ونظرا لخطورة ذلك الحدث الفاصل، وما تركه من بصمات غائرة في حياة ومستقبل الوطن والمجتمع، فقد رأيت أن أذكّر به عن طريق إعادة نشر بعض الأدبيات المتعلقة به؛ علّ ذلك يخلق “حوارا” موضوعيا وبناء حول تلك الحقبة العصيبة من تاريخنا، فنتمكن بفضل ذلك من استخلاص بعض الدروس والعبر.
وستبدأ مقدمات “حكاية” العاشر يوليو، من الثورة الجزائرية، وحرب الصحراء المشئومة، لما لهما من علاقة وتأثير مباشر بالحدث.
1. في رحـاب الشهـداء
وبوركت تربا ضم مليون خالد كأنـك مـن أرواحهـم تتوقـد
مفدي زكريا
لم تحظ ثورة عربية، باستثناء ثورة فلسطين، بدعم العرب، كل العرب، من محيطهم إلى خليجهم، كما ثورة الجزائر. ولم يبذل شعب عربي في سبيل عزته أغلى مما قدمه شعب الجزائر. ولم تخب الآمال في ثورة بقدر ما خاب الرجاء في ثورة الجزائر! وذلك لأكثر من سبب!
مليون ونصف مليون شهيد وهبوا أرواحهم الزكية فداء للأرض والعرض، ومهرا للحرية والكرامة والهوية.. وجادت الأمة العربية والإسلامية، والإنسانية جمعاء بالكثير الكثير لتلك الثورة.
وكم كان حريا بشعب عظيم، كالجزائر، ينتمي لحضارة عظيمة، أن يتمتع بثمار جهاده وخير بلاده، ويعيش حياة حرة كريمة، ويسهم على قدر آماله، والآمال فيه، وتطلعاته المشروعة، وإمكانياته الهائلة، في نهضة ورقي أمته والإنسانية جمعاء!
ولكن هيهات:
• “ثورة” في الثورة!
• حرب على الحدود!
• انقلاب على السلطة الثورية الشرعية، ونظام عسكري!
• حرب على الصحراء!
• وأخيرا.. الحرب الأهلية!
أوراق رابحة، لعبتها قوى الاستعمار والصهيونية القابضة على البسيطة، في تخريب ثورة زلزلت نظامها، وهدت مصالحها في أكثر من موقع، ورأت في القضاء عليها وسيلة لبلوغ بعض مآربها:
ـ وقف المد الناصري، والثورة العربية التي اجتاحت آسيا وإفريقيا وتدق أبواب أوروبا في الجنوب.
ـ تمكين الصهيونية، وتكريس اغتصاب فلسطين.
ـ وأد الثورة في أمريكا الجنوبية
ـ الحفاظ على المستعمرات، وحماية الميز العنصري، في إفريقيا
ـ قهر الثورة الفيتنامية.
وفي هذا السياق،وحده، تجد حادثتا اغتيال وزير خارجية الجزائر الشاب المرحوم محمد خميستي، والانقلاب على الثورة (في نفس السنة التي تم فيها الانقلاب على ثورتي إندونيسيا وغانا)، عشية انعقاد مؤتمر حركة عدم الانحياز، في نادي الصنوبر بالجزائر، تفسيرهما المنطقي!
***
تعود صلتي المباشرة بالثورة الجزائرية، إلى لقاء بعض أفراد البعثة القضائية الموريتانية (قضاة تونس) بشيخ جزائري ثائر، من أتباع الشيخ عبد الحميد ابن باديس، يدعى نعيم النعيمي. وذلك سنة 1961في تونس، التي احتضنت ثورة الجزائر، وآوت حكومتها المؤقتة، وثوارها ولاجئيها!
كنا والشيخ ننتمي للمدرسة الأصلية، ونحمل هم الانعتاق من الغرب، ونحلم بالحرية. . فتجندنا معا في مؤازرة الثورة. ومن منجزاتنا، يومها، إصرار بعضنا على حضور موريتانيا الوليدة، في الاستقبال الفريد الذي خصصته تونس كلها لـ “الأحرار الخمسة”! فانضوينا، صحبة الشيخ الشاب محمد سالم بن عدود، تحت علم جزائري وآخر موريتاني من تصميمنا، وحملنا إلى بن بلله ورفاقه الأحرار باقة زهور منضدة بألوان علمي البلدين.. وقد حملت فكر وذكر تلك الثورة إلى بلادي، وسميت أخي الأصغر أحمد بن بله وابنتي البكر جميله بوحيرد!
***
أقلعت طائرتنا من مطار نواكشوط في الساعة الأولى من صباح يوم السبت 24/1/03 متجهة إلى الجزائر العاصمة.
لست أدري أكانت نفس الطائرة التي أقلتني إلى ذات الوجهة، منذ أزيد من ربع قرن، أم هي أختها الصغرى، أو ابنتها، أو حفيدتها؟
أوليست المادة أقوى وأصلب وأبقى من الإنسان؟ لذلك قال الجاهليون: “ليت الفتى حجر”! وفزِعت حضارات بابل ومصر إلى الحجر أملا في الخلود! واقتفى آثارها اليونان والرومان وغيرهم!
أما نحن، أمم الصحراء، فلنا رأي مغاير بحكم بيئتنا!
