الكلام ينصفون المحِقّ، فإن العقل السليم يتطلّع إلى الحقيقة دون تحيّز، والحقّ أحقّ أن يتّبع، والإنصاف من شيم الأشراف، وأظن أن في الغربيين من غير المسلمين كثيرا من ذوي العقول السليمة التي تنشُد الحقّ وتنصِف صاحبه، لكنهم التبست عليهم الأمور لتضارُب الآراء وكثرة المحرّفين والمزيّفين.
وسأتناول في هذه الصفحات مجمل الافتراءات التي أثارها ول مخيطير، وأريد من القارئ المنصِف أن يرجع إلى المراجع في التاريخ والسيرة النبوية، ولو لتلك المراجع التي كتبها المؤرّخون الغربيون إذا كان أصحابها يتحلون بشرف الأمانة العلمية، وكان لديهم من الجرءة وحصافة الرأي، والبعد عن تحكم الأهواء والأفكار المسبقة ما يجعلهم يتقبّلون الحقائق، ولا يكونون أُسارى أهوائهم وعواطفهم المبنية على حقائق مزيّفة مؤدّاها الحكم على الدين من خلال ممارسات أهله.
أراد ول مخيطير أن يصف فصيلته المعروفة بــــ: (لَمعلْمينْ) – وهم سُلالة عُرفت في موريتانيا بالذكاء، والمهارة في الأعمال اليدوية – بأنهم مظلومون ومهمّشون، ولكنه – على فرض صدق دعواه – بدل أن يعلل هذا الأمر بتأصُّل الطبقية والقبلية في المجتمعات البدوية وجّه سِهامه إلى الدين محاولا سوق أمثلة مما سمّاه “التدين”، وهي أمثلة أراد من خلالها أن يثبت أنَّ الطبقية والقبلية والعصبية في أصل الدين، لكنه – لسوء حظّه – انتقى أمثلة تكذّب دعواه؛ وسأقدّم الأمثلة نفسها لأبيّن زيف دعواه من خلال الحقائق التاريخية ليكون القارئُ المنصِف حكَماً بين ما أكتبه وما كتبه ول مخيطير.
المثال الأول: قصة أسارى بدر: لما انتهت معركة بدر وأُسِر سبعون رجلا من قريش، واستشار رسول الله صلى الله عليه وسلم أبا بكر وعليا وعمر، فقال أبو بكر: يا رسول الله هؤلاء بنو العم والعشيرة والإخوان، وإني أرى أن تأخذ منهم الفدية، فيكون ما أخذناه قوة لنا على الكفار، وعسى أن يهديهم الله فيكونوا لنا عضدا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “ما ترى يا بن الخطاب؟” قال: قلتُ: والله ما أرى ما رأى أبو بكر، ولكن أرى أن تمكنني من فلان، قريب لعمر، فأضرب عنقه، وتمكن عليا من عقيل فيضرب عنقه، وتمكن حمزة من فلان أخيه فيضرب عنقه، حتى يعلم الله أنه ليست في قلوبنا هوداة للمشركين، وهؤلاء صناديدهم وأئمتهم وقادتهم، فهوِيَ (أي أحبّ) رسولُ الله صلى الله عليه وسلم ما قال أبو بكر ولم يهوِ ما قلتُ وأخذ منهم الفداء (السيرة النبوية لابن كثير 2/457 – 458).
نقل ول مخيطير جزءاً من هذا الكلام، وعلّق عليه بقوله: “ملاحظة: من هم الكفار إذا هنا في رأي أبي بكر….؟ ثم كان بعد ذلك قرار أبي بكر هو القرار النهائي مع إضافة عملية التعليم لمن لا يملك المال”) يراجع مقال ول مخيطير في النت تحت عنوان الدين والتدين).
وخلاصة المسألة أنه صلى الله عليه وسلم اختار رأي أبي بكر، لما جُبِل عليه من رحمة، وتغيَّر وجهُه وعُرِف فيه عدمُ الرضى عن قول عمر.
إذنْ كان الرأيُ أنّ من لديه مالٌ يفتدي بماله، ومن لا يملك المال، يعلّم عشرة من الأولاد القراءة والكتابة.
فما ذا يريد ول مخيطير أن يتوصّل إليه؟ هل يريد أن يقْتَل الأسْرى بدل فديتهم؟ أم يريد أن يُطلَق سراحُهم دون فدية؟ أم يريد أن يوصَفوا بأنهم مسلِمون وهم أعداءٌ للمسلمين؟
إن النبي صلى الله عليه وسلم تصرّف كقائد استراتيجي، يراعي ظروف المسلمين وضعفهم المادّي لكونهم خرجوا من ديارهم بغير أموال فاختار الفداء على القتل إبقاءًا على الأرواح وصوناً للأنفس من القتل، مع أن هؤلاء الذين كان حريصا على حياتهم هم مَن أخرجوه هو وأصحابه من ديارهم وتآمروا على قتله قبل سنوات قليلة!!! وخفّف عن من ليس له مالٌ بأن يقدّم خدمة تخدم البشرية والعلم والدين، وهي تعليم عشرة أولاد من المسلمين القراءة والكتابة.
فأيُّ إنصاف فوق هذا وأيّ رحمة وأي عدل وأي سماحة وعفو!!! فأخبِروني ما ذا يريد ول مخيطير أن يقول؟ وهل هناك خيارٌ أحسن من هذا الخيار؟ لا أظنّ منصفا يقول بذلك؟ فلو وقع هؤلاء الأسرى بيد ملك من ملوك الدنيا لما ترددّ في إبادتهم والتمثيل بهم نكاية وثأراً.
وتاريخ الشعوب عبر التاريخ لا يعرف الرأفة ولا الرحمة في مجال الحرب، أما الإسلام فإن معاملته للأسرى والنساء والصبيان والمسنين مسطورة في كتب التاريخ والسير والفقه، فيمكن لمن أراد الاطلاع عليها أن يرجع إليها وإن وجد غير ما قلتُه فليشهد عليّ بأني أكذب الكذابين والمحرّفين.
المثال الثاني: في نفس مسألة أسارى بدر، ساق ول مخيطير القصة التالية: “لما بعث أهل مكة في فداء أسراهم بعثت زينب في فداء أبي العاص بمال، وبعثت فيه بقلادة لها كانت عند خديجة أدخلتها بها على أبي العاص: فلما رآها رسول الله صلى الله عليه وسلم رق لها رقة شديدة، وقال: «إن رأيتم أن تطلقوا لها أسيرها، وتردوا عليها الذي لها». فقالوا: نعم” (سنن أبي داود الحديث رقم: 2692).
علّق ول مخيطير على القصة بقوله: برأيكم ما هذا الاستثناء…..؟
وردًّا على كلام ول مخيطير فإن في هذه القصة أمرين أولهما: أن زينب بنت النبي صلى الله عليه وسلم كما في نص الحديث بعثت مالا وبعثت فيه بالقلادة، فيحتمل أن يكون المال الذي أرسلت كافيا لفداء أبي العاص دون القلادة، فأراد أن يستبقي لها القلادة لكونها رمز وفاء وبرّ ومودة وذكرى لأمها خديجة رضي الله عنها، وعلى فرض أن المال لا يكفي في فداء زوجها فالمال أصبح غنيمة للمسلمين يتصرفون فيه حيث شاءوا وقد تنازلوا عنه بقولهم: “نعم”، ثم إن النبي صلى الله عليه وسلم لم يأمرهم أمرا قاطعا ملزِما وإنما التمس منهم بصيغة تدل على رقي التعامل والتماس الطلب على سبيل التودد والمشورة، لأن الأمور في الإسلام تكون على سبيل التشاور والشفافية.
