وعليه فإن ما قد يمكنني قوله بعد قراءة غير متمعنة بما فيه الكفاية لهذا المؤلف السميك، لن يعدو كونه تفاعلا سريعا و انطباعا أوليا لا يرقى إلى ما تتطلبه طبيعة هذا المؤلَّف من تعمق و استقراء و استظهار. و الذي تمكن الإشارة إليه و الحالة هذه هو أنه خلال قراءتي للعمل السردي ” هجرة الظلال”، استوقفتني و شدت انتباهي الأمور الآتية:
- فرادة بنية هذا العمل السردي؛
- الأسلوب الأخاذ الذي قد صيغ به؛
- تقنية السرد المنافية للنمطية التقليدية؛
- اهتمام خاص بجغرافية السردية؛
- نوعية “الثيمات” التي لامسها العمل السردي.
فرادة بنية العمل السردي
إذا كان جل المنتجين و المهتمين بمختلف أشكال النثر الفني كالرواية و القصة و الأقصوصة و القصة القصيرة جدا.. قد تواضعوا على توصيف كل واحد من هذه الأشكال و كرسوا البنيات التي ينبغي أن يصاغ فيها و المتمثلة أساسا في فقرات و فصول و اجزاء متساوقة و مترابطة و مكملة لبعضها.. فإن العمل السردي” هجرة الظلال” لا يخضع لهذه النمطية. حيث أن هندسته تقوم على ثلاثة أثلاث، استئناسا ، على حد قول المؤلَّف، بتمفصل فترات الزمن و تمايز طرق الموسيقى و تصنيف حالات الإنسان النفسية، وكل ثلث يحمل عنوانا خاصا قد يرد في أكثر من صيغة واحدة، كما يتضمن فصولا ليست متساوقة و لا مترابطة بشكل منطقي، بالضرورة.
ونتيجة لعدم نمطية هذه البنية و خروجها عن النسق المعروف في مجال السرد القصصي المكرس فإن البعض قد يتساءل هل ” هجرة الظلال” رواية بالمعنى التقليدي المتواضع عليه للرواية؟ أم أنها لون آخر من العمل السردي ينبغي إيجاد توصيف جديد له ؟
هذا السؤال لا يكاد يفارق ذهن القارئ من بداية قراءته لتلكم السرية إلى نهايتها.
الأسلوب الأخاذ
الأسلوب الذي اعتمده د.محمد أحظاانا في صياغة سرديته ،أسلوب يتسم بجمالية مؤثرة تجمع بين الجزالة و القوة و التأنق و الطلاوة و مطابقة الألفاظ و العبارات لمقتضيات الأحوال و مواءمة الصور لطبيعة للأفكار و الرؤى المراد تجسيدها. الأسلوب يمتح من رصيد لغوي هائل و تسعفه دراية واسعة و اطلاع كبير على التراث الموريتاني المنثور منه و الموزون إضافة إلى “لغنى”و “أزوان” و الموسيقى عموما. و يدعم ذلك كله ” أذن بيضاء” كما يقال عندنا ، و حس مرهف و إلمام كبير بجوانب ثقافية متعددة الأبعاد تجمع بين الفلسفة و العلوم الدينية و الأساطير الشعبية مع روافدها االهلالية و الصنهاجية.
وما يزيد أسلوب الكاتب ألقا و طلاوة هو تمكنه من ناصية اللغة العربية و درايته باللهجة الصنهاجية و حافظته الواسعة للشعر و ” لغنى” الحساني إضافة إلى إلمامه اللافت بخصائص و أوزان الموسيقى البيظانية .الشيء الذي ينم عنه الإستشهاد التالي الوارد في السردية : “…تذكر على عجل ذبابة الغار الذي سمع طنينها في أوتار التيدينيت..”
و بالنتيجة جاء أسلوبه حسانية معربة أ و عربية ” محسنة” متناسقة، أنيقة ، منسابة و شيقة يستمرئها القارئ و يستعذبها و يود الاستزادة منها. أسلوب د. محمد أحظانا مطعم بالعبارات الجميلة و الأمثال الجارية و الأقوال المأثورة الحسانية و العربية، و لا يخلو من الترانيم و التعاويذ الغرائبية المثيرة.
و كل ذلك يمنحه نكهة زكية جذابة . كما أن الأسلوب مرصع بالعديد من الأبيات الشعرية و الأحاديث النبوية و الآيات القرآنية التي ترد كلها في تناص محكم يعطي العمل السردي قيمة مضافة و جمالية مكملة. الأسلوب يمتاز كذلك بالتلقائية و السلاسة و الانسيابية و الخلو من التكلف و التصنع ، و لذا يمكن نعته بالسهل الممتنع.
