د/ محمد عبد الله ولد محمد محمود*
يعيش المشهد السياسي الموريتاني مذ نشأته حالة من الاستقطاب الحاد، تنمو مع الوقت وتزداد حدتها بما يكتنفها من تشنج وانفعالات الخصوم الشخصية حتى تخرج عن السيطرة وتنفجر، مخلفة من ورائها ضحايا وآلاما وحزازات في النفوس لا يمكن سبر أغوارها، ويصعب ردم حفرها وترميم شروخها، ولم يبق من أفراد المجتمع أحد إلا واكتوي بنارها مباشرة أو بصفة غير مباشرة، بما ينجر عنها من أزمات علي مختلف الأصعدة، ويا للأسف فإن الساسة بدل مؤاساة الضحايا دأبوا علي نكأ جروحهم حتى لا تندمل، من أجل أن يستغلوهم من جديد لبلوغ أهدافهم ولسان حالهم يقول الغاية تبرر الوسيلة، وهكذا دواليك يعيدون الكرة الخاسرة تلو الأخرى بنفس الأساليب، دون التفات إلي دروس الماضي ومعطيات الواقع من أجل الاستفادة منها وينسون أن المؤمن لا يلدغ من جحر مرتين، وكأن قدر هذا الوطن وساكنيه السير في نفق مظلم، لا أمل في الخروج منه أو انبلاج شعاع في نهايته، والحقيقة أن هذا المجتمع المسلم100% قادر علي تجاوز كل المحن والمآسي يحدوه الأمل إلي غد مشرق هو به قمين، لأنه يمتلك كل الطاقات اللازمة لذلك من عقيدة سمحاء جامعة وتاريخ مشترك مشرق من التعايش السلمي ومصير موحد وموارد طبيعية وبشرية، وإنما يحتاج وقفة تأمل ومصارحة مع النفس والآخر، تعيد إليه الثقة بنفسه ليدرك خصوصيته (الأنا) وما يعنيه ذلك من التزام بالثوابت التي لا يمكن أن تكون محل مساومة، وما يقتضيه ذلك من أن الانفتاح علي الآخر ـ والذي هو ضروري ـ ليس معناه الانبطاح والانفصام والاغتراب، أو ما يدعوه المفكر مالك بن نبي قابلية الاستعمار! أو ولع المغلوب بتقليد الغالب علي حد تعبير بن خلدون، فالسياسة في الإسلام مقيدة بالأخلاق الرفيعة التي جاء بها، ولا يمكن بحال أن تلتقي مع الديماغوجية والنظرية المكيافيلية المبنية علي طلاق البينونة بين السياسة والأخلاق والاعتماد علي القوة والخداع والكذب من أجل تحقيق المصلحة… مذ مؤسسها نيقولا مكيافيلي مرورا بجون بودان ووصولا إلي موركنتاو والتي هي نتيجة من نتائج العلمانية، المغلفة بموضوعية (أغست كانت) ومادية ماركس وأوهام التجريبيين.
فإذا كانت هذه النظرية هي السائدة اليوم بين الساسة عبر العالم، في العلاقات الدولية بشكل سافر وفاضح وفي العلاقات المحلية في الغرب بشكل أقل فظاعة، فإن المسلم السياسي لا يمكن أن يرمي بنفسه في هذه الهوة السحيقة، فمحمد صلي الله عليه وسلم يقول بعثت لأتمم مكارم الأخلاق، وليس معني هذا التحلي بالسذاجة أو الضعف أمام الخصوم كلا، فالمسلم القوي خير من الضعيف وفي كل خير وكما قال عمر لست بالخب ولا الخب يخدعني، فالمسلم سياسيا كان أو غيره مدعو اليوم أكثر من ذي قبل بأن يملأ مقعده الشاغر بين الأمم، من خلال التفاعل الواعي الذي يخدمه في إعادة حضارته للريادة، ولا يرضي بأن يظل واقفا علي هامش حركة التاريخ مفعولا به، يتلقف باليمين والشمال ما تلفظه مكينة الحضارة الغربية من قشور ونفايات سامة تحت شعارات مزيفة، “ينفخ منها في غير ضرم ويستسمن كل ذي ورم” ويلعق السم مدوفا بالدسم، ينتزع الأبواب والنوافذ ويحطم الأسوار لنصبح وكرا للمجون باسم الفنون والإلحاد تحت شعار الحرية … وفي أحسن الحالات يكون ببغا أو صدي للآخر والجنون فنون، وعسي ألا يتوهم متوهم فيحمل كلامي علي غير محمله بإسقاطه علي فلان أو علان، فإنما أوجهه لشخصيات اعتبارية تعالج شأنا عاما من حق كل ذي رأي تناوله، ومعاذ الله أن يكون موجها للأشخاص الطبيعيين، وما كان فيه من قسوة فإنما هو قبيل العلاج بالصدمات الكهرومغناطيسية، ليستعيد المريض إحساسه إذا كان في غيبوبة أو هي نفثة مصدور أنهكه الداء.