ومن المؤكّد أنه لو كان الأمر عند أحد القادة أو الملوك لافتُدي من مال الخزينة العامة ولأرسل في بريد سري دون أن يدري بذلك خاصة المقربين من القائد فضلا عن عامة الناس، ولكنه العدل والشفافية والمشورة.
فأين الاستثناء الذي تشير إليه وأنت تعيش في مجتمع كله استثناء وظلم وتعسّف يُحرَم فيه الشخص من أبسط حقوقه المادية والمعنوية!! وتتطاول أنتَ على مَن ملأ الدنيا عدلا وإنصافا ورحمة وسماحة من غير مراعاة لمشاعر مليار و62 من المسلمين، بل قولُك هو الاستثناء الذي تغذّيه العصبية العمياء والحقد الدفين!!!!
المثال الثالث: ذكر فيه ول مخيطير قصة استئجار هند بنت عتبة لوحشي بن حرب (وكان عبدا) على أن يقتل حمزة عم النبي صلى الله عليه وسلم مقابل حريته في معركة أحد فقتل وحشي حمزة، ونال حريته.
وخلاصة ما جرى أن وحشيا قتل حمزة، ثم جاءت هند ومعها نساء من قريش فمثّلن بقتلى المسلمين وخاصة حمزة، فلنستمع لمحمد حسين هيكل ليحدثنا عن تفاصيل الحادثة حيث يقول: “وأمّا هند بنت عتبة زوجه (يعني أبا سفيان) فلم يكفها النصر، ولم يكفها قتل حمزة بن عبد المطلب، بل انطلقت هي والنسوة اللاتي معها يمثلن بالقتلى من المسلمين يجدعن الآذان والأنوف، وجعلت هند لنفسها منها قلائد وأقراطا، ثم إنها بقرت بطن حمزة وجذبت بين يديها كبده وجعلت تلوكها بأسنانها فلا تستطيع أن تسيغها. وبلغ من شناعة ما فعلت وما فعلت النسوة ممن معها، بل ما فعل الرجال كذلك من الفظائع، أن تبرّأ أبو سفيان (زوجها) من تبِعَتِها، وأعلن أنه لم يأمر به وإن كان قد اشترك فيه، بل قال يخاطب أحد المسلمين: «إنه قد كان في قتلاكم مثل، والله ما رضيت وما سخطت وما نهيت وما أمرت» (راجع كتاب حياة محمد، ص193 – 194، وقد ذكر هذه القصة كثير من كتب السير والتاريخ).
علّق ول مخيطير على هذه الحادثة بعد أن نقلها بقوله: “هند تصل للهدف وتمثّل في جثة حمزة.
وبعد سنوات عدة وأيام ما يعرف بفتح مكة دخلت هند في الإسلام لتنال اللقب الشهير “عزيزة في الكفر … عزيزة في الإسلام” أما وحشي فأمره النبي أن يتوارى عن أنظاره عند دخوله الإسلام .
هند قرشية ووحشي حبشي وإلا فما هو سبب التمييز بينهما وهم في الجرم على الأقل سواء أو إن شئتم الدقة فهند هي المذنب الحقيقي وما ذنب عبد مأجور” (راجع مقال ول مخيطير في النت).
أراد ول مخيطير أن يعلّق على هذه الحادثة باعتراضين:
أولهما: أن هند نظرا لكونها من قريش كانت “عزيزة في الكفر … عزيزة في الإسلام”، بينما وحشي نظرا لكونه حبشيا، فقد قال له النبي صلى الله عليه وسلم بعد أن دخل في الإسلام، وسأله «آنت وحشي» قلت: نعم، قال: «أنت قتلت حمزة» قلت: قد كان من الأمر ما بلغك، قال: «فهل تستطيع أن تغيب وجهك عني» (صحيح البخاري، الحديث رقم: 4072).
أما قول ول مخيطير إن هندَ كانت عزيزة في الكفر … عزيزة في الإسلام، فكذلك شأنُ كل الناس، فالشخص حين يتّصف بوصف فإنه يلازمه في كلّ أحواله، فمن كان شديدا في الكفر كان كذلك في الإسلام كعمر بن الخطاب، ومن كان شجاعا فاتكا في الكفر كان كذلك في الإسلام، وهكذا فالصفة تلازم الشخص في كل أطوار حياته، فلا يمكن أن يكون متصفا بها في وقتٍ غير متصف بها في وقت آخر، فلا وجه لهذا الاعتراض، ولا يمكن أن يُتصوَّر عقلا غير ذلك.
وأما قوله صلى الله عليه وسلم لوحشي أن يغيّب عنه وجهه فذلك – في رأيي – لأمور عديدة منها: أنه من المعروف أنه صلى الله عليه وسلم لا ينتصر لنفسه ولا ينطق عن الهوى، فهل قال له إنك حين قتلتَ حمزة كافر أو فاسق أو سيكون مصيرُك كذا، أو سينقص ذلك من مكانتك أو ستحاسب على فعلك هذا؟ بالتأكيد أنه لم يزده على هذه الكلمة، ثم إن تغييب وحشي عن المجتمع المدني خيرٌ له من البقاء بينهم، فكثير من الناس كأقارب حمزة قد لا يرضون بوجود قاتله بينهم وربما تجاسر عليه أحدٌ منهم فقتله أو سبّه أو آذاه، والإسلام لا يرضى بذلك لأن الإسلام يجُبّ ما قبله، وهو حين دخل الإسلام أصبح مصون الدم والعرض ولا يمكن أن يناله أحدٌ بسوء بذريعة أنه قاتل عم النبي صلى الله عليه وسلم؛ لأن المرء لا يحاسب على جرائمه قبل إسلامه مهما كان جُرمه، ثم إن المجتمع العربي مجتمع قبلي قريب عهد بالجاهلية وكانوا أهل حمية وعصبية، ولا يرضى فيهم الرجل الشهم أن يرى قاتل أبيه أو أخيه أو أحد أفراد قبيلته يعيش معه، فلعل النبي صلى الله عليه وسلم نظر إلى مآلات القضية عملا بارتكاب أخفّ الضررين وأمره أن يعيش خارج المدينة، والله ورسوله أعلم.
ثم أسألكم بربكم هل سمعتم بقتل كان أشنع من قتل حمزة والتمثيل به فإن القلب ليتقطع حسرة وألما حين يخترق مسامعَه هذا المشهدُ: “ثم إنها بقرت بطن حمزة وجذبت بين يديها كبده وجعلت تلوكها بأسنانها فلا تستطيع أن تسيغها. وبلغ من شناعة ما فعلت وما فعلت النسوة ممن معها، بل ما فعل الرجال كذلك من الفظائع، أن تبرّأ أبو سفيان (زوجها) من تبِعَتِها، وأعلن أنه لم يأمر به وإن كان قد اشترك فيه، بل قال يخاطب أحد المسلمين: «إنه قد كان في قتلاكم مثل، والله ما رضيت وما سخطت وما نهيت وما أمرت”.
فهذا أبو سفيان زوج هند يتبرّأ من شنيع فعلها ووحشيته!! فهل عرفت البشرية في تاريخها أبشع وأنكى مما فُعِل بحمزة، فإنّ داعش القرن الواحد والعشرين لم يخطر لها هذا العقاب ببال ولعلها حين يروى لها تترفّع عن فعله لوحشيته.
