الريحُ العاتية هي من يقوده إلى المجهول، غبار آفطوط يملأ عينيه، جسده الصغير بقدر سنواته الثلاث يكاد يطير في الهواء، يواصل المشي الذي يشبه الطيران، وهو يعتقد أنه سيصل مضارب الخيام، بعد أن غادرها رفقة أطفال الحي عصر يوم صيفي غادر، سبقه الأطفال وغابوا عنه وسط الريح، تاه الطفل في أرض تقطنها الوحوش، والليل يقترب.
يحكي محمد المصطفى ولد بدر الدين هذه القصة في حديث صحفي جمعني به عام 2011، وهو جالس في خيمة صحراوية نصبها فوق منزله العادي جداً في نواكشوط (كرفور)، يصف المشهد بدقة بالغة وذاكرة قوية، يقول إنه من المشاهد التي علقت منذ الطفولة بذاكرته، وهو الذي وُلد سنة 1938.
ينحدر من بيت يصفه بالمتوسط اجتماعياً، ولكنه «فقير.. فقير جداً»، يكررها عدة مرات وهو يستعيد تفاصيل طفولته عند نبع مياه يسمى «شركَه موكَه»، يبعد عشر كيلومترات إلى الشرق من مدينة «صنكرافه».
قدم والده إلى «آفطوط» في لبراكنه من منطقة «اركيز» في الجنوب، كان يبحث عن العلم والتربية الروحية، وجد غايته في حضرة الشيخ أحمد أبو المعالي فاستقر به المقام، تزوج ورزق بطفل منحه اسم والده «محمد المصطفى ولد بدر الدين».
تربى الطفلُ في بيئة محظرية صوفية، وجدت والدته صعوبة في تعليمه الحروف الأبجدية، فبحثت له عن مدرس فلم تجد من يقبل تدريسه لصغر سنه، تركته يصحب الأطفال إلى الكتاتيب ويلعب معهم، فاكتشفت بعد ذلك أنه تعلم الحروف والتهجي بالمحاكاة، وزاد عليها بحفظ بعض آيات القرآن الكريم، بدا واضحاً أن لديه ذاكرة قوية وذكاء حاداً.
تاه الطفلُ عام 1941، حين كان العالم تائهاً من حوله، الحرب العالمية الثانية تشتعل، وعاصفة من الفوضى تعم أرجاء الدنيا، لعلها نفس العاصفة التي أخفت عنه بقية الأطفال وهم عائدون إلى مضارب الحي، نفس العاصفة التي جففت الترعة وحملت معها الجوع.. يتذكر بتفاصيل مدهشة كيف ضرب الجفاف حيهم الصغير، وكيف كان يضطر الناس لأكل الشجر، وأسراب الفئران تجتاح الخيام بحثاً عن بقايا طعام غير موجود.. إنه يتذكر كل تفاصيل ذلك العام.. «عام الفئران».
خيام قماش متواضعة تتهادى في الوادي، يعيش أهلها على زراعة بدائية وقطعان صغيرة من الإبل والأغنام، في عزلة تامة عن بقية العالم، عزلة لم تنقذهم من تداعيات الحرب العالمية، فضربتهم «مجاعة» لا تُنسى.
رفضُ المدرسة !
ظل الطفل يجري، حلَّ الليل وهو يجري، لم يتوقف.. بات يجري ثم يجري، اعتقاداً منه أنَّ الجري سيوصله إلى خيمة أهله، ولكنه لم يجد أمامه سوى منحدر صخري عجز عن النزول منه، جلس القرفصاء وقرر الانتظار، بات على حافة المنحدر حتى انبلج الصبح.
يتحدث ولد بدر الدين عن هذه الحادثة كنقش محفور في ذاكرته، ولكنه لا يعطي أي تفاصيل حول مشاعره ولا أحاسيسه في تلك اللحظة، ربما لا يتذكر.. ربما لم تكن لديه أي مشاعر وهو في الثالثة من العمر.. ربما رحلة تيه إنسان هذه الأرض لم تنته بعدْ !
بلغ الطفل العاشرة من العمر، كان قد حفظ القرآن الكريم وبعض المتون الصغيرة، حين وصل مضارب الحي مفتش فرنسي، يرتدي الزي الموريتاني التقليدي، يتكلم الحسانية بطلاقة ويركب جملاً صحراوياً من سلالة عريقة، جمع «الفرنسي» أطفال الحي وبدأ يختبرهم ببعض الألغاز، اختار من بين الأطفال أكثرهم ذكاء.. وكان في مقدمتهم «محمد المصطفى».
