بقلم / الدكتور أحمد ولد نافع
في إحدى زياراته ، أشهرا قليلة قبل رحيله في 28 أيلول سبتمبر 1970 ، فاجأ الزعيم العربي خالد الذكر جمال عبد الناصر جمهوره الليبي المحتشد ، ومن ورائه جماهير الأمة من المحيط إلى الخليج ، بمقولته الذائعة المؤثرة “.. أترككم و أخي وصديقي معمر القذافي هو الأمين على القومية العربية و على الوحدة العربية و على الثورة العربية ..” انتهى الاستشهاد .
و لا يختلف إثنان عاقلان في أن جمال عبد الناصر ظل زعيما للقومية العربية ، دون منازع ، و استشهد في سبيل ما آمن به ، و كان شعاره الشهير ” ارفع رأسك يا أخي فقد مضى عهد الاستعباد “ ، و بتلك الكلمات المجلجلة أودع الزعيم ثقته في قائد شاب يرى فيه امتدادا لفكره و أحاسيسه و إيمانه بالقضايا العادلة للأمة العربية و الإنسانية كلها .و كأنه يتشوف المستقبل حيث عرف المؤهلات و المزايا الشخصية و الأخلاقية التي يتحلي بها القائد القذافي و التي تؤهله ليكون مرجعية فكرية و نضالية لحركة التحرر العربي كلها من المحيط إلى الخليج . وهذا ما أثبتته الأحداث بعد ذلك .
فما فعله عبد الناصر كان هو ختم الاعتماد التاريخي للأخ القائد ، و هي المهمة الجسيمة التي تحمّلها ، حتى في ظل وجود عبد الناصر و قبل استشهاده ، بتوقيع ميثاق طرابلس الوحدوي بين ليبيا و مصر و السودان سنة 1969 ، ليكون إعادة انطلاقة المشاريع الوحدوية العربية ، و ما تلا ذلك من مبادرات وحدوية كاتحاد الجمهوريات العربية بين ليبيا و مصر و سوريا ، و مشروع الوحدة الاندماجية بين مصر و ليبيا عام 1972 ، و مشروع حاسي مسعود الوحدوي بين ليبيا و الجزائر ، و مشروع جربة الوحدوي بين ليبيا و تونس عام 1974 ، و المشروع المغاربي في سنة 1989 ، و هكذا تنوعت المشاريع الوحدوية بين ليبيا و عدة دول مغاربية و مشارقية في سبيل تقريب انبلاج دولة الأمة الواحدة من المحيط إلى الخليج .. و كان القائد القذافي هو الوحيد من الزعماء العرب الذي يكسر بنفسه الحدود المزيفة و المصطنعة الفاصلة بين أبناء الشعب العربي و يدعو الشعوب العربية إلى دوسها واحتقارها و عدم الاعتراف بها و تجاوزها لاستمرار التواصل بين العوائل و الأسر العربية في ساحاتها المختلفة كما كان الأمر قبل قرون عديدة .
وهو القائد الوحيد الذي طرح مشروعا – عمليا – على قمة بغداد في 28/05/1990 للوحدة العربية بعنوان مشروع الاتحاد العربي الذي كان مشروعا من شأن تطبيقه أن تتحرر الإرادة العربية و تتحقق الوحدة و الحرية و العدل الاجتماعي من المحيط الى الخليج ، و لكن بعض الأنظمة المستفيدة من حال تجزئة الأمة و تفتيتها التفت عليه و أفرغته من محتواه بتأجيل البحث فيه إلى ظروف أخرى ، لم يمضى وقت طويل حتى جاءت الأساطيل الأجنبية و احتلت دولا عربية و أحالتها إلي محميات عسكرية أجنبية للأسف !
وقد ظلت خيمة القائد القذافي قبلة للمناضلين و الثوار و الأحرار منذ ذلك الوقت المبكر من عمر ثورة الفاتح ، إليها يفدون زرافات ووحدانا ، منها ينهلون معاني الصمود و العزة و الكبرياء في سبيل نصرة قضايا الأمة العربية ، و توحيد كلمتها و تقريب يوم وحدتها الموعود و تحرير أراضيها من دنس الاستعمار ، و في مقدمتها قضية فلسطين العربية ، التي هي محور ارتكاز حركة التحرر العربي و في سبيل تحريرها بذلت الأمة كلها أجيالا وراء أجيال ، و قدمت الغالي و النفيس لتحريرها من دنس منظمة الجيش الصهيوني الإرهابية المسنودة كليا من دول ” العالم الحر “!!