ومن المؤكّد أن وحشيا لو مثل أمام قائد من قواد الجيوش في الشرق أو الغرب وقد قتل أحد جنوده فضلا عن عمه الفارس الشجاع الذي كان أحب الناس إليه فإنه لن يفلت من بطشه ولنكّل به تنكيلا ولأحلّ به عقابا ما وراءه عقابٌ، ولعل العلماء الراسخين في العلم لديهم حُجج وبراهين أقوى وأوضح من هذه الإشارات التي حضرني ذكرُها، والله تعالى ورسوله أعلم.
أما الاعتراض الثاني فمؤدّاه في رأي ول مخيطير أن هند ووحشيا شريكان في قتل حمزة، بل إن وحشيا لاذنب له وإنما هو عبد مأجور، وهذا نص كلامه:” هند قرشية ووحشي حبشي وإلا فما هو سبب التمييز بينهما وهم في الجرم على الأقل سواء أو إن شئتم الدقة فهند هي المذنب الحقيقي وما ذنب عبد مأجور” (مقاله المنشور على النت).
فهو يريد أن يؤكّد أن هند هي القاتلة، ووحشي لا ذنب له وإنما استُؤجِر على تنفيذ مهمة فأكملها، لكن لكونها قرشية بُرِّئت، وجُرّم وحشي لا لشيء سوى أنه حبشي.
وأنا أسأل العقلاء كيف يمكن تبرئة وحشي؟ وهل كان فعلُه تحت التهديد القسري؟ أم كان اختياريا؟ وهل يعقل أن يقترف الشخص جريمة فيُبرَّأَ من الملاحقة لمجرّد الادّعاء بأنه مستأجَر، فأيّ منطق يقول بتجريم الآمر وتبرئة المباشر للفعل كما يدّعي ول مخيطير!! فقد بنى استنتاجه على فقه ومنطق خاطئين لا يقول بهما قائل له أدنى دراية بالشرع ولا بالقانون، وإنما أعماه الحقد والعصبية عن تصوّر الحقائق، وكذلك يفعلان بأمثاله.
والنبي صلى الله عليه وسلم لم يجرّم أحدهما قولا ولا فعلا، وأتحدّى ول مخيطير أو غيره أن يأتيني برواية ولو ضعيفة تقول بتجريم هند أو وحشي أو تدلّ على التمييز بينهما كما زعم، لأن الشخص بمجرّد دخوله للإسلام يصبح كيوم ولدته أمُّه، ويُصَفَّر عدَّادُ سيّئاتِه مهما كانت جرائمه قبل إسلامه.
المثال الثالث: قارَن فيه ول مخيطير بين وحشي وخالد بن الوليد، وقال إن خالدا كان سبب هزيمة المسلمين في معركة أحد، وحين دخل الإسلام لُقِّب “سيف الله المسلول”، بسبب أنه قرشيّ، بينما لم يلقّب وحشي “حربة الله التي لا تخطئ الهدف”؟
وهذا نصّ كلام ول مخيطير: ” و لنقارن ما حدث لـ”وحشي” مع دور شخص آخر هو خالد بن الوليد حيث أن هذا الرجل كان السبب الرئيسي في هزيمة المسلمين في “أحد” و قتل عددا من المسلمين و عند دخوله الإسلام أخذ اللقب الشهير “سيف الله المسلول” ، فلماذا لا يتم استقبال وحشي و يأخذ مثلا لقب “حربة الله التي لا تخطئ الهدف”…..؟ ( مقال ول مخيطير في النت).
وهذا من المفارقات العجيبة؛ فالذي له أدنى إلمام بالتاريخ لا يمكن أن يستسيغ وجه هذه المقارنة، إذ يُفترض أن يكون هناك تطابق أو تشابه أو تقارب بين خالد ووحشي في مجال المقارنة بينهما، ولا أرى وجه شبهٍ بينهما، فخالد بن الوليد كان شجاعا فاتكا حين كان في جيش قريش، وحين دخل في الإسلام كان كذلك، فقاد معارك كثيرة وحقق انتصارات كثيرة بين صفوف المسلمين استحق أن يظفر بهذا ّاللقب العظيم: “سيف الله”، لكن بأيّ منطق أو عقل يلقّب وحشيٌّ “حربة الله”؟ فهل يلقّب حربة الله لأنه قتل حمزة وهو كافر؟ والأولى له حينها أن يلقّب “حربة الكفر” أو “حربة قريش” أو “حربة هند”، أو غير ذلك، أما بعد دخوله في الإسلام فلم يشارك في بعض المعارك حتى يحظى بهذا اللقب؟
فقد أعمى الحقدُ والعداوة ول مخيطير عن رؤية هذه الحقائق، فلا يرى غير ما يمليه عليه هواه وبصيرته العمياء.
المثال الرابع: يعترض فيه ول مخيطير على أن الرسول صلى الله عليه وسلم حين فتح مكة عفا عن أهلها ولم يقتل أحدا، ولم يُسْبِ أحدا، وأمّنهم في أنفسهم وأموالهم، ولم يمسسْ أحدا منهم بسوء، وكلامه الذي نقل صحيحا غير مقتطَعٍ من سياقه وغير محرَّفٍ، يقول ول مخيطير: “نال أهلُ مكة عفوًا عامًّا رغم أنواع الأذى التي ألحقوها بالرسول محمدٍ ودعوته، ومع قدرة الجيش الإسلامي على إبادتهم، وقد جاء إعلان العفو عنهم وهم مجتمعون قرب الكعبة ينتظرون حكم الرسول محمد فيهم، فقال: «ما تظنون أني فاعل بكم؟»، فقالوا: «خيرًا أخٌ كريمٌ وابن أخٍ كريمٍ»، فقال: «لاَ تَثْرَيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ يَغْفِرُ اللهُ لَكُمْ» و عبارة “اذهبوا فأنتم الطلقاء” وقد ترتب على هذا العفو العام حفظ الأنفس من القتل أو السبي، وإبقاء الأموال المنقولة والأراضي بيد أصحابها، وعدم فرض الخراج عليها، فلم تُعامل مكة كما عوملت المناطق الأخرى” (مقال ول مخيطير في النت).
وهنا لا أكلّف نفسي عناء الرد لأن الكلام الذي نقله يعكس صفحة مشرقة من صفحات التاريخ الإسلامي، بل من صفحات تاريخ الإنسانية، ويُنبئ عن رقي التعامل مع العدوّ بسماحة ورحمة وعفو، فأهل مكة هم مَن آذوه وأخرجوه هو وأهله وأصحابه وتآمروا على قتله وحاصروه لمدة سنتين ليستسلم، وكان بإمكانه أن يلحق بهم أشدّ النكال.
إذن لا شيء أرقى ولا أسمى في التعامل من أن تظفر بألدّ أعدائك، وتكون قادرا على أن تُنزِل به أشدّ العقاب فتعفو عنه وتصفح، وكان أهل مكة أنفسهم يتوقعون التنكيل بهم، لكنه – كما في النص الذي نقله ول مخيطير – وجدهم مجتمعين قرب الكعبة ينتظرون القتل والانتقام فقوبلوا بالعفو والإكرام: “ما ترون أني صانع بكم؟ ” قالوا: خيرا , أخ كريم وابن أخ كريم. قال: ” اذهبوا فأنتم الطلقاء ” (السنن الكبرى للبيهقي، الحديث رقم: 18275).
