د . محمد الشحومي
mshahu[email protected]
لقد مرت على الأمة عهود كثيرة تكاد أن تطابق ما هى عليه اليوم يقف فيها الإنسان وحيدا ، شريدا ، ضائعا فاقد الإيمان ، فارغ الإرادة ، مضطرب العقل ، خاوى الضمير ، لا يبصر الأمل ، ولا يشعر بالهداية ،فى عصر يغلب فيه السلطان على الإيمان ، وتسيطر الشهوات على الوجدان ، وتبدد الروح فى العبث ، وتنتصر المبانى على المعانى ، إحساس شائع بالغربة عن النفس ، والوحشة عن الروح ، والنفور من الحياة ، يضيع الفرد فى المجموع ، والمبدأ فى المكسب ، والحق فى القوة ، تتهافت المذاهب السائدة ، وتتخافت المبادئ المنتشرة ، وتتهاتر الاتجاهات المسيطرة .
كان يقال عندما تصل الأمور إلى مثل هذا الحد قبل البعثة المحمدية على صاحبها وآله الصلاة والسلام” لقد أظل عهد نبى ” أما بعد أن انقطع الوحى فلم يعد هناك مجالا إلا القول ” لقد أظل عهد الثورة” بكل ما تعنيه من تغيير جذرى لكل الآراء والمعتقدات ، وتعديل شامل للفكر والضمير ، وتبديل كامل لموضوع الإيمان وأنماط السلوك، وتحويل كلى لمجرى الروح ، فلم يعد للإصلاح جدوى ، التغيير فقط هو الحل . يبدأ فى داخل الفرد ، وينتشر إلى القواعد المبنى عليها المجتمع ثم إلى كل الأمة ، لم يعد هناك بد من الهدم وإعادة البناء ، وتحرير الأصول من براثن أخطاء السلف ، وهفوات الوقائع والأحداث .
نحن لسنا فى حاجة لتغييرالشريعة ، فالقرآن الذى تعهد الله بحفظه ، لا زال يؤكد صلاحيته لكل زمان ومكان ، المطلوب فقط إعادة قراءته وفهمه وتدبره ، والعمل به ، بعيدا عن أسر التاريخ ، وتأويلات المصالح السياسية القاصرة ، إنها الثورة البيضاء العاقلة الهادئة الفعالة ، وهى لذلك لن تكون ثورة وعظ ، فالوعاظ تملأ أصواتهم أسماع الناس، ليل نهار، فى وسائل الإعلام مرئية ومسموعة ومقروءة ، وفى أماكن العبادة ، مساجد وكنائس ومعابد ، وفى أحاديث الأفراد ، ولا تجد إلا آذانا ملأها وقر الغرور ، وأفئدة رانت عليها الشهوات ، ونفوسا ضاع فيها الإيمان ، واهتزت فيها الثقة بالذات واليقين بالله ، والتغيير بهذا الأسلوب لن يكون إلا وعظا يضاف إلى وعظ فلا يزيده إلا ترديدا وتكراراً .
لن تكون الثورة إلا حركة لتغيير الواقع لا تقليبه ، ترفضه ولا تبدد الجهد فى إصلاحه ، تدافعه ولا تستنزف الصبر فى التصالح معه ، لذلك فهى فى حاجة لقلة من الموهوبين يكرسون أنفسهم لهذا العمل الذى يفرض عليهم أن يقلعوا عن طريق الحياة الموجودة ، إذ يجب أن يعيشوا كالزهاد والرهبان ، لا كأساتذة الجامعات، ولا كرجال الأعمال ، عليهم أولا تحرير أنفسهم من أنماط السلوك الاستهلاكي السائد وثقافته المادية ، ثم تجديد أنفسهم ، وتصحيح تشوهات أصولهم ، وتفهم الطبيعة الفطرية الخصبة ، وأسباب الوجود ومسببه ، وبعد أن يصير مصيرنا بأيدينا ما علينا سوى السير قدما فى الطريق الجديد القديم ، والصراط المستقيم ، الذي لا يكون منهجه التخلى عن الفردية لحساب المجموع ، كما أنة لا يكون بالتخلى عن المجموع لحساب الفردية ، بل الموافقة الفردية بالرأي تشاورا، والمشاركة الجماعية بالجهد تنفيذا ، ليكون الإنسان ” كمّا ” مع المجموع ثم ”كيفا” مع نفسه ، والتمرد على هذا العصر الذى انتقل فيه مركز القوة بعيدا عن الإنسان ، وانسحقت فيه المبادرة الفردية ، أمام قوة الأسلحة المادية ، وتلاشت القدرة الذاتية أمام طغيان مؤسسات الأنظمة الوضعية ، فصار الفرد عدداً فى أعداد ، وإزاء نفسه لغزاً غير مفهوم ، فضاع فى ذاته وفى جماعته وفى أمته وفى البشرية وفى الوجود كله ، ولن يكون الحل إلا بثورة تجمع الإنسان مع ذاته أولا ليعيد اكتشاف نفسه ، وتثبيتها مع المجموع فى طريق واحد يسير مع البشرية إلى ما فيه الخير والوجود ، نحو الكمال المطلق ، نحو المتعالى ، نحو الله .
