تعيش موريتانيا هذه الأيام حراكا و جدلا لا يبدو أن له من الضوابط ما يغري على المشاركة سواء على المستوى النظري أو الجانب العملي ، و قد شمل هذا الجدل اتخاذ بعض الجهات الشريف القائد معمر القذافي مرجعية ، و اتخاذ التعريب مطية ، و إعادة النظر في المواقف التي كانت قبل حين قريب تعتبر ثوابت لدى معظم التيارات الفكرية و كبار السياسيين في الساحة المحلية ، و سيقتضي الأمر تناول المواضيع المذكورة ضمن سلسلة مقالات ، وقد لا يكون الخيط الجامع بينها واضحا لكثير ممن لم ينتبه لتزامنها ، و ليس ذلك في كل الأحوال شاغلنا الأول ، و إنما المهم هو الإسهام قدرما أتاحت الفرصة في إنارة القارئ الكريم حول هذه الموضوعات المذكورة ..
لقد ظلت بلاد المرابطين على عصور ممتدة مستودع حضارات ومكمن إبداعات وصل ظلها الوافر إلى أصقاع المعمورة ، وارتد عائدا إلى المشرق مضيئا مشعاً ، و قد سبق سرد بعض النماذج في مقالات سابقة ، وتحاشيا للتكرار أوجز القول إن الشناقطة في أرجاء البلاد الإسلامية قاموا بأدوار ظلت علامة بارزة تهدي على عمق الموقع الحضاري الذي منه شربوا معين العلم والعزة والكرامة.
ولم يكن المال مصدر هجرة الذين وصلوا لهذه البقاع الخالية من غير السباع والوثنية ومختلف أشكال المنفرات؛ قد امتشقوا بنادقهم وعلوا ظهور عيسهم و جيادهم ليكونوا رسل حضارة ورسالة خالدة ، وحين استقروا في هذا الموقع الجغرافي ، أو الموقع الحضاري كما سُمِّي في سلسلة مقالات سابقة نشرت منذ أشهر في المواقع الالكترونية تحت عنوان ” هوامش على الأزمة الموريتانية ” ، أصبحوا نقطة اشعاع ودائرة ضوء لا أحد ينكر حجم ما قامت به ولا جدال في اتساع مطالها. واللافت للنظر أن الغرب تنبه لذلك في مراحل مبكرة وبعث كثيرا من مكتشفيه ومستشرقيه ليدركوا أن عصب الدور الحضاري الذي يمكن أن يشكل خطرا على (الاستعمار) في هذه المنطقة ليس الثروة أو السلاح وإنما الوعي الصحراوي الثاقب وامتياح عناصر القوة في الفكر الإسلامي الذي يعتبر زبدة الحضارة الإنسانية ، ليكون ذلك سندا لدور جاهز يبحث عن مخلصين يقومون به في عالم سئم ويلات الحروب والتصفيات الجسدية والمسخ الحضاري في عالم تحكمت فيه قوى تصدر عن حضارة يبدو أن العامل الروحي فيها لم يكن صاحب الغلبة ، وذلك ما دفعها لإراقة دماء قارات بأكملها واستنزاف خيراتها بحجة أن أصحابها عاجزون عن الاهتداء إلى صراط المدنية والحضارة ، وعليه فالسبيل إلحاقهم بالركب الحضاري بالدبابات ومختلف أنواع الأسلحة ، إن استعصت تلك الشعوب على الدعاية والانبهار بحضارة لا زال شلال دم تصرفاتها مسفوحا في كل موقع حاول أن ينهض ، ولا تزال لـآثار حروبها ضحايا من نوع آخر ، ضحايا تسرب الوعي ، ضحايا غسل الروح الحضارية ، ضحايا عدم القدرة على أخذ ما لهذه الحضارة من إيجابيات.
إن الحضارة الإنسانية خزان استودعت فيه مختلف الأمم وعلى مختلف العصور رؤى وأفكار وخلاصة تجارب ، غير أن التعامل على عجل مع ذلك الخزان جعل كثيرا من الشعوب الباحثة عن الجانب المادي من الرفاهية يأخذون ما يشكل عنصرا مساندا أو وسيلة مجدية لبلوغ أهدافهم حتى ولو كان ذلك على حساب الجوانب الأخرى الروحية التي بغيرها لا يبقى من الإنسان إلا صورة اللحم والدم كما قال شاعرنا زهير بن أبي سلمي.