أما عدم قسمة الأرض بين الغانمين فتلك مسألة شائكة تنظّمها نصوص شرعية مردّها إلى فتح البلد عنوة أو صلحا، ويحقّ للإمام أن يترك لأهل البلد المفتوح عنوة دورَهم، وهو حال أهل مكة (على خلاف بين العلماء في كونها مفتوحة عنوة أو صلحا)، ولم تُعامل مكة معاملة خاصة كما زعم ول مخيطير ولكنه جهلٌ بالسياسة الشرعية أدّى به إلى فهم خاطئ فاستنتاج باطل، وليس مستغربا أن يخطئ من يتكلم بما لايعلم لا سيما إذا كانت هناك نية مبيّتة وحقد يُعمي ويُصِمّ عن الحقائق التاريخية الواضحة.
المثال الخامس: أراد ول مخيطير أن يقارن بين عفوه صلى الله عليه وسلم عن قريش لأنهم – في رأيه – بنو عمومته وقتله لرجال بني قريظة لأنهم من اليهود، زاعما أن اليهود هموا بالتآمر مع قريش من أجل القضاء على رسول الله صلى الله عليه وسلم ودعوته، فعفا عن قريش وقتل رجال اليهود ليقول إن هذا الأمر فيه تمييز واضح بين قريش واليهود.
وهذا كلام مفترى مقطوع من سياقه حيث يريد ول مخيطير أن يوهم ذوي القلوب الحاقدة على الإسلام أن النبي صلى الله عليه وسلم يعفو عن قريش لصلة قرابته بهم ويقتل اليهود لا لشيء سوى أنهم يهود، وهذا – لو صحّ – لا يقِرّه الإسلام لأنه دين العدل والمساواة والرحمة، لافضل فيه لعربي على عجمي ولا لأحمر على أسود إلا بالتقوى، كما جاءت بذلك نصوص القرآن والسنة النبوية.
فلنرجع إلى كتب التاريخ والسير لنعرف سبب قتل الرسول صلى الله عليه وسلم لرجال بني قريظة، ثم نحكم بعد ذلك هل كان قول ول مخيطير صحيحا في شأن هذه التفرقة بين اليهود وقريش، أم إنه تحامل ومحاولة تلبيس وتحريف للحقائق. وأدعو القارئ إلى أن يقرأ عن معركتي الخندق وبني قريظة ليعرف ملابسات قتل رجال اليهود.
وسأحاول أن أختصر ما كتبته المراجع عن هذا الموضوع.
إن النبي صلى الله عليه وسلم حين جاء إلى المدينة مهاجرا فارًّا بدينه من بطش قريش ومحاولاتهم لقتله بدأ في تأسيس الدولة الإسلامية، فوجد في المدينة ثلاثة بطون من اليهود هم: بنو قينقاع، وبنو النضير، وبنو قريظة، فعاهد رسول الله صلى الله عليه وسلم مَن بالمدينة مِن اليهود، وكتب بينه وبينهم معاهدة تتلخص في أن سكّان المدينة يدٌ واحدة على من عاداهم، وأن لليهود ما للمسلمين من حقوق، وعليهم ما عليهم من واجبات مع بعض التفصيلات الجزئية، ومن أهم بنود الصلح أنَّ بينهم النصرَ علىٰ من حارب أهل هذه الصحيفة، وأن بينهم النصحَ والنصيحة، والبر دون الإثم، وأنَّ بينهم النصر علىٰ من دَهَم المدينة (أي فاجأها بحرب).
فأخلّ بالمعاهدة بنو قينقاع وبنو النضير وبنو قريظة، فأجلى بني قينقاع، وأخرج بني النضير.
أما بنو قريظة فخلاصة ما جرى بينهم وبين النبي صلى الله عليه وسلم أنه لما خرج بنو النضير بعد إخلالهم بالمعاهدة تذمّر زعماؤهم وذهبوا إلى مكة يستنجدون قريشا في مؤازرتهم على مقاتلة الرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه فتعاهدوا مع قبائل قريش وحلفائها أن يذهبوا إلى المدينة ويحاصروها ولا يبرحوها حتى يستأصلوا النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه.
فخرجت قريش وحلفاؤها في جيش عظيم بلغ عشرة آلاف مقاتل، ولما علم رسول الله صلى الله عليه وسلم بتحزّبهم واجتماعهم على قتاله استشار أصحابه في مواجهة هذا الجيش فأشار عليه سلمان الفارسي بأن يحفر خندقا كبيرا حول المدينة فبادروا إلى حفر الخندق حتى أكملوه قبل وصول الجيوش الغازية إلى المدينة، فلما رأى الجيوش الخندق عرفوا أنه لا سبيل إلى دخول المدينة إلا عن طريق بني قريظة، وخرج حيي بن أخطب النضيري بالتماس من أبي سفيان حتى أتى كعب بن أسد القرظي وكان كعب قد وادع رسول الله صلّى الله عليه وسلم على قومه وعاهدهم على ذلك فلما سمع كعب بحيي بن أخطب أغلق دونه باب حصنه فاستأذن عليه حيي فأبى كعب أن يفتح له فقال كعب ويحك يا حيي إنك امرؤ مشؤوم وإني قد عاهدت محمدا فلست بناقض ما بيني وبينه ولم أرَ منه إلا وفاءًا وصدقا قال ويحك افتح لي أكلمك قال ما أنا بفاعل، فلم يزل يحاول معه حتى فتح له فقال يا كعب ويحك جئتك بقريش قد عاهدوني وعاقدوني أن لا يبرحوا حتى يستأصلوا محمدا ومن معه فقال له كعب بن أسد جئتني بذل الدهر فدعني ومحمدا وما أنا عليه فلم أر من محمد إلا وفاءًا وصدقا، فلم يزل حيي بكعب يلحّ عليه حتى سمح له فنقض كعب عهده وبرئ مما كان عليه فيما بينه وبين رسول الله صلّى الله عليه وسلم فلما انتهى الخبر إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلم أرسل رجالا ليعرفوا الخبر فخرجوا حتى أتوهم فوجدوهم قد نقضوا وقالوا: “لا عقد بيننا وبين محمد ولا عهد”، فرجعوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبروه بنقض بني قريظة العهد. وبينما هم يتشاورون إذ جاءهم نعيم بن مسعود الأشجعي فقال يا رسول الله؛ إنّي أسلمت، وإنّ قومي لم يعلموا بإسلامي، فمرني بما شئت، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: “إنّما أنت فينا رجل واحد، فخذّل عنا ما استطعت، فإنّ الحرب خدعة”، فخرج حتّى أتى بني قريظة، فقال لهم: يا بني قريظة؛ قد عرفتم ودّي إياكم، وخاصة ما بيني وبينكم، قالوا: صدقت، فقال لهم: إنّ قريشا وغطفان ليسوا كما أنتم: البلد بلدكم، وبه أموالكم وأبناؤكم، ونساؤكم، فإن رأوا نهزة..أصابوها، وإن كان غير ذلك.. لحقوا ببلادهم، وخلّوا بينكم وبينه ببلدكم، ولا طاقة لكم به إن خلا بكم، فلا تقاتلوا معهم حتّى تأخذوا منهم رهنا من أشرافهم، يكونون ثقة لكم على أن يقاتلوا معكم محمّدا، حتى تناجزوه، فقالوا: لقد أشرت بالرأي، ثم أتى قريشا فقال لأبي سفيان ومن معه: قد عرفتم ودّي لكم، وفراقي محمّدا، وإنه قد بلغني أمر، فاكتموه عني، قالوا: نفعل، قال: إنّ معشر يهود ندموا على ما صنعوا، وأرسلوا إلى محمّد: إنّا قد ندمنا على ما فعلنا، أيرضيك أن نأخذ لك من أشراف قريش وغطفان رجالا فتضرب أعناقهم، ثمّ نكون معك على من بقي منهم، حتّى نستأصلهم؟ فأرسل إليهم: نعم، قال نعيم: فإن بعثت إليكم يهود يلتمسون منكم رهنا فلا تدفعوا إليهم رجلا واحدا.