و لكونه مرجعية قومية عربية فإن الأخ القائد هو الوحيد الذي اهتم بالبحث عن الوجود العربي و الامتداد العربي و جواره ، و لفت أنظار العرب ، الجاهلين أو المتجاهلين ، إلى وجود دول عربية عديدة خارج نطاق الجامعة العربية منها موريتانيا و الصومال وجيبوتي و جزر القمر ، و دافع بقوة عن عروبة هذه البلدان ، و طالب بفتح المجال أمامها واسعا لتبوؤ مكانها في ظل البيت العربي الواحد ، وقد كان ! حيث انضمت هذه البلدان بعد ذلك تباعا للجامعة العربية .!!
و من المفارقات الغريبة ، في هذا السياق ، أن دولة عربية ” جزر القمر ” العضو في الجامعة العربية منذ سنة 1975 ، ظلت خالية حتى منتصف العقد الأول من الألفية الجديدة على الأقل ، من أي تمثيل دبلوماسي عربي باستثناء السفارة الليبية كما أخبرت من بعض طلابي القمريين قبل سنوات !
و قد دفعت ليبيا ثمن هذه المرجعية غاليا بالعدوان الهمجي البربري الأطلسي الأمريكي الفاشل على أراضيها في بنغازي و طرابلس في منتصف الثمانينيات ، و مقتل أبنائها و مواطنيها الأبرياء و تعرض اقتصادها للحصار الظالم قرابة عقد من الزمن ، و تم الاستيلاء على أموالها ظلما و فجورا و حرمانها من التقانة و المعرفة سنينا طويلة ، و تشويه صورتها عالميا عبر وسائل الإعلام المختلفة من خلال دعاية كاذبة مفضوحة ..
و لكونه مرجعية قومية فقد كان القائد القذافي هو الوحيد ، عالميا ، الذي أعلن الحداد بعد العدوان الثلاثيني المجرم على البوابة الشرقية للأمة العربية عراق الحضارات و المدنيات ، و اغتيال قادته و أبنائه البواسل النشامي و بناته الماجدات الكريمات ظلما و عدوانا و غطرسة ، و في مقدمتهم الشهيد القديس صدام حسين المجيد رحمه الله ، الذي انضم إلى قافلة شيوخ الجهاد و التضحية من أمثال شيخ المجاهدين عمر المختار الذي كانت حياته أطول من حياة شانقيه !
و لم يظل القائد مرجعية عربية فقط ، بل إن الدائرة الإفريقية أيضا شهدت له بالريادة و الألمعية من حيث استكمال الدور الجيو استراتيجي الذي بدأه عبد الناصر في القارة السمراء التي قال ، يوما في ” فلسفة الثورة ” ، إننا نحرس أبوابها الشمالية ، و بالتالي فنحن معنيون بما يجري فيها من استعمار و ميز عنصري و ما إليه ، وهكذا ظلت القاهرة مركزا متقدما لحركة التحرر الوطني الإفريقي ، و كانت استراحة لجميع مناضلي هذه الحركات التحريرية حتى بلوغ أهدافها في الحرية و الاستقلال و الكرامة .
و على نفس الدرب سار الأخ القائد القذافي حيث ظلت ثورة الفاتح داعما رئيسيا لحركات التحرر الإفريقية من إفريقيا جنوب الصحراء و حتى جنوب إفريقيا ، و هكذا رصدت الإمكانيات المادية والمعنوية حتى حققت عديد تلك الحركات الثورية استقلالاً سياسياً وقامت بطرد القوات الغازية وفكت الارتباط التبعي مع الإمبراطوريات الاستعمارية التقليدية ( فرنسا ، بريطانيا ، بلجيكا ، اسبانيا ..) التي كانت تعشعش في إفريقيا على طول مساحتها وعرضها .. و ساهمت ثورة الفاتح في إنهاء نظام الابارتهيد ” الميز العنصري” في جنوب إفريقيا ، و قد شهد عديد المناضلين الأفارقة بذلك ، و تكفي شهادة البطل الإفريقي الكبير رمز الحرية نلسون مانديلا في استقباله للرئيس الأمريكي الأسبق بيل كلينتون ، قبل سنوات ، الذي قال له ، وعلى شاشات القنوات الفضائية في بث مباشر ، إننا مدينون – بشرف – للقائد القذافي و لليبيا التي دعمتنا يوم كنتم تصفوننا ، ونحن محبوسين ، بالإرهابيين ، ومن لا تعجبه علاقتنا مع القذافي فليشرب من مياه البحر !!