و أخشى أن تكون التوطئة قد طالت على قارئ بدوره يبحث عن مواقف بدل البحث عن تحاليل وتصورات، وأعترف سلفا أن الوقت قد لا يسعفني كثيرا في هذه العجالة إلا لإثارة نقاط وذكر معطيات قد تساعد على معرفة بعض الأسباب قصد انصراف الذهن لأحكام موضوعية ، وفي هذا الخصوص شعرت بجدل دائر اعتبره استفزازيا وتلاعبا بعواطف وعقل المواطن ، و سأدخل ، دون ترتيب ، في الموضوع ، على النحو التالي:
1. الضجة التي أثيرت حول الشريف معمر القذافي والأسباب التي دفعت مجموعة من الأحزاب والشخصيات الوطنية لاتخاذه مرجعية.
2. غياب الضوابط التي تصلح بوصلة لموقف من قضية ما ، وعدم تحلي كثير من الكتاب والسياسيين بأخلاق تنم عن رسوخ ولاء لهذا البلد الذي يعيش فيه الجميع ، فالأصوات التي ترتفع من حين إلى حين تنذر بالمقولة الشهيرة ” إما أنا أو الطوفان..”
3. الأحداث التي خلقنا بعدم مسؤولية مواقفنا والتي امتدت لتكون نواة لشر مستطير لا يفرق بين الثورة والفتنة ولا بين الدفاع عن ثقافة المستعمر وتبني لغة الجميع، لغة الإسلام، لغة الدستور، لغة الزنوج قبل العرب؛ حتى أصبح التصريح بأن اللغة العربية يجب أن تكون لغة الإدارة أمرا مثيرا للحفيظة ، ويعتبره البعض استفزازا !!
1. الشريف القذافي وموريتانيا:
حين تمكن معمر القذافي من إنجاز ثورته كانت البلاد العربية والإسلامية في مختلف القارات تقاوم أمواج المستعمر و في أمس الحاجة للدعم بالمال والسلاح ، وكانت أولى خطوات الثورة الليبية مد يد العون للثوار في أصقاع المعمورة ليتمكنوا من تحرير بلادهم ، وبعد رحيل المستعمر بدباباته بقيت مهمة ثانية وهي التحرر بعد التحرير ووقتئذ بدأت مطاردة المستعمر في مخابئه والعقول التي يعشعش فيها ، وهنا أصبحت مرحلة الوعي الثقافي البديل ، وإدراك الوسائل الكفيلة بإزاحة الاستعمار بشكل يمكن الشعوب من السيطرة على مقدراتها ، وتوجيهها صوب أهداف تنموية إنسانية لا تخلق بؤر توتر في النسيج الاجتماعي ، ولا تتيح تمايزا طبقيا يكون مدخلا للأحقاد والفتن وعدم الانصاف ، وتلك كلها رُغم غلبة التيارات والأفكار الرأسمالية المحمية بالدبابات ، لا تزال مطالب تحتاج الشعوب لتبنيها ودراستها وفق المتغيرات التي بينت مدى الحاجة لكثير من الأفكار والتحاليل والنظريات التي كانت شكلت بالأمس القريب شبه إجماع بين المخلصين للإنسانية.
إن مطاردة الدور الذي قام به الشريف القذافي تتطلب وقتا وجهدا لا تتسع له هذه العجالة وذلك يدعونا لاختصار بعض مما قام به في موريتانيا للبحث عن دواعي الحملة التي شنت دون مبرر.
1. صحيح أن موريتانيا أخذت نهج (الديمقراطية) الغربية الليبرالية على الأقل في جانبها المظهري أو قشورها كما يقولون، وذلك حين سُمح لكل من أخذ قلما وورقة أن يسب من يشاء دون سبب ويطلق من الشائعات ما أتاح له خياله ، وذلك دون قيد أو عقاب، وقد علق أحد المحللين على أن ما يعتبر حرية في موريتانيا يصعب أن يتيسر في بلد غربي إلا وامتلأت السجون ، إذ ليس للنقاش أدبيات ، ولا للمواقف أخلاقيات ، ولا للأعراض حُرُمات ، وتمشيا مع شطر البيت القائل “لا تنهى عن خلق وتأتي مثله” لا أعتزم الوصول لذلك ، ولا حتى استعادة الألفاظ أو المقالات قصد الرد عليها ، وإنما المراد إبداء ملاحظات ، للقارئ الحكم على موضوعيتها.