وكان من صنع الله لرسوله: أنّ أبا سفيان ورؤوس غطفان أرسلوا إلى بني قريظة عكرمة في نفر من القبيلتين فقالوا: إنّا لسنا بدار مقام، وقد هلك الخفّ والحافر، فأعدّوا للقتال حتى نناجز محمّدا، ونفرغ ممّا بيننا وبينه، فأرسلوا إليهم: لسنا مقاتلين معكم.. حتّى تعطونا رهنا من رجالكم، يكونون بأيدينا ثقة لنا، حتّى نناجز محمّدا، فإنّا نخشى إن اشتدّ عليكم القتال.. أن ترجعوا إلى بلادكم، وتتركونا والرجل في بلادنا، ولا طاقة لنا به، فقالت قريش وغطفان: والله إنّ الذي حدّثكم به نعيم لحق، فأرسلوا إليهم: إنّا والله لا نقاتل معكم.. حتى تعطونا رهنا، فأبوا عليهم، وخذل الله بينهم، ويئس كل منهم من الآخر، وقفلوا راجعين كلّ إلى وجهته التي جاء منها بعد أن نقض بنو قريظة العهد.
ولما رجع رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه إلى المدينة ووضعوا أسلحتهم أمرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يبادروا إلى الخروج إلى بني قريظة، فحاصروهم خمسا وعشرين ليلة، ولما اشتد عليهم الحصار، خيرهم زعيمهم كعب بن أسد قائلا: يا معشر يهود؛ قد نزل بكم ما ترون، وإنّي أعرض عليكم خلالا ثلاثا، فخذوا أيّها شئتم.. قالوا: وما هي؟ قال: نتابع هذا الرجل ونصدقه، فوالله؛ لقد تبيّن أنّه نبيّ مرسل، وأنّه لَلّذي تجدونه في كتابكم، فتأمنون على دمائكم وأموالكم وأبنائكم ونسائكم. فأبوا، قال: فإذا أبيتم عليّ هذه.. فهلمّ فلنقتل أبناءنا ونساءنا، ثمّ نخرج إلى محمّد وأصحابه رجالا مصلتين السيوف، لم نترك وراءنا ثقلا حتى يحكم الله بيننا وبين محمّد، فإن نهلك.. نهلك ولم نترك وراءنا نسلا نخشى عليه، وإن نظهر.. فلعمري؛ لنجدنّ النساء والأبناء، فقالوا: أيّ عيش لنا بعد أبنائنا ونسائنا؟! فقال: فإن أبيتم عليّ هذه، فإنّ الليلة ليلة السبت، وعسى أن يكون محمّد وأصحابه قد أمِنونا فيها، فانزلوا لعلّنا نصيب من محمّد وأصحابه غرّة. قالوا: نفسد سبتنا، ونحدث فيه ما لم يحدث فيه من كان قبلنا إلّا من قد علمت، فأصابه ما لم يخف عليك من المسخ؟! قال: ما بات رجل منكم منذ ولدته أمه ليلة واحدة من الدهر حازما.
و لما يئس بنو قريظة بعد اشتداد حصارهم.. أذعنوا أن ينزلوا على حكم رسول الله صلى الله عليه وسلم، فحكّم النّبيّ فيهم سعد بن معاذ سيد الأوس.
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ألا ترضون يا معشر الأوس أن يحكَّم فيهم رجل منكم؟» قالوا: بلى. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «فذلك إلى سعد بن معاذ». فلمّا حكّمه رسول الله صلى الله عليه وسلم في بني قريظة.. أتاه قومه، ثمّ أقبلوا معه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهم يقولون: يا أبا عمرو؛ أحسن في مواليك؛ فإنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم إنّما ولّاك ذلك لتحسن فيهم، فقال سعد: عليكم بذلك عهد الله وميثاقه أنّ الحكم فيهم لما حكمت؟ قالوا: نعم. قال: وعلى من ههنا؟ – في الناحية التي فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو معرض عن رسول الله صلى الله عليه وسلم إجلالا له – فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «نعم» (انظر أغلب كتب السير والتاريخ، وشرح الزرقاني على المواهب اللدنية 3/82)، وفي الصحيحين “فلما بلغ قريبا من المسجد، قال النبي صلى الله عليه وسلم: “قوموا إلى خيركم، أو سيدكم”، فقال: “يا سعد إن هؤلاء نزلوا على حكمك”، قال: فإني أحكم فيهم أن تقتل مقاتلتهم وتسبى ذراريهم، قال: “حكمت بحكم الله، أو: بحكم الملك” (اللفظ للبخاري، الحديث رقم: 3804).
علّق ول مخيطير على ما سماه التفرقة بين قريش وبني قريظة بقوله: “و نعود للمقارنة بين الحالتين – مكة و بني قريظة-: بنو قريظة هموا بالتمالئ – و الأمر لم يحدث – مع قريش من أجل القضاء على محمد و دعوته. فتم العفو العام عن قريش و نفذ الإعدام في بني قريظة سيان من هم بنقض العهد أو من لم يهم بذلك فقد تم الحكم على بني قريظة، فقتل مقاتلتهم وسبى ذراريهم، قريش واجهت المسلمين في أكثر من معركة و حاصرتهم حصارا شديدا في الخندق و في بدايات الدعوة انتدبت أربعين شابا لقتل محمد ليلة الهجرة و قبل الهجرة و في مكة قتلوا و عذبوا المسلمين أشد تعذيب و في فتح مكة وجدوا أمامهم أخا كريما و ابن أخ كريم فقال لهم اذهبوا فأنتم الطلقاء.
بني قريظة فقط هموا بالتحالف مع المشركين فكان جزاؤهم القتل الجماعي.
أين راحت الرحمة؟….. أم أن للأخوة و “أَتْبَنْعِيمَه” دورها في “العقل الشامل/المطلق”. (مقال ول مخيطير في النت).
لم يكلّف ول مخيطير نفسَه عناء البحث عن الحقيقة، وإنما أراد أن يهوّل في شأن التفرقة بين معاملة الرسول صلى الله عليه وسلم لقريش وبني قريظة، فقريش التي قاتلت المسلمين وشردتهم وحاولت قتل الرسول صلى الله عليه وسلم وجدت أخا كريما عفا عنها ولم يمسسْها بسوء، أما بنو قريظة فإنهم لم يعملوا سوى أنهم تمالؤوا على التحالف مع قريش وكان جزاؤهم القتلَ، والسبب الأوحد في هذه التفرقة هو قرابتُهم من النبي صلى الله عليه وسلم في النسب.
فبدل أن يبحث في الأسباب المباشرة التي غصّت بها كتب التراث والتاريخ الإسلامي ذهب ينتحل أسبابا لا علاقة لها بالموضوع.