كان الشيخ أحمد أبو المعالي زعيم الحي وصاحب الكلمة النافذة فيه، لمكانته الروحية والاجتماعية، ولما يتمتع به من بُعد نظر وحكمة، فنصح والد الطفل بأن يدخله «المدرسة»، نصيحة أغضبت الرجل الذي حمل زوجته وابنه وغادر الحي، رافضاً إدخال ابنه الوحيد إلى «مدارس النصارى».
كان الطفل يتابع ما يجري دون أن يفهمه، ولكن مشهد والده وهو غاضب زرع لديه قناعة بأن الرجل الغريب الذي كان يلعب معهم «غير مرغوب فيه»، وأن «المدرسة» شيء غير مُحبّب !
مرت السنون.. وعاد الطفلُ إلى مضارب الصبى وهو مراهق، يتقن رسم القرآن الكريم النحو واللغة، ويحفظ الكثير من عيون الشعر العربي، كان في العشرين من عمره، وقد اشتهر في الحي بكونه شاعراً مُجيداً، وأصبح يتصدر المجالس، وفاق أقرانه بالقرب من «شيخه» الشيخ أحمد أبو المعالي.
آنذاك بدأ إصلاح قطاع التعليم، ودمج اللغة العربية في المدرسة الاستعمارية، لإقناع السكان المحليين بإرسال أبنائهم إليها، فاكتُتِب معلمو لغة عربية من خريجي المحاظر، جرى أول امتحان سنة 1957 رفض ولد بدر الدين المشاركة فيه، كما عاد ورفض المشاركة في امتحان 1958، رغم أن العديد من أقرانه أصبحوا معلمين، إلا أنه ظل وفياً لقناعة زرعها فيه والده وهو في العاشرة من العمر.
منتصف عام 1959 أخذ الشيخ أحمد أبو المعالي بيده وقال له: «هذه يد فقير، لا تصلح لحراثة الأرض ولا جلب الماء ولا مكابدة الحيوان، إنها تصلح فقط للتعليم والتعلم»، وأمره بالمشاركة في امتحان اكتتاب معلمي اللغة العربية.
كان الشاب المؤدب يستمع لشيخه.. وبعد أيام وجيزة شارك في الامتحان من مدينة «كيهيدي»، وبدأ التدريس في قرية «تولل» التابعة لبلدية «مقامة» على الضفة، شهر يناير من عام 1960، كانت حينها موريتانيا تعيش إرهاصات الاستقلال، فيما كان الشاب «محمد المصطفى» يخطو أولى خطواته خارج آفطوط، ليكتشف موريتانيا والعالم، ويحمل بعد ذلك همًا يتجاوز مضارب الحي الذي ولد فيه وترعرع.
النِّضال الأولْ !
أول راتب شهري يتقاضاه «بدر الدين» عن مهنته الجديدة كان 2400 أوقية، لم يحصل عليها إلا نهاية العام في مدينة سينلوي، حيث التقى عدداً من معلمي اللغة العربية، يجمعهم الإحساس بنظرة دونية تسلط عليهم في ظل هيمنة اللغة الفرنسية على التعليم والإدارة.
عقد المعلمون الشباب وأغلبهم من خريجي المحاظر، أول جمعية لتأسيس «نقابة المعلمين العرب» شهر أغسطس 1960 بمدينة سينلوي، ونظموا مؤتمرهم الأول شهر أكتوبر من نفس العام في نواكشوط، شهراً واحداً قبل إعلان استقلال البلاد.
ناضل «بدر الدين» ضد الاستعمار وهيمنة اللغة الفرنسية، وشارك في تنظيم أول إضراب لنقابة المعلمين العرب قبل إعلان الاستقلال، رفعت فيه مطلب ترسيم اللغة العربية وتكوين معلميها.
مع مرور الوقت تحولت «نقابة المعلمين العرب» إلى ما يشبه الحزب المعارض، خاصة بعد الاستقلال والفراغ الذي أحدثته سطوة «حزب الشعب» على المشهد السياسي، أصدرت النقابة جريدة «الواقع» فكان «بدر الدين» رئيس تحريرها.
