بعد أربع سنوات من الجد والمثابرة والتنقل من معلم إلى آخر، يجلس محمد الأمين وسط نسوة من عائلته، يرقب بريق ماء يغلي قبل أن يسكبَ في إناء به حناء، لتخضيب يده اليمنى، إنها اللحظة الفارقة التي انتظرتها عائلته منذ وقت طويل.. ها هو الأمين يكمل حفظ القرءان الكريم ويده مخضبة بالحناء.
ليس محمد الأمين نشازا في أقرانه، بل إنها عادة درج عليها المجتمع الموريتاني، وهي أن يبدأ الأطفال من الذكور والإناث مسارهم التعليمي بالقرآن الكريم، وبعد حفظه يسلك الموريتانيون طرقا شتى للاحتفاء، بهذه المناسبة، تبدو في معظمها ضربا من ضروب الاحتفال المعهودة لدى المجتمع، لكن تخضيب يد الطفلٍ بالحناء تبقى الظاهرة الأغرب، فما أصل هذه العادة؟
في بحثنا عن أصل هذه الظاهرة ومن أين جاءت، لم نعثر على معلومات دقيقة وحاسمة، وإنما تأويلات وتفسيرات واستنباطات، غاصت في الدلالات والسياقات الاجتماعية، لكنها لم تعط نتيجة نهائية للموضوع.
يقول الباحث جمال ولد محمد، إن تخضيب يد حافظ القرءان الكريم بالحناء، لم يقف له على دلالة قطعية وإنما توصل من خلال البحث إلى تأويلات وتحليلات، منها أن “تحنية اليد رمز مادي بمثابة وسام شرف كتتويج للحفاظ قبل مرحلة الإجازة”.
من الافتراضات التي طرحها ولد محمد، أن للحناء أثر مادي ومعنوي “فيه جمال اللون وبهاء المنظر وراحة النفس بالإضافة إلى اللين والنعومة بعد عناء ما قبل إكمال الحفظ”.
ويضيف الباحث أن لهذا البحث أهمية بالغة، مشيرا إلى أنه لم يقف في البحوث الأكاديمية على مثله، يقول “إنه بحث فريد وهي ظاهرة تستحق الدراسة والنبش”.
في كتابه (رحلة مع الحياة) يقول الدكتور محمد المختار ولد اباه، في سياق حديثه عن ظروف حفظه للقرآن الكريم، إن الأسرة احتفلت يوم حفظه القرءان بتخضيب يده بالحناء.
يتوقف الدكتور عند أصل هذه العادة التي وصفها بـ “الغريبة” محتملا أن تكون “رمزا لرفع اليد وانتهاء المعاناة”، ويتابع الدكتور أنها قد تكون كذلك تعني “الراحة باعتبار أن الحناء من مظاهر الهناء كما أنها من خصائص الإناث”.
يفترض بعض الباحثين أن يكون لهذه الظاهرة علاقة بكون النساء هن من يتولين عادة تعليم القرآن للصبية، وبالتالي يحتفلن بالحفظ مع الأطفال على طريقتهن الخاصة.
بخصوص هذه الظاهرة نسجت الثقافة الاجتماعية كثيرا من الأساطير والقصص عنها؛ من ذلك الموروث الذي بقي عالقًا في المخيلة الجمعية، أن القرآن يرسخ في ذاكرة الحافظ بقدر سواد يده بعد تخضيبها بالحناء.
تقول الكاتبة الفرنسية ألين توزين، في كتابها (الحناء فن النساء الموريتانيات) إن حفظ الأطفال للقرآن الكريم يعتبر في موريتانيا “حدثا عظيما، ويتميز بطقوس مهمة أبرزها تخضيب اليد بالحناء”.
تضيف توزين أن الحناء تغطي اليد اليمنى للطفل، على أن يكون لونها داكنا وأقرب للسواد من الحمرة، ويبدأ هذا الطقس فور ختم الطفل للقرآن أمام جمع كبير.
لم تقدم الكاتبة تفسيرا جديدا، وإنما اكتفت بوصف الظاهرة التي لم يسبق لها أن شاهدتها، حيث تروي أن معلم القرءان يبصق في معجون الحناء المجهز “من أجل انتفاع الولد ببركة كتاب الله العزيز الذي سيمده بالقوة”.
ليست ظاهرة تخضيب يد الأولاد الذكور بالحناء، المظهر الوحيد في الفرح بحفظ القرآن الكريم، فصنوف الاحتفاء كثيرة ومتعددة.
من مظاهر الاحتفاء أن يمنح للطفل الحافظ أيام راحة لا يمنع فيها من أي لهو أو لعب، كما ينظم وليمة لأصدقائه، والأهم عندهم أنه قد يوهب أعطيات لها بالغ الأثر في نفس الصبي، كأن يعطى ناقة أو جملا أو أية دابة أخرى.
لكن مع انتقال الأفراد والأسر في موجات الهجرات المتكررة من الأرياف إلى المدن، بدأت هذه الظواهر تختفي ويصبغ تعلم القرءان نوعا من الرسمية اكتسبه المعلمون من وحي المدارس النظامية، كما تنوعت الهدايا لتشمل ألعاب الفيديو والهواتف الذكية، ولكن الحناء وحدها بقيت صامدة أمام كل التغيرات.