وبما أن توصيف الداء هو الخطوة الأولي لمعرفة الدواء، فإنني أدعو الساسة وسائر القوي الحية في هذا القطر إلي حوار مكاشفة ومصارحة ومصالحة مع النفس، من أجل نقد وتقييم وتقويم ما مضي من ولايتنا الخاصة والعامة في الأرض، قبل أن يتم عزلنا ومحاسبتنا من قبل الوكيل وحينها لا ندري إلي أي الدارين يؤمر بنا؟ فإنما هي الجنة أو النار، وهذه الوقفة ضرورة لا محيص عنها لكل صاحب مشروع كبر أو صغر، فمن المتعارف عليه أن قيمة أي جهد بشري معين، تقدر استنادا إلى مزاياه ومساوئه أو بالأحرى مدى فاعليته والنتائج التي يحققها، مع العلم أنه مهما بلغ من النجاح سيظل ناقصا بطبيعة الحال لأن النقص سمة بشرية، وكل تجربة عندما لا تخضع للدراسة والتحليل والتقييم تغدو تسير دون وجهة, حيث لا تعرف شيئا عن إخفاقاتها ونجاحاتها وبالتالي ملائمتها، ومن هنا تبدو ضرورة وأهمية المراجعة الدورية الدءوبة لتقييم الإنجازات، للوقوف علي مدي مطابقتها لما كان مقررا حسب البرنامج المقرر إنجازه، فإذا تبين أن الإنجازات حققت نجاحا معتبرا تم المضي قدما في البرنامج مع محاولة تفعيله لتحقيق ما لم يتم تحقيقه، أما إذا تبين أن الإخفاقات أكبر من الإنجازات فإن المنطق السليم يحتم البحث عن الأسباب التي تقف وراء الفشل من أجل تجاوزها، وإذا كان هذا يعد من نافلة القول ـ وهو كذلك ـ فلماذا يغفل عنه سدنة السياسة ودهاقنتها في هذا المنكب البرزخي؟ والذين لا يزالون يدندنون ويدورون حول ذواتهم في حلقة مفرغة؟ ولماذا يستقيل الأكاديميون وبالأخص أساتذة جامعتنا من مهمتهم الأكاديمية ويقفون كأن علي رءوسهم الطير مذ ما يقرب من عقدين في صمت شبه مطبق؟ وإن شفعت لهم الدراستان الفريدتان للدكتورين الجليلين: سيد إبراهيم ولد محمد قبل عقدين ومحمد الأمين ولد سيد باب مذ خمس سنوات، إلا أن أساطين الأسرة الأكاديمية رغم كل المعوقات الكثيرة يظلون مقصرين عن رتبة المحلقين! أما وسائل الإعلام الوليدة والمثقفون “فمكره أخاك لا بطل” وقد قدم بعضهم جهد المقل ومنهم من غلب عليه خلط الخبر بالرأي، وآخرون خلطوا عملا صالحا وآخر سيئا عسي الله أن يتوب عليهم، وأما المجتمع المدني ـ إن كان ـ “تسمع بالمعيدي خير من أن تره” فهو وسيلة لاكتساب دخل أو تحسينه مقابل خدمة قد تصل حد بيع الوطن بدراهم معدودة، فبعدا لها من مهنة صاحبها صفقته خاسرة وإن حاز ملأ الأرض ذهبا، وقد تكون هناك حالات استثنائية مغمورة، وهو ما يحتم تصحيح مسار هذا القطاع العريق في مجتمعنا، والذي نحسبه جهلا هدية من هدايا الحضارة الغربية، ولا حاجة لذكر حال الرأي العام بما أن جميع من ذكر يعتبر من أهم آليات صنعه ووسائل التعبير عنه، وهذا قيض من فيض تيار هذا المشهد الجارف والذي تثور براكينه حينا بعد حين، مما يدل علي عمق أزمته، وأنها من صنع الجميع وبالتالي يتحملون تبعاتها ومتابعتها كل واحد من موقعه حتى يتم تجاوزها.