السنوات الأولى من الاستقلال بلغ فيها «بدر الدين» أوج المراهقة في النضال النقابي، ولكنه لم يعرف أي انتماء سياسي منتظم، قبل أن يتوجه إلى القاهرة عام 1964، حيث تلقى تكويناً في كلية التربية بجامعة عين شمس مدته عامان. كانت مصر حينها تعيش ذروة المد القومي الناصري، وهو الشاب المنافح عن اللغة العربية والقادم من بلد كان يحس فيه بخطر طمس «هويته العربية».. لقد كان بذرة قابلة للنمو.
بدأت البذرة تنمو على يد «حركة القوميين العرب» الناصرية، وعاش «الطفل السياسي» من القاهرة أحداث 1966 بين العرب والزنوج، التي سقط فيها عدد من الشهداء بسبب صراع حول اللغتين العربية والفرنسية في التعليم.
يقول «بدر الدين» متحدثاً عن هذه الحقبة: «لقد انجرفتُ آنذاك»، في إشارة إلى قصيدة له تضمنت تحريضاً وعنصرية ضد الزنوج، ولكنه بعد مراجعات فكرية وسياسية أعاد كتابة القصيدة لتكون «أكثر وطنية»، على حد تعبيره.
خلال تكوينه في مصر احتك «بدر الدين» بعدد من أبناء وأقارب رموز التيار القومي الأفريقي، وتعرف على فكرهم وأدبهم وشعرهم، ما قاده بعد ذلك بفترة إلى مراجعة جوهرية ستغير نمط تفكيره السياسي.
عاد إلى موريتانيا وهي لم تتجاوز بعدُ تداعيات أحداث 1966، وهو ما قاده رفقة بعض زملائه إلى مراجعة أفكارهم القومية، مراجعة تأتي بعد هزيمة 1967، وبعد أن شاهدوا كيف تحول نضالهم ضد مخلفات الاستعمار، إلى صراع بين أبناء الوطن الواحد.
حدث المنعرج الحقيقي أمام «الطفل السياسي» عام 1968، حين انعقد «مؤتمر توكومادي»، ليسفر عن تأسيس «الحركة الوطنية الديمقراطية» ذات التوجه اليساري التقدمي، لتعرف فيما بعد باسم «حركة الكادحين».
هناك وصل «بدر الدين» إلى النهج الإيديولوجي الذي سيظل وفياً له حتى آخر نفس، وقد شرح هذا النهج خلال المؤتمر حين قال أمام رفاقه: «لقد قررت أن أتبنى طرحاً ديمقراطيا طبقيا، يعتبر التناقض الحقيقي تناقضا بين الاستعمار وحلفائه من جهة، والجماهير الموريتانية من مختلف القوميات من جهة أخرى»، إنه يعيد النقاش حول «الاستقلال المزيف» بعد قرابة عقد من إعلانه.
لم تكن مسيرة «بدر الدين» مفروشة بالورود، بل إنه سُجن أكثر من أي سياسي موريتاني آخر، وكثيراً ما يقول إنه عوّد نفسه على شظف العيش، لأنه لا يأمن مكر الأنظمة الحاكمة، محتفظاً بما أورثته طفولته من صبر على قسوة الحياة.
اعتقل أول مرة عام 1969 وهو يبلغ من العمر 31 عاماً، ويقود نقابة المعلمين العرب، عندما أصدر بياناً شديد اللهجة حول أحداث ازويرات الدامية، يصف فيه ما جرى بـ «المجزرة»، ويطالب بالتحقيق ومعاقبة المسؤولين، كلمات أدخلته سجن «غابو».
كان الصدام بين «الكادحين» ونظام الرئيس الراحل المختار ولد داداه على أشده، خاصة بعد دمج «اتحاد العمال الموريتانيين» في «حزب الشعب»، خلال «مؤتمر تجكجه»، قرار واجه معارضة قوية من طرف «الكادحين»، فوصلت الاعتقالات ذروتها في صفوفهم.
سجن للمرة الثانية حين شارك في مظاهرة عمالية يناير 1971، عرضت عليه السلطات بعد ذلك أن يسافر في تكوين إلى تونس مع رفيقه محمدو الناجي ولد محمد أحمد، ولكنهما رفضا، بعد أن وجدا فيه محاولة لإبعادهما عن الساحة.