أن ورود الألفاظ و تتابع التعابير و توليف الجمل في دفق لغوي منساب و خلاب ، كل ذلك يعوض القارئ عن انعدام الأحداث الملموسة، و غياب الحبكة المعروفة، و اختفاء الشخوص المعتادين و انتفاء توصيف و تحليل نفسياتهم و مسلكياتهم. تلكم بإيجاز شديد هي أهم خصائص الأسلوب الذي صاغ به الكاتب سرديته المتفردة ” هجرة الظلال”.
تقنية السرد المنافية للنمطية التقليدية
إذا كانت القصة أو الرواية التقليدية التي عرفت منذ العصور الوسطى من خلال Les Romans de la Rose ( روايات الزهرة) و Les Cavaliers d’Arthur (فرسان أرثير) و استمرت في تطور حلزوني إلى أن بلغت مداها في بداية القرن العشرين، تعتمد تقنيات و أساليب محددة و تقوم على بنية نمطية معينة ، تتمثل تحديدا في التسلسل الدرامي للأحداث، و تحديد الإطار الزمكاني، و بناء الحبكة و التصوير الدقيق للشخوص، و إبراز خصائصها النفسية و تحليل الدوافع الكامنة وراء سلوكها و تصرفاتها.. فإن العمل السردي ” هجرة الظلال”، لا ينحو هذا المنحى، و من ثم فإنه يختلف في الشكل و المضمون و أسلوب السرد، و تقنيات الصياغة، عن القصص التقليدية المألوفة حيث إنه يكتسي ملامح اللون السردي الما بعد حداثي، المعروف ” بالقصة الجديدة” Le nouveau Roman . والذي ظهر و تطور في فرنسا في أعقاب الحرب العالمية الثانية و كان من بين رواده :
Alain Robe Grillet و Michel Butor و Nathalie Sararaute في فرنسا و Virginia Woolf وJames Joice في بريطانيا و William Faulkner في الولايات المتحدة.
و يمتاز هذا اللون السردي ، كما ذكرنا آنفا ،بكونه يهمل الحبكة و التسلسل الدرامي للأحداث، و يلغي عقدة الرواية و لا يهتم بالوصف السيكولوجي للشخوص، بل لا يرى حتى ضرورة وجود الشخوص في نمطيتهم المعروفة ، إنما يعنى أساسا بإبراز الدوافع الغامضة، و الأحلام و الانطباعات المتضاربة، و الأفكار المتناقضة التي لا تربطها ببعضها علاقات منطقية، مع اعتماد أساليب وتقنيات سردية مفككة، تلم شعثها بالكاد، كرونولوجية متشظية، و تلفها غلالة لغوية ضبابية مبهمة. و تعرف هذه التقنية باسم :
The Stream of consciousness أي (تيار الوعي) و هو عبارة عن دفق خطابي أو سيل لغوي منهمر، لا يعير كبير عناية لانسجام الرؤى و لا للتعالق المنطقي للأفكار، و لا تهمه وجاهة و عقلانية الأمور التي يتم التعرض لها خلال السرد، حيث يسود الاعتقاد أن الكلام المتدفق خليق بأن يبلور من تلقاء نفسه أحداثا، و يخلق شخوصا و مشاعر و رؤى و أفكارا تشد انتباه القارئ و تثير اهتمامه، وتغنيه عن الأحداث المتسلسلة و عن الشخوص المتفاعلة و ذلك من خلال تداعي الأفكار و توارد الرؤى و الصور.
بيد أن النخب المثقفة لم تسارع في بداية الأمر إلى تقبل هذه المقاربة المفارقة، و كذلك كان الشأن بالنسبة لما عرف ب “النقد الجديد” New Criticism و المسرح العبثي Théâtre de l’absurde الذي طوره :
Frantz Kafka و Berthold Brecht و Samuel Beket فضلا عن التيار الوجودي الذي بلوره : Albert Camus و jean Paule Sartre و Simone de Bovoire ….. و غير ذلك من تجليات الفكر الما بعد حداثي.