فمن المعلوم أن الإسلام قد حرّم قتل النفس، وجعلها أكبر جريمة يقترفها المسلم، وأنزل بقاتل النفس أقسى العقاب، وجعل إحياء النفس إحياءًا للناس جميعا كما في نص الآية القرآنية، كما حثّ على الوفاء بالعقود والذمم، وحرم نقض العهود، ولا سيما إذا تعلّق الأمر بالمعاهد الجار، لافرق في ذلك بين مسلم وغير مسلم، وأقسم النبي صلى الله عليه وسلم أيمانا مغلّظة على عدم إيمان من يخفر ذمّة جاره كما في أصحّ الأحاديث النبوية: “والله لا يؤمن، والله لا يؤمن، والله لا يؤمن» قيل: ومن يا رسول الله؟ قال: «الذي لا يأمنُ جارُهُ بوايِقَهُ” (صحيح البخاري، الحديث رقم: 6016).
فقد تمالأ أكثر من عشرة آلاف مقاتل من مختلف القبائل الحاقدة على النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه، وكان أصحاب المبادرة هم يهود بني النضير بقيادة حيي بن أخطب الذي جاء لقريش وألّبهم وتعاهد معهم على أن يكونوا يدا واحدة حتى يقتلوا محمداً ويستأصلوا شأفة المسلمين، وحين جاءوا للمدينة كان حيي مَن حاول إقناع كعب بن أسد القرظي فرفض استقباله وقال: “يا حيى إنك امرؤ مشؤوم وإني قد عاهدت محمدا فلست بناقض ما بينى وبينه ولم أرَ منه الا وفاءًا وصدقا فلم يزل حيي بن أخطب بكعب يلحّ عليه حتى سمح له فنقض كعب عهده وبرئ مما كان عليه فيما بينه وبين رسول الله صلّى الله عليه وسلم”، وكان نقض زعيم بني قريظة هو السبيل الوحيد لدخول المدينة – بعد أن خندقوا حواليها – وتنفيذ مخطط الإبادة المُزمع من طرف قريش وأعوانها.
لم يتعرّض ول مخيطير لشيء من هذا، ولم يتعرّض لمعاهدة المدينة التي وقعها النبي صلى الله عليه وسلم مع كافة الجاليات، والتي كانت نواة لأرقى المعاهدات والاتفاقات والدساتير التي تصون حقوق الأفراد والجماعات، وتحفظ دماءهم وأموالهم، والتي كان من ضمن بنودها أنَّ بين أطراف المعاهدة النصرَ علىٰ من حارب أهل هذه الصحيفة، وأن بينهم النصحَ والنصيحة، والبر دون الإثم، وأنَّ بينهم النصر علىٰ من دَهَم المدينة.
ولم يفكّر ول مخيطير في إبادة أمة الإسلام بالمدينة، ولا بخيانة العهود ونقض الميثاق التي سيترتب عليها إبادة آلاف من الأبرياء من رجال ونساء وأطفال ومسنّين من غير جرم اقترفوه سوى أنهم دخلوا في دين يدعو إلى العدل والمساواة وإنصاف المظلوم وإطعام الطعام وإعانة المحتاج وتحرير البشرية من الظلم والعبودية والطبقية والعصبية القبلية وغير ذلك.
ثم إني أسأل ذوي العقل والروية والإنصاف ما ذا تعني عبارة ” بنو قريظة هموا بالتمالئ – و الأمر لم يحدث – مع قريش من أجل القضاء على محمد و دعوته”؟
هل يريد ول مخيطير من الرسول صلى الله عليه وسلم أن ينتظر أن ينفّذ المتآمرون عليه مخططهم ثم بعد ذلك يحاسب بني قريظة على فعلهم؟ لا أظن أن عاقلا يتصور هذا الطرح لأن الشخص لا يُتأتى منه فعلٌ بعد إبادته!!!!، وهل فوق التمالئ والتخطيطِ له جرمٌ؟
فهبْ أن جماعة خططوا لإبادة مجتمع واكتَشف المستهدَف تخطيطهم وأفشله، فهل يستساغ أن يقول لهم عفوتُ عنكم لأنكم لم تنفّذوا مخططكم؟ ولم تصلوا إلى هدفكم؟ فلو نفّذتم إبادتكم لعاقبتكم؟ ولكن احذروا من التنفيذ؟؟ أيصدّقٌ عاقلٌ هذا الكلام؟ لا أتصور!!!!
فإذا كان مخططو الانقلابات الفاشلة الذين يسعون للوصول إلى الحكم بحجة الإصلاح والتغيير للأفضل يلاحَقون فردا فردا، ويقتَلون ويُسجنون وتُنَزّل بهم أقسى العقوبات بتهمة تغيير السلطة، أفلا يستحقّ الصائلون الناقضون للعهود الذين يخططون لإبادة مجتمع بكامله إبادة مَن كان منهم ضالع في المؤامَرَة!!!!
إن ما خطّط له بنو قريظة هو ما يعرف في القانون الدولي المعاصر بالخيانة العظمى التي تعاقب عليها الدول بالقتل، جراء إفشاء أسرار الدولة، أو التعاون مع عدو خارجي أو غير ذلك.
ثم إن زعيم بني قريظة بعد أن طال حصارُهم خيرهم بين ثلاث خصال: الأولى: إما أن تتبعوه فوالله؛ لقد تبيّن أنّه نبيّ مرسل، وأنّه للّذي تجدونه في كتابكم، فتأمنون على دمائكم وأموالكم وأبنائكم ونسائكم، والثانية: أن يقتلوا نساءهم وأولادهم حتى لا يكون وراءهم ما يخافون ضياعه، فإن نهلك.. نهلك ولم نترك وراءنا نسلا نخشى عليه، وإن نظهر.. فلعمري؛ لنجدنّ النساء والأبناء، والثالثة: يغيرون على الرسول صلى الله عليه وسلم يوم السبت وعسى أن يكون محمّد وأصحابه قد أمنونا فيها، لينالوا منه غرّة، فرفضوا الخيارات الثلاثة فقال لهم: ما بات رجل منكم منذ ولدته أمه ليلة واحدة من الدهر حازما.
ثم إن النبي صلى الله عليه وسلم لم يقتل رجال بني قريظة – رغم جرمهم – إلا بعد أن حاكمهم محاكمة علنية عادلة رضي بها كل الأطراف: فلنستمع إلى وقائع الجلسة يرويها العدول: لما يئس بنو قريظة بعد اشتداد حصارهم.. أذعنوا أن ينزلوا على حكم رسول الله صلى الله عليه وسلم، فحكّم النّبيّ فيهم سعد بن معاذ سيد الأوس، وكان الأوس حلفاء لبني قريظة.
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ألا ترضون يا معشر الأوس أن يحكّم فيهم رجل منكم؟» قالوا: بلى. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «فذلك إلى سعد بن معاذ» . فلمّا حكّمه رسول الله صلى الله عليه وسلم في بني قريظة أتاه قومه، ثمّ أقبلوا معه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهم يقولون: يا أبا عمرو؛ أحسن في مواليك؛ فإنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم إنّما ولّاك ذلك لتحسن فيهم، فقال سعد: عليكم بذلك عهد الله وميثاقه أنّ الحكم فيهم لما حكمت؟ قالوا: نعم. قال: وعلى من ههنا؟ – في الناحية التي فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو معرض عن رسول الله صلى الله عليه وسلم إجلالا له – فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «نعم» قال سعد: فإنّي أحكم فيهم أن تقتل الرجال، وتقسّم الأموال، وتسبى الذّراريّ والنساء، قال: “حكمت بحكم الله، أو: بحكم الملك”.
غير أن الرسول صلى الله عليه وسلم أمر بعدم قتل غير البالغين منهم، ولعله صلى الله عليه وسلم استثناهم لكونهم غير مكلَّفين أو غير قادرين على الحرب لو وقعت أو لغير ذلك، والله أعلم بقصده.