كان آنذاك «بدر الدين» قد نجح في مسابقة دخول المدرسة العليا للأساتذة، ولكنه عاد إلى التعليم الأساسي بعد رفض عرض الحكومة، فأبعدته معلماً إلى باسكنو في الفترة من 1971 وحتى 1972، ليشارك في مسابقة المفتشين نفس العام، وعادة مرة أخرى إلى المدرسة العليا للأساتذة، إلا أن السجن كان في انتظاره لفترة امتدت 13 شهراً، تنقل خلالها بين سجون تامشكط وبومديد.
خرج من السجن عام 1974، وعاد إلى المدرسة العليا للأساتذة للمرة الثالثة، ليتخرج منها بعد ثلاث سنوات مفتشاً مساعداً للتعليم الأساسي، حينها كانت الأوضاع في البلاد مضطربة، وحرب الصحراء على أشدها، وشبح الانقلاب يلوح في الأفق.
بدأ «بدر الدين» عمله مفتشاً مساعدا للتعليم الأساسي من مدينة كيهيدي، ومنها قاد ما يشبه ثورة تحرير العبيد، ورفع مطالب إصلاح عقاري في الضفة، وبدأ يصنع شعبية في تلك المناطق، في تلك الاثناء وقع انقلاب 1978، فكان من معارضيه، ليصدر بعد ذلك قرار باعتقاله خلال حكم رئيس الوزراء أحمد ولد بوسيف، وهو ما اضطره وبعض رفاقه إلى الاختفاء عن الأنظار حتى صدر عفو عنهم من الرئيس محمد خونه ولد هيدالة.
بعد سلسلة الانقلابات العسكرية نهاية السبعينات ومطلع الثمانينات، تعرضت «الحركة الوطنية الديمقراطية» لعدة نكسات، فخفت النشاط السياسي في البلاد، وبدأ «بدر الدين» يتدرج في مساره المهني، فعُين مفتشاً في نواكشوط، قبل أن يتولى إدارة المدرسة الوطنية للتكوين الإداري والاجتماعي سنة 1980، حتى أصبح مديراً لمدرسة تكوين المعلمين عام 1988.
وحين كانت البلاد تستعد عام 1991 لدخول التعددية السياسية، حدثت تصفيات في صفوف الضباط الزنوج، بعد اتهامهم بمحاولة انقلاب عسكري، في تلك الأجواء سُجن «بدر الدين»، ليختم بذلك مساراً طويلاً مع السجون.
حين كانت موريتانيا تحبو نحو التعددية الديمقراطية مطلع تسعينيات القرن الماضي، كان «الطفل التائه» يقف على أعتاب الخمسين، راكم خلالها تجربة سياسية كبيرة، مع فهم دقيق لتعقيدات المجتمع الموريتاني، وذكاء اجتماعي حاد وقبول، مع الكثير من الصبر والعناد.
لم تخدعه ديمقراطية يمنحها العسكر، فالتحق سنة 1991 بالجبهة الديمقراطية الموحدة من أجل التغيير، تجربة لم يُكتب لها أن تطول، ولكنه في تلك الفترة سُجن وأقيل من إدارة مدرسة تكوين المعلمين، وبقي دون وظيفة حتى تقاعد سنة 1999.
أسس «بدر الدين» حزب اتحاد قوى التقدم (عهد جديد)، مع مجموعة من بقية كادحي «الحركة الوطنية الديمقراطية»، فأصبح هو «المسؤول السياسي» للحزب، قبل أن يُنتخب «أمين الحزب» في مؤتمر طارئ عام 1998.
دخل البرلمان سنة 2001 ، من هناك عرفه الشارع الموريتاني خصماً شرساً للحكومات المتعاقبة، وكانت مداخلاته هادئة ولكنها موجعة، وتنقل بصدق إحساس المواطن العادي.
ها قد أصبح «الطفل التائه» نجماً وهو على أعتاب السبعين، فكسر بذلك صورة في مخيلة المواطن رسمتها عقود من حملات التشويه التي استهدفته.
حين كان «بدر الدين» يُكمل عامه السبعين، جاء انقلاب 2008 العسكري، فأعاد له نشاط الشباب وهو يتصدر مظاهرات «الجبهة الوطنية للدفاع عن الديمقراطية»، لم يُعتقل ولم يُسجن، ولكن صدره امتلأ بمسيلات الدموع حين كان يفر أمامها شباب المعارضة.. ما كان له أن يفر وهو الذي سبق أن واجه عواصف «آفطوط» في الثالثة من العمر.