وفي هذا السياق فإن بالإمكان القول إن سردية د. محمد أحظانا “هجرة الظلال” تحايث هذا النسق الفكري كونها تتماها مع مقاربة ” تيار الوعي” التي أومأنا إليها آنفا، حيث إن هذا العمل السردي لا يشكل رواية ذات هندسة محكمة و أحداث مترابطة و شخوص قد تم رسم ملامحها بعناية و توصيف خصائصها النفسية و مسلكياتها المميزة بدقة… لا تتوفر هذه السردية على هذه العناصر و لا على أطر زمكانية محددة الإحداثيات وذات توقيت مضبوط. و الذي يجده قارئ هذه السردية هو خطاب متدفق يزداد عنفوانه مع تقدم عملية السرد. و من خلال مسايرة السرد الدافق يستبين القارئ مشهدا هلاميا متحركا يتشكل من حشود بشرية هائمة على وجهها ركضا في إثر أشياء فقدتها (ظلالها: قيمها أخلاقها، عاداتها، تقاليدها؟). فهناك رجال يلاحقون ظلالهم المفقودة و نساء يقتفين خطى أزواجهن و أطفال يحاولون مواكبة أمهاتهم… و يكتنف هذا المشهد غبار و اكفهرار يصحبهما قيظ شديد يتسبب في ظمئ و إعياء يزيد من وطأتهما شعور بالضياع و التيه.
هذا المشهد المتموج يضم تضاريس جغرافية مهلكة و يلفه طقس حارق ينتشر فيه شذى الأشجار الممزوج بروائح عرق الناس و جثث الحيوانات النافقة…يضم هذا الحشد البشري تنوعا لافتا و تراتبية جلية فهناك نساء جميلات طافحة بأنوثة مثيرة رغم قساوة المشهد و هناك عجائز متعرقة يابسة يبعث منظرهن على التقزز و القرف…يطفح المشهد كذلك بمظاهر السحر وأعمال الشعوذة و صولات العفاريت و الآلهة الوثنية.. و تسود فيه الخرافات و الأساطير و يعج بالهوام و السوام و الزواحف و مختلف الكائنات الشريرة … مما يشيع جوا من الخوف و الترقب و يثير القشعريرة و الرعب. وقد تميزت من بين هذه الحشود النسوية الزاحفة نحو المجهول ، ساحرة تدعى “تانيت اتمروذ” التي تسخّر عفريتا هو رئيها ويدعى “هاش” و الذي كانت تستدعيه عند الإقتضاء ليسمع العاقلات من ذلك الحشد النسوي أمثال “تمغرت” و “تيبيريت” و “تيجبة” و ” تامنيرت” ليسمعهن طنينه و همهماته المسجوعة التي يسود الاعتقاد أنها تعبير عن المعلومات و الأخبار التي يجمعها من شياطين السماء ليقدمها للساحرة “تانيت أتمروذ” بمحضر صاحباتها.
إن المشهد الذي تتشكل ملامحه من خلال الدفق الكلامي، المكون للسردية ، زاخر بالأصوت و الألوان و الألحان… بالفرح و الأسى … بالحبور و الكا بة.. بالجوع و الغثيان… بالشبق و التقزز… بالغنج و الدمامة… بالاريج الزكي و الروائح النتنة… كل الحواس مستهدفة و مستفزة .. السمع البصر الذوق اللمس… في المشهد جمال و نضارة يصاقبان التكلس و التخشب و البلى… كل هذه المتناقضات و الأضداد متلاحمة و متداخلة و ينبجس الإحساس بها و استشعارها من بين ثنايا و تجاويف الخطاب المنساب بعنفوان.
إن خلق الإحساس بتعالق المتناقضات و تمازج الأضداد و تكامل المفارقات.. هي الطريقة التي تتيح من خلالها تقنية ” تيار الوعي” للقارئ أن يدرك توحد الأضداد و تكامل المتناقضات في الوجود. وهذه التقنية هي التي قد اعتمدها د. محمد أحظانا في صياغة سرديته ” هجرة الظلال”.
و في ما يخص تعامل الكاتب مع بعدي الزمان و المكان فيمكن القول بخصوص الزمان إن المؤلف كان يتنقل بسهولة و يسر و تلقائية بين الحاضر و الماضي و المستقبل دون عناء و لا تهيب، حيث إن الراهنية تكاد تكون سارية في كل السردية. و بخصوص المكان، يمكن القول إنه لم يكن ثمة مكان واحد بل ” مكانات” متعددة ( الشعاب، الأودية، الاكواخ: المتاجر، المساكن….)