و توّج القائد ، كمرجعية افريقية ، نضاله في هذا الجانب بـتأسيس الاتحاد الإفريقي في 9/9/99 في قمة سرت التاريخية من أجل تحقيق الولايات المتحدة الإفريقية لتحقيق حياة عزيزة كريمة للإنسان في القارة السمراء يودع معها أوضاع الحروب و الفقر و المرض وغيرها ، و يدور صراع الآن ، خفي أحيانا و ظاهر أحيانا أخرى ، في إفريقيا في هذا السياق بين عدة إرادات ، إرادة التحرر و الكبرياء و العزة و الكرامة التي تناضل في سبيل خلق فضاء قاري يجعل من القارة أحد الاتحادات الكبرى المحترمة دوليا ، و إرادة أدوات الاستعمار و أعوانه في القارة الذين لا يرون في إفريقيا إلا مكبا احتياطيا و ساحة خلفية للمصالح الاستعمارية و النفوذ الأجنبي الذي يستنزف الثروات و يخلق الحروب و مناطق التوتر الساخنة و الباردة بين الدول و الجماعات الإفريقية لتأجيل موعدها مع مستقبل أكثر أمنا و إشراقا .
و إسلاميا ، فقد تأصلت مرجعية القائد القذافي مبكرا و آية ذلك نشاط و جهود جمعية الدعوة الإسلامية العالمية المنشأة منذ سنة 1972 من أجل خدمة الإسلام و نصرة قضايا المسلمين في كل مكان و دعم القضايا الإنسانية العادلة عموما ، وقد رأت الجمعية النور تنفيذاً لتوصيات المؤتمر العام الأول للدعوة الإسلامية الذي عقد في مدينة طرابلس بليبيا في نهاية 1970 مسيحي ، وقد دعا له الأخ القائد معمر القذافي بعد عام فقط من انتصار ثورة الفاتح في ليبيا لدراسة أوضاع الأمة الإسلامية و تقييمها من حملة المشروع الإسلامي و نخبة أعلام الأمة من العلماء العاملين و المفكرين المشتغلين بالخطاب الإسلامي ، حيث أوصي هؤلاء المشاركون من جميع البلدان الإسلامية في ذلك المؤتمر ، غير المسبوق ، بضرورة إنشاء هيئة خاصة تعنى بقضية الدعوة والحضارة العربية الإسلامية في العالم ، وهكذا صدر القانون رقم 58 لسنة 1972 مسيحي واضعا تلك التوصية موضع التنفيذ بتأسيس هيئة عالمية للدعوة تسمى- جمعية الدعوة الإسلامية العالمية واتخذت من طرابلس مقراً لها.
وتعد الجمعية من الهيئات الإسلامية الخاصة ذات النفع العام مهمتها التعريف بالحضارة والثقافة الإسلامية ، والبرمجة للدعوة الإسلامية في العالم ، ومقاومة جميع أنواع الغزو الثقافي في الأمة الإسلامية.. وقد كان دعاة الجمعية و خريجوها في مختلف العلوم الشرعية مصابيح منيرة أينما حلوا ، و قد ساهموا في تقديم الإسلام في صورته المشرقة و الزاهية كدين خاتم جاء به النبي الأكرم رحمة للناس بشيرا و نذيرا ، و من خلال الجمعية فإن الثائر المسلم الأخ القائد القذافي تواصل مع المسلمين في قارات الأرض بغض النظر عن مذاهبهم و طوائفهم و أعاد الاعتبار التاريخي الواجب للسادة الأشراف أهل البيت النبوي ، و باتوا يشكلون في مناسبات المولد النبوي الشريف كل عام لوحة متميزة تشي بعظمة الوحدة و الاعتصام بحبل الله لإظهار قوة الإسلام و المسلمين .