عشر سنوات من حكم الرئيس محمد ولد عبد العزيز، قضاها «بدر الدين» شوكة في حلق النظام، يتحدث بشجاعة عن الفساد المالي والأخلاقي لرأس النظام وزمرته الحاكمة، وهو ما أصبح اليوم خطاباً متداولاً لدى موالاة كانت صامتة حين تحدث هو ورفاقه في المعارضة.
ها قد بلغ «الطفل التائه» الثمانين، وبدأ جسده يضعف أمام الزمن، ولكن عزيمته لم تتزحزح، رغم «الخلافات السياسية» التي عكرت صفو علاقته برفاقه داخل حزب اتحاد قوى التقدم، حين رفض مقاطعة انتخابات 2013، لأنه يرى في ذلك تخلياً عن مزارعي الضفة من مناضلي الحزب.
لقد تمسك بمواقفه حتى آخر لحظة، هكذا تقول النائب في البرلمان كادياتا مالك جالو، وتضيف متحدثة عن علاجه في الجزائر: «كان يتواصل معنا، يسأل عن الأخبار ويصدر التوجيهات، لم يتخلَّ عنا إلا حين عجز عن الكلام قبل وفاته بخمسة أيام».
تُحس كادياتا وهي تتحدث عن الراحل بـ «اليتم السياسي» بعد أربعين عاماً من النضال إلى جانبه منذ أن التحقت بصفوف «الحركة الوطنية الديمقراطية» مطلع ثمانينات القرن الماضي، وتقول إنها عرفت فيه «التعلق بالمبادئ والشجاعة والصمود، ورفض الانتهازية والانبطاح، والارتباط الشديد بالبسطاء من فلاحين وعمال».
غادر «بدر الدين» مكتبه في مقر حزب اتحاد قوى التقدم قبل أكثر من عام، لم يعد إليه لأن الخلافات بين الرفاق وصلت طريقاً مسدوداً، كان المكتب موحشاً حين فضّل صديق طفولته ورفيق نضاله محمدو الناجي ولد محمد أحمد، أن يدلي أمامنا بشهادته من على نفس الكرسي الذي كان يجلس عليه «بدر الدين».
ينحدر محمدو الناجي وبدر الدين من نفس المنطقة في آفطوط، جمعتهما الكتاتيب والمحاظر ومجالس حضرة أهل الشيخ أبي المعالي، ثم سلكا نفس طريق النضال لأكثر من ستة عقود.
بدأ محمدو الناجي يتحدث، كانت في صوته بحة وهدوء، فقال: «عادة يسألون (هل سافرتَ معه)، نعم سافرتُ معه سفراً طويلاً وشاقاً، سفرُ الحياة»، وأضاف متحدثاً عن أيام مرضه: «وهو في أحلك الظروف انشغل عن المرض بالنضال وهموم الناس البسطاء، فقد كان مركزا للشكاوي والتظلمات».
حاول محمدو الناجي أن يلخص حياة «بدر الدين» بلغته الهادئة والمتبصرة، فقال إنه «كان مسكوناً بمبدأ المساواة بين كافة البشر، وظلت الديمقراطية هاجسه، مناضل صلب لم يركن إلى حياة الدعة والبذخ، وكان طويل النفس شجاعاً، نجح رغم الظروف الصعبة في أن يُغير الكثير في موريتانيا».
يختم «الناجي» شهادته بالقول إن «رحيل محمد المصطفى ولد بدر الدين يعني أن شعلة من النضال انطفأت، وبموته أشعر أن الأجل أصبح قريباً»… ثم يسكتْ !
لقد رحل «الطفل التائه» بعد اثنين وثمانين عاماً قضى أغلبها في النضال من أجل موريتانيا، لم تكن لتحدث لولا أن رجال الحي باتوا ليلتهم وهم يجوبون الأودية والترع بحثاً عنه، وهم يحملون أعواد الحطب المشتعلة، يصارعون الريح العاتية، تنطفئ فيعيدون إشعالها، ومع بزوغ الفجر وجدوه جالساً القرفصاء على حافة المنحدر، صامتاً ينظر إلى الأفق البعيد، لا أحد يعرف فيم كان يفكرْ.. ككل سكان هذه الأرض.