إذنْ فرجال بني قريظة كانت لهم فرصة للنجاة من القتل؛ فلو أنهم حين حاصرهم المسلمون أسلموا لعصموا دماءهم وأموالهم كما أمرهم بذلك زعيمهم، لكنهم غدروا ونقضوا عهود الأمان، وتمادوا في عداوتهم للإسلام مع اعتراف رئيسهم بأنه الدين الحق الذي وجدوه في كتبهم، ثم إنهم رضوا بحكم سعد بن معاذ – الذي أيّده الوحي – لظنهم أنه سيحكم لصالحهم.
فلو كانت المسألة تتعلق بالتآمر على قتل النبي صلى الله عليه وسلم لجاز أن يعفو عنهم كما عفا عن كثيرين أرادوا قتله كدعثور وغورث وبني النضير حين هموا بقتله، لكن الأمر يتعلّق بمسألة عامة هي مسألة السلم والحرب بين المسلمين وغيرهم، لاسيما وأن اليهود لديهم سوابق كثيرة في الغدر والكيد للإسلام والمسلمين، سبقت مع بني النضير وبني قينقاع، وقد عامل صلى الله عليه وسلم كلاًّ منهم – رغم غدرهم – حسب جرمه.
والخلاصة أن النبي صلى الله عليه وسلم عقد عهوداً مع اليهود، فكان أول مَن نقض تلك العهود هم بنو قينقاع فأُجْلُوا إلى أذرِعات، لكن حُفِظت لهم دماؤُهم وأموالُهم، ثم بني النضير فأُخرجوا من المدينة ولهم ما حمِلتْ إبِلُهم، فصاروا يُؤَلِّبون عليه المنافقين من داخل المدينة والعرب من خارجها، فغَزوْا غزوة الأحزاب في تلك الجموع الهائلة، وغدرت معهم بنو قريظة، فإن هو أبقاهم استمرّوا على تدبير الكيُود، وإن أخرجهم عملوا كما عمل إخوانُهم، فلم يبق إلا خيار القتل في مَن يقاتِل منهم.
هذا من حيث العقل والمنطق، وأما من حيث الحقيقة والواقع فإنهم حُوكِموا محاكَمة علنية عادِلة رضُوا بنتائجها، ونزل الوحي بتأكيد هذا الحكم.
مع التنبيه إلى أن بني قريظة هم من قتلوا أنفسهم لسببين أولهما: أنهم نقضوا العهد فاستحقوا القتل، وثانيهما: أنهم حين حوصروا لم يُسلِموا؛ فلو أسلموا لعَصَم الإسلام دماءَهم ونجوا من القتل كما قدمنا.
أما الافتراءات التي تعوّد ول مخيطير أن يرد إليها كل تصرف فقد أثبتنا أنها لاتمتّ إلى الواقع ولا إلى الحقيقة بصلة.
أما سؤاله أين راحت الرحمة؟ فإن رحمته صلى الله عليه يعرفها كلُّ من قرأ سيرته العطِرة بقلبٍ سليم، فهو الرحمة المهداة، ففي القرآن الكريم {وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين}.
وإن رحمته صلى الله عليه وسلم عرفها المسلم وغير المسلم، والقاصي والداني والقوي والضعيف؛
فقد عرَفها أشدُّ أعدائه عليه، فحين عرض عليه ملَك الجبال قوله: “إن شئت أن أطبق عليهم الأخشبين؟ قال صلى الله عليه وسلم: بل أرجو أن يخرج الله من أصلابهم من يعبد الله وحده، لا يشرك به شيئاً” رواه البخاري.
وعرفتها النساء في الحرب، ففي الحديث “أن امرأة وجدت في بعض مغازي رسول الله صلى الله عليه وسلم مقتولة. فأنكر رسول الله صلى الله عليه وسلم قتل النساء والصبيان” رواه البخاري ومسلم.
وعرفها اليهود، فعن أنس بن مالك رضي الله عنه: “كان غلام يهودي يخدم النبي صلى الله عليه وسلم فمرض، فأتاه النبي صلى الله عليه وسلم يعوده، فقعد عند رأسه، فقال له: أسلم. فنظر إلى أبيه وهو عنده، فقال له: أطع أبا القاسم صلى الله عليه وسلم، فأسلم، فخرج النبي صلى الله عليه وسلم وهو يقول: الحمد لله الذي أنقذه من النار” رواه البخاري.
وعرفها المعاهد (غير المسلم الذي له مع المسلمين عهد)؛ فعن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: “من قتل نفسا معاهدا لم يرح رائحة الجنة، وإن ريحها ليوجد من مسيرة أربعين عاما” رواه البخاري.
وعرفها أمراء الجيوش في التعليمات والتوجيهات التي كانت تقدّم إليهم؛ فعن بريدة بن الحصيب عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان إذا أمّر أميرا على جيش أو سرية، أوصاه بتقوى الله ومن معه من المسلمين خيرا. ثم قال “اغزوا باسم الله. وفي سبيل الله. قاتلوا من كفر بالله. اغزوا ولا تغلوا ولا تغدروا ولا تمثلوا ولا تقتلوا وليدا. وإذا لقيت عدوك من المشركين فادعهم إلى ثلاث خصال (أو خلال). فأيتهن ما أجابوك فاقبل منهم وكف عنهم. ثم ادعهم إلى الإسلام. فإن أجابوك فاقبل منهم وكف عنهم. ثم ادعهم إلى التحول من دارهم إلى دار المهاجرين. وأخبرهم أنهم، إن فعلوا ذلك، فلهم ما للمهاجرين وعليهم ما على المهاجرين. فإن أبوا أن يتحولوا منها، فأخبرهم أنهم يكونون كأعراب المسلمين. يجري عليهم حكم الله الذي يجري على المؤمنين. ولا يكون لهم في الغنيمة والفيء شيء. إلا أن يجاهدوا مع المسلمين. فإن هم أبوا فسلهم الجزية. فإن هم أجابوك فاقبل منهم وكف عنهم. فإن هم أبوا فاستعن بالله وقاتلهم. وإذا حاصرت أهل حصن، فأرادوك أن تجعل لهم ذمة الله وذمة نبيه. فلا تجعل لهم ذمة الله وذمة نبيه. ولكن اجعل لهم ذمتك وذمة أصحابك. فإنكم، أن تخفروا ذممكم وذمم أصحابكم، أهون من أن تخفروا ذمة الله وذمة رسوله. وإذا حاصرت أهل حصن، فأرادوك أن تنزلهم على حكم الله، فلا تنزلهم على حكم الله. ولكن أنزلهم على حكمك. فإنك لا تدري أتصيب حكم الله فيهم أم لا” رواه مسلم.
وعرفها اليهود؛ فعن خالد بن الوليد رضي الله عنه قال: “غزوت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم خيبر فأتت اليهود فشكوا أن الناس قد أسرعوا إلى حظائرهم فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم ألا لا تحل أموال المعاهدين إلا بحقها” رواه أبو داود بسند حسن.
وعرفها المشركون رغم عداوتهم؛ فعن أبي هريرة رضي الله عنه أنه قال: قيل: يا رسول الله ادع على المشركين. قال “إني لم أبعث لعانا. وإنما بعثت رحمة”. رواه مسلم.
وعرفها العصاة؛ فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قدم طفيل بن عمرو الدوسي وأصحابه، على النبي صلى الله عليه وسلم فقالوا: يا رسول الله، إن دوسا عصت وأبت، فادع الله عليها، فقيل: هلكت دوس، قال: “اللهم اهد دوسا وائت بهم” رواه البخاري.