إذا تمت المراجعة الذاتية لكل علي حدة بإرادة صادقة، فإن الخطوة الثانية تحتم التحاور بين التيارات والقوي الناشطة في الساحة بدون استثناء من أجل أثارة القضايا الوطنية التي تهمهم، بغية التوصل إلي كلمة سواء بينهم، وأري أن تجليات الأزمة حسب تصوري تشي بأنها أزمة فكرية بالأساس، وإن كانت تلك التجليات ذات أبعاد مختلفة، مما يجعل الأمر يستدعي من الجميع أن يعملوا أفكارهم ويسلكوا جميع مسالك التفكير المستقيمة، ومما يعين علي ذلك أن يتجردوا قدر الإمكان من ترسبات الماضي وماله من تركة ثقيلة حتى يمكن العبور إلي بر الأمان، بتبني إطار جامع للجميع يكون من بنات أفكارهم وفق ينابيع عقيدتهم البيضاء الموافقة للفطرة السليمة وليس مستعارا من هذه الجهة أو تلك، فجميع الإيديولوجيات قد ذبلت في تربتها بعدما غارت مياهها وجفت منابعها، ولا شك أن ذلك يحتاج إلي مرونة كبيرة وأضاح كثيرة وشجاعة خارقة وإحساس بالمسئولية والأمانة، وهو ما نحسب أن الجميع حريصون علي الاتصاف به وهو ما يجعلهم يعلنون التمسك بالديمقراطية كخيار استراتيجي لا رجعة فيه، مما يقتضي التحلي بثقافة الاختلاف والتعايش، والإنصات لخطاب العقول لا المشاعر والعواطف المنفعلة، وهذا ما يعبر عنه بضرورة التحلي بأدب المناظرة والبحث في تراثنا الإسلامي، ومن بينها أن يكون الغرض إحقاق الحق، ومقتضي ذلك ألا يفرق المناظر بين ظهور الحق علي يده أو علي يد محاوره، والابتعاد عن اللدد في الخصومة لأن الله يبغض الرجل الألد الخصيم، وأن الاختلاف في الرأي لا يفسد الود فنعمل علي ما اتفقنا عليه ويعذر بعضنا بعضا في ما نختلف فيه، مع واجب التحلي بالصدق والنزاهة والابتعاد عن المراوغة والتشبع بما لم نعط، أو التظاهر بما يخالف الاعتقاد فإن من أسر سريرة ألبسه الله رداءها.
ومهما تكن عند امرئ من خليقة |
وإن خالها تخفى علي الناس تعلم |
وأري أن ثمة أسئلة كثيرة تطرح نفسها بإلحاح علي هكذا حوار، ومن بينها علي سبيل المثال من نحن (الأنا)؟! وما هي العلاقة التي نريد أن تربطنا بالآخر هل هي علاقة تبعية كاملة؟ أم هي علاقة ند بنده يعطي ويأخذ وفق المصالح المتبادلة؟ وما هي الديمقراطية التي نريد أهي ديمقراطية تتماشي مع خصوصيتنا وواقعنا بعيدا الإملاءات الخارجية؟ أم هي ديمقراطية الغرب التي يريد لنا أن نكون عليها والتي طالما بشرنا بها وآخر نماذجها الحالة العراقية والأفغانية والفلسطينية … حيث تسود الفتنة المذهبية والطائفية والعشائرية والعرقية… من أجل أن يتوفر الأمن للحاخمات والخامات للمصانع وأسواقا لتصريف فوائضها؟ أم أن هذه الأسئلة غير واردة لأنا لا نملك من أمرنا شيئا وإنما نحن مسيرون لا مخيرون؟ وما لنا حول ولا قوه وإنما الفاعل للشيء هوه؟!
* دبلوماسي وباحث متخصص في القانون العام. Gmail.com@mhd.abd1978