و بخصوص الشخوص فهي غير واضحة الملامح و القسمات لكنها تفاعلية. فبالإضافة إلى المؤلف المهيمن العليم فإن ثمة الكاتب الذي يدون الأحداث و يسجل مجريات الأمور، و ثمة الراوي و بعض الشهود (القراء، النقاد) و كل من هذه الشخوص يؤدي وظيفة محددة لا يتوقع منه القيام بغيرها . و ليس من بينهم شخصية بارزة متميزة يمكن وصفها بالبطل أو الشخصية الرئيسية للسردية.
لعل هذا ما يمكن قوله بإيجاز حول سردية “هجرة الظلال” عندما تسقط عليها تقنية « تيار الوعي ” التي حددنا معالمها في ما تقدم.
اهتمام خاص بجغرافية السردية
يكتسي بالنسبة لي شخصيا، الإطار الجغرافي الذي اكتنف حشود النساء و الأطفال ضحايا اللعنة التي افقدت تلك النساء ازواجهن و ظلالهن، يكتسي أهمية خاصة نظرا لمعرفتي الحميمة بمختلف مواقعه و لدرايتي التامة بأسمائها و ارتباطي الوثيق بهذه الأماكن التي ترعرعت بهاـ و جبتها ذهابا و جيئة في صغري. أجل؛ إن وادان الذي هو مسقط رأسي، إضافة إلى ضواحيه وتخومه، هو الفضاء الذي شكل مسرح أهم أحداث ووقائع السردية، ومن ثنايا رصيده التراثي استخرج شخوصها من نساء متميزات: (“تيكدرت”، “تيجبت” و “تبريت”)، وملوك متنفذين: (“أماسين” “تاس”)، وعفاريت مسخرة (“هاش”).
كما أن أهم وقائع الرواية جرت بمواقع داخل المدينة أو بجوارها: (فـ “الحفرة” التي آوت جميع النساء التائهات حيث وجدن ذكر ظلالهن وظلال أطفالهن، واستعضن بأزواج مكان أزواجهن المفقودين هي في واقع الأمر واد ذو أشجار ضخمة يدعى حفرة وادان، وقد عرفته وأنا صبي يافع، بل رعيت فيه البهم خارج مواسم “الكيطنه”. أما “الرحبة” التي احتضنت “تانيت اتمروذ”، فهي في الحقيقة الساحة التي تتوسط مدينة وادان، والتي كان يعلق بها طبل المدينة، الذي كان يقرع عند الحروب.
ولقد كانت “الرحبة” مكاننا المفضل عندما كنا صغارا، إذ كنا نلعب فيها ” هيب” و “الطالبات” و “الدقوقة”. كما أن “كانفلي” هو الاسم الذي يطلقة الوادانيون على الغرفة الوسطى للمنزل. أما أسماء الشخوص المستمدة من خصوصيات المدينة، فهي أسماء معروفة لدي ولدى جميع أهل وادان، والتي من بينها: “تيكدرتْ” و “تيجبه” التي هي في الحقيقة “اجب اندبكرْ”، وهي نخلات معروفة ومحبوبة لدى أهل المدينة. بينما “تبريت” هي حصير سميك مرتفع عن الأرض مصنوع من جريد النخل. أما “هاش” فهو اسم كائن بشري تقول الروايات الشعبية إنه كان هائل الجسم طويل القامة، خارق القوة، وكان يسكن في مغارة مخيفة توجد بجبل قرب قرية “تنلبّه” المجاورة لمدينة وادان. وكنا ونحن صغار نرتاد تلك المغارة التي كنا ندعوها “غار الهاش”.
لقد تم توظيف أسماء نخلات وادانية صرفة لخلق هويات متمايزة لشخوص السردية، كما قد قيم باستعمال قطع أثاث تقليدية، ونباتات محلية، وبعض غرف الدور العتيقة، وأماكن معينة بالمدينة وضواحيها، لخلق الشعور بتفرد المدينة وعراقتها، ولربط علاقة بين السردية وأقدم جوانب التراث الموريتاني.
كما أن التعرض لذكر القرى المسوفية المتقدمة على مدينة وادان، والتي أسست المدينة بجوارها، والتي هي”كولانه” و “تامكونه” و “تفرله” و “تفتل” واستعراض ما حفظته الذاكرة الجمعية من أخبارها والروايات المتعلقة بحروبها البينية.. كل ذلك يمثل استنطاقا واستقراء لتاريخ المدينة، بل المنطقة، أو البلد برمته، إبان الحقب المتقدمة من تاريخه. وهذا ما قد أعطى للسردية نكهة تراثية وخلفية تاريخية، تعكس الأبعاد الحضارية المتعددة للأمة الموريتانية.