والأمة فى حاجة ملحة إلى ثورة فكرية ثقافية تنطلق من الواقع نحو إحياء الثقة فى النفس ، وإنعاش الإيمان بالذات، ووضع المضمون فى الشكل ، والمعانى فى المبانى ، ونفخ الروح نبضاً فى شرايين الموات ، وثورة تغلب الحركة على الجمود . لذلك فإن هذه الثورة لن تكون إلا بتقديس الإنسان ، كل إنسان ، وتقويم الإيمان ، كل إيمان ، وتوفير الحقوق ، كل الحقوق ، وتقدير القيم ، كل القيم . وتكون تياراً جارفا يصدر عن صميم الروح ، وينبثق من ضمير الكون ، ويندفع بالإنسان نحو إنسانيته ، نحو فطرته التى فطره الله عليها ، ليرفع الوجود إلى حيث طبيعته ، فإيمان الإنسان بنفسه إيمان بالكل ، وثقته بذاته ثقة بالجميع ، ومن خلال الإيمان والثقة ، يتحقق الإبداع الإنسانى المتآلف كما أراده الله الخالق ، بانتصار للحياة على الحياة ، وتفوق للوجود على الوجود، وإدراك قدرة الله في الإنسان ، حتى تتجسد الحياة فى الضمير ، و يتشخص الوجود فى الذات ، ولن يغيب عن نباهة المتأمل ، سويّ الفطرة سليم العقل ، أن هذا هو لب رسالة الإسلام على لسان نوح وإبراهيم وموسى وعيسى ومحمد عليهم صلوات الله وسلامه ،.
لم يفهم الإنسان ما كان علية أن يتفهمه من رسالة الإسلام الخالدة ، ثم تخيل ما كان ينبغى علية ألا يتخيله ، ومن ذلك ضاعت النفس قبل أن يجدها ، وغربت الروح قبل أن يتم شروقها ، وتشتت الذات دون قدرة على تجميعها ، فقدان للرشد ، وانحراف للمسار ، ولا أمل فى الإصلاح ، بلا تهديم ما بنى على ذلك الانحراف ، وإزالة أنقاضه ، والعودة إلى البداية من حيث انتهى العقل الراشد، والانطلاق منها ، والبناء عليها ، أما غير ذلك فلا يكون إلا العبث والضياع وترسيخ الانحراف ، وغلبة الضلال على العقل ، وفصل الله عن النفس ، وفصم الدين عن الدنيا ، الكل يرى الله بعيداً ، ولا قرب منه ، ويرى الدين ميراثا ، لا مفر منه ، يقيم الشعائر للتظاهر والتفاخر، يؤمن بغير إيمان ، ويسلم إسلام العجائز، يلتزم الفروض دون قلب ، ويسير في الحياة دون روح ، حتى غاب الرشد ، وعاد الضياع ورجعت الغربة، وظل التشتت . ولا خطأ فى الدين ، إنما الخطأ فى جاهلية الإنسان .
والجاهل لا يقوّم خطأ ، بل هذه لن تكون إلا للعلم والعلماء ، الذين يتواصون بالحق اجتهادا ، ويتواصون بالصبر جهادا ، ( بمعنى بذل الجهد حيث أن العنف والقتال غير الضروري لا يعنى الا استمرار الإنسان فى جاهليته ) ، والحق لا يكون إلا علما ، والعلم لا يكون إلا نورا ، ينتهى الظلام بمجرد بزوغه ، فتتلاشى الجاهلية من ذاتها ، ويزهق الباطل بطبيعته ، ولن يكون العلم علما إلا إذا جمع الإنسان على نفسه بعد ضياع ، وأعاده إلى روحه بعد غربة ، وضمه إلى ذاته بعد شتات ، إنه العلم الذي يجلو النفس ، ويصقل الروح ويصفى الذات ، لتكون الرؤية الصافية والبصيرة الواضحة ، والتقدير السديد ، هذا العلم يحتاج من أربابه تأهبا خاصا ، كما كانت النبوة تهيؤاً معينا ، وعلى المتعين بهذه المصلحة الإنسانية السامية للوصول لمرتبة العلم ، ان يتشرب الدنيا ويخلط روءاها فى روحه ، حتى يستطيع أن يعبر عنها بكل يسر ، والهدف أن يعمل على هداية الناس ، وتغيير ضمائرهم ، ورفعة شأنهم ، بتبديل تقديرهم للأمور على منهج الفطرة ، والتبديل الفطري والتغيير الذاتي سيعيد دون شك جلاء رسالات الإسلام ، فتظهر أكثر بهاء ، وازهي رواء ، وانصع ضياء .
إنها رسالة تبحث عن دعاة ، وثورة تبحث عن ثوار (علماء عاملين) من أولئك الذين ملأ الله قلوبهم ثم صنعهم على عينة ، واصطنعهم لنفسه ، كى يكونوا أهلا لما يفكرون فيه ، وما يرنون إليه ، وما يلهمون تحقيقه ، إنهم شباب بإيمانهم النور ، وفى وعيهم الحق وفى روحهم اليقين ، عزمهم الرجاء ، ورجائهم الإنسان ، روائهم الحق ، وضميرهم العدل ، ونفسهم السلام ، وروحهم النقاء ، وخطوهم السمو ، وسعيهم الإيمان ، وحكمهم الصفاء ، أولئك هم الربانيون ، أولياء الله رواد الصفوة إنهم الثوار حقا ، ورواد الفعل المنتظر ، فهل تقبل الأمة روائهم وتستجيب لفعلهم ، أم إنهم بالرغم من الإحساس بالحاجة إليهم لن يفتأون رفضهم وحرب كل داع بدعوتهم ، لغير ما سبب إلا الحفاظ على القديم ، وخشية الجديد ، مع الخوف من التكليف وما يعنيه من حمل أمانة الضمير .