لقد أنشأت ليبيا مصرفا يحمل الاعتماد رقم 1 لسنة 1972 ، وقد تولى هذا المصرف تأمين المعاملات مع الخارج و خلق رأسمال وطني و كان الأداة التي بواسطتها تولت ليبيا توفير الغطاء المالي للعملة الوطنية ” الأوقية ” في الوقت الذي رفضت فيه الدول الغربية ، و في مقدمتها فرنسا ، تقديمه ، و يمكن الرجوع لتفصيل ذلك في مذكرات الرئيس الراحل الاستاذ المختار ولد داداه . و الحقيقة أن كثيرا منا قد لا يستحضر هذا الدور و لا الدور الذي قامت به الجماهيرية في الصيد البحري و الزراعة و البنية التحتية و الكهرباء ، و يقتضي الإنصاف أن معظم المشاريع ذات الأهمية في موريتانيا عربية التمويل ، و أحيل هنا للدراسة الرصينة التي قام بها الباحث المعروف القدير محمد محمود ولد ودادي ، و المنشورة في المواقع الموريتانية ، فبموجبها أوضح بالأرقام أن أكبر مساعدات حصلت عليها موريتانيا ليبية المصدر .
إن هذا الدور كان المصدر الأساسي و المغذي للحملات على الشريف معمر القذافي ، و دون إطالة سأضرب مثالا على ذلك .
ورد في كثير من البحوث أن ديفيد بن غوريون كان يشعر بكثير من الاكتئاب والحزن كلما شعر بإنجازات ملموسة تحققها الثورة المصرية سواء كان ذلك في المجالات الاقتصادية أو السياسية أو الاجتماعية، وكانت الخلاصات التي تقدم بها الباحثون الصهاينة كتوصية يجب الأخذ بها هي الترابط بين الشأن السياسي والمجال الاقتصادي ومحاولة قتل ” الأفاعي ” قبل أن تصل إلى فلسطين المحتلة (إسرائيل حسب تعبيرهم) ، وهنا كان طبيعيا أن يتم التركيز على دور الثورة الليبية لأن صاحبها على ما يبدو التقط الخيط بمهارة ليواصل مشوار الثوار العظام من أمثال عبد الناصر ونكروما ، وماو تسي تونغ، وغيرهم، يواصله في زمن أصبح إحكام السيطرة فيه من طرف القوى الاستعمارية أمرا مسلما به ، إحكام السيطرة بواسطة قوى إعلامية تستغني عن الدبابات، إحكام السيطرة بواسطة قوى محلية تستغني ظاهريا عن التدخل الأجنبي وتجيزه عند الحاجة ، إحكام السيطرة بواسطة تعميق التبعية الاقتصادية.
إن الصهاينة يخططون بكفاءة وعناية لحماية ما اغتصبوا ، وذلك ما جعلهم يدركون ضمن ما يدركون الدور الذي يمكن أن تلعبه موريتانيا في الحاضر قياسا على ماضيها، و موازاة مع ذلك يدركون فاعلية وقوة الثورة الليبية في مختلف القارات. وحين تتبعت مراكز بحثهم تداخل العلاقات في مختلف المجالات بين ليبيا وموريتانيا تم التركيز خلال أزيد من عشرين سنة على تشويه الصورة وإعطاء انطباعات مغلوطة . و ستتناول الحلقة القادمة بعض هذه المغالطات و استكناه مبررات طمس الحقائق و الدور الذي قام به الشريف معمر القذافي في حل الأزمة الموريتانية التي جنبت البلاد وضعها تحت حماية دولية استمرت عدة أشهر دون اكتراث ، بل بترحيب من طرف كثير من الوطنيين ، الذين يتبنون بإخلاص كبريات القضايا الوطنية و القومية ، و سيتم لاحقا التوقف عند تدقيق كثير من المصطلحات و المواقف التي تعتبر موضة الموسم السياسي في موريتانيا .