و على مستوى الإنساني ، فإن الأعداء شهدوا أن القائد القذافي مرجعيةً إنسانيةً لا شك فيها ، لكونه يتمتع بفكر ثاقب ، يسكنه الإنسان و أوضاعه و أوجاعه و آلامه و مشكلاته حاضرا و مستقبلا ، و ليس في تأليفه للنظرية العالمية الثالثة ( فكر الكتاب الأخضر ) في سبعينيات القرن الماضي ، و في ظل احتدام الصراع الإيديولوجي عالميا بين رأسمالية الدولة ( و يمثلها الاتحاد السوفييتي و معسكره ) و رأسمالية الطبقة ( و تمثلها ما تسمى دول العالم ” الحر”! في أوروبا الغربية و أمريكا الشمالية ..) إلا أكبر دليل على عمق الأفكار الإنسانية التي أبدعها القائد القذافي و أصالتها و إبداعها .. ليس ذلك كل شيء ، بل إن المفكر القذافي اشتهر برؤاه المستقبلية ، و نبوءاته العديدة التي أثبتتها الأحداث بعد ذلك بسنين ، حيث تنبأ ، مثلا ، بانتصار العامل الاجتماعي ” القومي ” و انهيار المعسكر الشرقي ( الاتحاد السوفيتي و تفككه إلى مكوناته الأصلية التي تم تجميعها ميكانيكيا بالثورة البلشفية ثورة اكتوبر 1917 ف ) . كما تنبأ بأزمة المياه كونيا و الاحتباس الحراري و تغيرات المناخ التي تقض مضاجع الدول المتقدمة صناعيا قبل غيرها ..
إن القذافي هو المفكر الوحيد عالميا الذي طرح أفكارا جريئة غير مسبوقة لمواضيع مختلفة و متنوعة و معقدة ، يصعب على مفكر عادي أن يتناولها بهذه الشمولية و الوضوح و الصدق. حيث طرح وجهات نظر متميزة في مسائل الإرهاب ، و قمة الأرض ، و الأسلحة البيولوجية ، وحل المسألة الكورية ، و الحل النهائي لمشكلة كشمير ، وبطلان المحاكم الجنائية الدولية ، و تحريم الأسلحة الرشاشة ، و أوتاوا اتفاقية 1997 وجب إعادة النظر فيها ، و حل مشكلة فلسطين ” اسراطين ” ، و الفيفا تعدل أو تلغي ، و الاستثمار العالمي في خطر و كذلك امدادات النفط ، و تركيا و أوربا و البن لادنيون ، و أكرانيا مشكلة حقيقية ، و استفزاز روسيا ، وورطة الباكستان ، الصين أمريكا المواجهة المحتومة .. الخ .
و قد عزّز القائد القذافي مرجعيته و نضاله في سبيل العدالة الإنسانية برؤيته الشاملة حول إصلاح الأمم المتحدة في خطابه الاستثنائي في العام الماضي ( سبتمبر 2009 ف) ، الذي زلزل كيانها ، و أمام سمع العالم و بصره ، في مرافعة إنسانية نادرة ، نطقت بإسم جميع المظلومين و المعذبين و المستضعفين في كل مكان ، سواء كانوا عربا أو عجما ، محاكمة تاريخية لسلوك الكبار المتغطرسين الذين اختطفوا المنظمة الدولية الأكبر ، وباتت – معهم- سيفا مصلتا في أيديهم يحققون به مصالحهم على حساب السلم و الأمن الدوليين ، وهما الهدفان اللذان أنشئت من أجلهما منذ ستين عاما تقريبا ..
تأسيسا على ذلك لا يكون غريبا على ذوى النهى أن تأتي وفود من كل فج عميق من فنزويلا و اندنوسيا و امريكا و الغابون و اليمن و العراق المحتل و فلسطين المحتلة وموريتانيا ( بعض الأحزاب القومية و الإسلامية و الثورية ..) ، ومنذ سبعينيات القرن العشرين ، إلى الخيمة الوارفة الظلال ، إلى رمز الأصالة و العراقة ، لتستمع إلى الفكر الخلاق ، إلى التوجيه الرشيد ، إلى النصح الجميل ، إلى الخير العميم .. فهل يعقلون ؟