وعرفتها ثقيف وكانوا أشد الناس عداوة للنبي صلى الله عليه وسلم؛ فعن جابر بن عبد الله أنهم قالوا: يا رسول الله أحرقتنا نبال ثقيف، فادع الله عليهم. فقال: اللهم اهد ثقيفا”. رواه الترمذي بسند صحيح.
فمن لي بحصر أمثلة رحمته، وقد قال تعالى: {وما أرسلناك إلا رحمة للعالَمين} (والعالَمين كما هو معلوم هو ما سوى الله)، وقد امتلأ منها البرُّ والبحر والفضاء والكون أجمعُه، ولم يُحرم منها أحدٌ، لكنها قد تُحجَب عمّن كان أعمى البصيرة؛
قد تنكر العين ضوء الشمس من رمد وينكر الفم طعم الماء من سقم
ولا يضير الشمسَ أنْ لم يرها الأعمى؛ ولا رحمةَ النبي صلى الله عليه وسلم أنْ عمِيَ عنها ول مخيطير، لكن نقول لك: {فإن يكفُر بها هؤلاء فقد وكلنا بها قومًا ليسوا بها بكافرين}.
هذه هي الافتراءات التي تناولها ول مخيطير، ثم ختم مقاله بخلاصة هذا نصها: إذا كان مفهوم ” بنو العم والعشيرة والإخوان” يجعل ابا بكر يحجم عن قتل المشركين و علاقة الأبوة بين زينب و الرسول تمنحها إطلاق سراح زوجها مجانا ، و الانتماء القرشي يعطي ألقاب البطولات للقرشيين و يمنعها عن الحبشيين. و الأخوة و علاقة الدم و القربى تمنح حق الرحمة لقريش في الفتح و تحرم بني قريظة من ذلك الحق، و كل هذه الأمور تتم في عصر الدين فما بالك بعصر التدين.
إخوتي: أريد فقط أن أصل معكم – و أخاطب لمعلمين أساسا – أن محاولة التفريق بين روح الدين و واقع التدين هي محاولات “طيبة لكنها لا تنافس” فالحقائق لا يمكن طمسها، و هذا الشبل/البيظاني من ذاك الأسد… و أن الذي يعاني يجب أن يكون صريحا مع ذاته في سبب معاناته مهما كان السبب، إذا كان الدين يلعب دورا فلنقلها بأعلى صوت: يلعب الدين و رجال الدين و كتب الدين أدوارهم في كل القضايا الاجتماعية من: قضايا لحراطين و لمعلمين و إيكاون الذين لا زالوا صامتين رغم أن الدين يقر بأن مأكلهم حرام و مشربهم حرام و عملهم حرام…….
قد كان ول مخيطير يضرب أمثلة على بعض القضايا ويقارن بين بعض الأمور، ولا تكاد تخرج اعتراضاته عن مسألة التعامل مع القضايا من منطلق القرابة، فالأقارب في نظره يعاملون معاملة خاصة، بالعفو عنهم وإكرامهم مهما كانت جرائمهم، أما غيرهم فتُنزَّل به أقسى العقوبات، وقد تناولتُ تلك المفتريات، وحاولت الرد عليها واحدة واحدة.
أما في هذه الخلاصة فإن ول مخيطير ينادي بأعلى صوته مخاطبا طبقات: “لَمْعلْمينْ” (فئة من المجتمع تعيش بعمل أيديها)، وهي فصيلته هو، ولَحْراطينْ (العرَب السّمر)، وإيكّاونْ (الفنانون: المطرِبون): ليقول لهؤلاء جميعا إن ما أنتم فيه من ظلم واضطهاد ومعاناة هو من صنيع الدين ورجاله وكتبه.
وهذه دعوى كبيرة لا أعرف من أين أبدأ في الرد عليها؛ لأن من له أدنى دراية بالإسلام يعلم أنه جاء لإنقاذ البشرية من ويلات الظلم والاضطهاد، ونشر العدل والمساواة ونشر الفضيلة ومحاربة الطبقية بكل أنواعها، وهذه نصوص الشرع حكمٌ بيننا، وهذا ما يدين به مليار واثنان وستون مليون مسلم، فإن كان ول مخيطير لديه غير هذا فليأت ببرهانه إن كان صادقا!!!!
لكن ول مخيطير لديه اعتقاد راسخ، وحقد واضح على الدين، فبدل أن يجعل قضيته قضية وطنية، يستعطف بها فصليته ومن يراهم مستضعفين ومظلومين في مجتمعه الذي يعيش فيه (موريتانيا)، جعل الدين وحملته هم من ظلمه وسلبه حقّه وجعله وفصيلته ونظراءه ممن يزعم أنها الطبقات السفلى من المجتمع، وهو بهذا قد جنى على نفسه، إذ أصبح خصما لكل مجتمعه الذي يدين بالإسلام، ويعلم علم اليقين أن الدين يحارب الطبقية، ويحرّم الظلم والكذب، ثم إنه نال من أعظم مقدّسات الوطن، وهو دين الإسلام ورسوله صلى الله عليه وسلم ورجال الدين وكتبه؛ فهو إذن بدل أن يستعطف أهل وطنه استعداهم. ومن لا يحترم وطنه لا يحترمه غيره.
ثم إنه جعل كل المسلمين في العالم خصوما وأعداءًا له، إذ سفّه دينهم ووصفه بأنه دين الطبقية والظلم والعنصرية والقبلية.
فإذا كان فَعَل ذلك بدافع حرية الرأي، فإن حرية المرء تنتهي من حيث تبدأ حريات الآخرين، فهل يعقل أن تنال حريتك على حساب حريات مليار واثنين وستين مليون مسلم؟ لا أظن عاقلا يقول بذلك!!!
ثم إنك جنيت على نفسك؛ إذ ذهبت تبحث عن حرية الرأي، فأصبحتَ تبحث عن حرية التصرف والحركة، ومن المؤكد أنك لن تخرج من سجنك إلا إلى سجن آخر أو إلى القبر، بسب تطاوُلِك على أعظم مُقدّساتِ شعب خرج كلّه في يوم مشهودٍ هو يوم 31/1/2017، ليطالب بإعدامك.
وإذا كان فَعَل ذلك من أجل الحصول على مكانة اجتماعية، فقد تردّى في دركات الاضطهاد الاجتماعي، لأن المجتمع لا يساوم في مقدّساته!!!
وإذا كان فَعَل ذلك من أجل كسب أموال الغرب، أو الحصول على جنسية أجنبية، فإني أدعو عقلاء الغرب أن يتثبتوا في دعوى ول مخيطير، فإذا كانوا يتحرون في منح جنسياتهم لذوي الهويات والجنسيات المزورة، فبالأحرى يلزمهم التثبّتُ من الدعاوى المزوّرة، فإن تزوير الأوراق ضرره لا يتعدّى صاحبَه، وتزوير الأفكار إرهاب وانحراف فكري محقّق يفسد المجتمعات.
هذه مجمل افتراءات ول مخيطير، وقد كتبتُ هذه الصفحات لا لأردّ عليها، فالافتراء لا يردّ عليه إلا بتكذيبه، وتوضيح الحقيقة، وهذا ما قصدتُه. وإنما أردت أن أترجم هذه الصفحات إلى اللغات الإنجليزية والفرنسية والإيطالية، وأحاول نشرها في النت، وغيرها من وسائل الإعلام ليهلِك من هلك عن بيّنة ويحيى مَن حيي عن بينة.
د. الشريف الفقيه (ألفغ)