وبالنسبة لي فقد استمتعت بما ورد في السردية من وصف حي للأسواق العامرة النابضة لكولانه إبان ازدهار المدينة، والتي لم تكن تعدو بالنسبة لي في صباي، كونها خرائب أزلية لاتصلح إلا للعبة غميضة التي كنا نحن صبية وادان نلعبها فيها محترزين كل الاحتراز من ثعابينها الحمراء الرقيقة، التي تتسلق الجدران بسرعة مذهلة، والتي تسمى “بوزريك”.
إن اتخاذ مدينة وادان وضواحيها مسرحا لأهم أحداث السردية وتوظيف بعض مآثرها وخصائصها لبلورة هذه الأحداث قد منح الرواية بعدا أسطوريا وغرائبيا وتراثيا. كما أن اختيار المدينة كإطار جغرافي لاحتضان أهم وقائع الرواية قد نفض الغبار عنها وأعطاها اهتماما تستحقه حرمت منه لردح طويل من الزمن.
نوعية الثيمات التي لامسها العمل السردي
أعتقد أن المستقرئ لسردية الدكتور محمد أحظانا “هجرة الظلال”، يدرك أن ليست هناك فكرة رئيسية يهدف الكاتب إلى تسويغها والإقناع بصحتها ووجاهتها، ولا رأي محدد، أو موقف معين يتبناه المؤلف، ويرمي إلى تبيان أفضليته، وضرورة اعتناقه والالتزام به، وإنما يلمس عملية تفجير دفق لغوي عارم، يخال القارئ لأول وهلة أنه لايستهدف إلا ذاته، ولا يرمي إلا إلى إيجاد ما يخلقه الخطاب من وقع على المشاعر، وتأثير على النفوس؛ لكنه عندما يتمعن في هذا الدفق الكلامي يدرك أن ثمة أهدافا محددة سلفا يتغياها الكاتب باعتبارها “ثيمات” جديرة بالاهتمام تستحق عناء التأمل والتدبر والتفكير. وتتمثل أساسا في تباين الأفكار والرؤى واختلاف المشارب والمنطلقات، وتناقض القناعات والمرجعيات، وما يسببه ذلك من صدامات وتجاذبات داخل المجتمع.
هذه التناقضات المعتملة داخل المجتمع تتجلى ملامحها وأبعادها من خلال الدفق اللغوي المنساب. ويتضح أن دوافعها في التحليل النهائي هي التنافس على الصدارة والمكانة، والصراع على السلطة، والتموقع على سلم التراتب الاجتماعي، والتدافع من أجل السيطرة الاقتصادية والتنفذ السيسيوثقافي.
تتمثل جوانب أخرى من الثيمات التي تتولد عن التيار الكلامي المتموج فيما ينشأ من وعي لدى القارئ، أن المعتقدات والقناعات والتمثلات لدى الإنسان، تنبني على تضافر الأضداد، وتكامل المتناقضات، حيث إن استيعاب الظواهر واستجلاء الأمور على الوجه الأكمل، يتطلب –إضافة إلى استعمال العقل- حشد وتوظيف كل الحواس من بصر وذوق وسمع ولمس. كما أن استبطان أية منظومة ثقافية يقتضي الإلمام التام بكل أبعادها من معارف دقيقة، ومعتقدات وقيم وأساطير وخرافات…
وتتضح من خلال استقراء السردية ثيمة خليقة هي الأخرى أن تؤخذ بالحسبان مفادها أن تجاهل هذه المقاربة يفضي في الغالب إلى التوتر والمواجهة بين أفراد المجتمع.
ولعل من أهم الثيمات التي خلقت هذه السردية الإحساس العميق بها، هو ثراء تراث هذه الأمة الناجم عن تنوعها الثقافي وتعددها العرقي.
وخلاصة القول فإن هذه العمل السردي الذي أنجزه الدكتور محمد أحظانا هو بحق عمل إبداعي متفرد، من حيث بنيته، وتقنية السرد التي اعتمدها، وطبيعة الثيمات التي لامسها. هذا العمل الإبداعي يتماهى كما أشرنا إلى ذلك في مستهل حديثنا، مع الأعمال السردية التي تتوسل تقنية “تيار الوعي” لإبراز إبداعها إلى حيز الوجود.
وبذلك يكون الدكتور محمد أحظانا في طليعة الكتاب الموريتانيين؛ بل والعرب الذين سلكوا هذا السبيل، الذي انتهجه كتاب أوروبيون وأمريكيون أفذاذ.
وادان 28 دجمبر 2015
محمد الأمين ولد الكتاب