ألم ير ابن الكصري، مثلا، في رائعته “كلحمد”، وهو يحاور وادي لمريفك، تطابق أمده وأمد الوادي! بينما ذهب ابن مكين، وهو يندب وكره الخالي في “عيربات”، إلى أبعد.. مرجحا طول أمد الإنسان الذي عاش حتى وقف على الأطلال! وقبلهما صاحب التكفايه!؟ وكنت كتبت بدوري، سنة 84، في مقالة عن التصحر:”مأساة الإنسان أنه يعاني، عاجزا حتى الآن، معضلة فنائه! أما إنسان الصحراء فيعيش مأساتين: إنه يفنى. ويواجه، أيضا، فناء صنوه الطبيعة بوتيرة أسرع من وتيرة فنائه!”
.. لذلك، لا يلجأ إليها، بل يلجأ إلى الكلمة، سببا للبقاء والخلود!
***
مهما يكن من أمر.. كانت طائرتنا من نفس الطراز، وتابعة لنفس الشركة، وبها نفس الديكور، ونفس الخدمات، رغم مرور نحو ثلاثة عقود!
وفي المقابل كان الفرق شاسعا: فالفتى الثائر الخارج، يومها، من نزال ست سنوات أطاحت باتفاقيات التبعية لفرنسا، والفرنك الإفريقي، ودولة ميفرما، وأطلعت فجرا جديدا (سياسيا واقتصاديا واجتماعيا وثقافيا) توشك أن تعصف به عواصف الصحراء الهوجاء! ذلك الفتى.. أصبح كهلا، يمتهن القانون، ويعشق العدل، ويعتنق الشرعية! تماثل واحد يجدر التنويه به هنا: في تلك الرحلة، اعتمرت، للتمويه، لمة سوداء داكنة جعدة مستعارة. وفي هذه، ألبستني الليالي لمتها الخلقة الشمطاء!
في رحاب الشهداء
من أين جاء اقتراحي لإنجاز مهمة كانت، في نظرهم، تكليفا لا تشريفا: قيادة أول وفد موريتاني إلى الجزائر، للمشاركة في احتفالات أول فاتح نوفمبر في ظل الاستقلال؟ لم تكن توجد يومها علاقات ديبلوماسية بين البلدين، فاتخِذَتْ صيغة إرسال وفد باسم رابطة الشباب الموريتاني، وإن لم أكن عضوا فيها! كان عمر استقلال الجزائر خمسة عشر شهرا، وكانت في حرب مدبرة ومدمرة مع المغرب، أضافت إلى مصائبها مصاعب جديدة، فتكسرت النصال على النصال. رفيقي في الرحلة رجل من الشعب لطيف ظريف هو المرحوم خطري بن باب حم النائب آنذاك في البرلمان. ليست لدي فكرة عن مصدر التذاكر، ولا عن تكاليف السفر، ولا حتى عن الطريق الذي سلكناه! ما أتذكره جيدا، هو استقبالنا في مطار الجزائر، مساء، من طرف الأستاذ توفيق المدني رحمه الله. وكان يومها وزيرا للأوقاف في حكومة الرئيس أحمد بن بلله، ويرئس وفد استقبال قاطن في المطار ليل نهار. ورغم أن الرجل قد تجاوز الستين، فإنه كان يرتدي الكاكي، كباقي أعضاء القيادة، ويثب، كالشبل، من أرائك قاعة الشرف، بين حين وآخر، كلما أعلن وصول وفد، من وفود العالم التي تحج حرم الثورة.
شاركنا في الاحتفالات، واستقبلنا من طرف الرئيس أحمد بن بلله!
ومن أهم الوقائع التي أتذكرها أيضا:
• عرضا عسكريا شارك فيه الكولونيل بومدين قادما من الجبهة، وكانوا يسمونه، قي ذلك الوقت: الغول، تعظيما؛ وذلك الحفل الذي أقيم، عشية فاتح نوفمبر، في قاعة سينما متواضعة، بحضور الرئيس أحمد بن بلله، وألقى فيه شاعر الجزائر مفدي زكريا قصيدة رائعة لا أزال أحفظ مقاطع منها، من بينها:
لوجهك ـ بعد الله ـ أعنو وأسجد… وإياك يا شعب الجزائر أعبد
وبوركت تربـا ضم مليون خالـد…كأنك من أرواحهم تتوقـد
إلى أن يقول مخاطبا لجنة التحكيم في النزاع الحدودي، التي تشكلت، للتو، بمبادرة كريمة من دولة مالي:
وإن تسألوني في الحــدود فإننـي… سألتكـم بالله ألا تحـددوا
ذروهـا كماء البحر.. ما في عبابـه حـدود.. ولا خصم به يتوعد
ثم يعرج على هموم الثورة، والأمل في القيادة، فيقول:
ومـا خاب فلك يهتدي بدموعـه إذا كـان ربـان السفينة أحمـد
• لقاء أجريته مع السيد العفيف الأخضر أحد قادة اليسار الجزائري، وصاحب جريدة الثورة والعمل الناطقة باسم عمال الجزائر. وقد نشرت لي جريدته رسالة مفتوحة، وجهتها إلى الرؤساء جمال عبد الناصر، وأحمد بن بلله، وعبد الله السلال، طالبا منهم إنقاذ موريتانيا من عزلتها، وضمها إلى العالم العربي المتحرر، ونشرت مع الرسالة كاريكاتيرا للثلاثة وهم ينتشلون موريتانيا من هوة سحيقة.
• مقابلة مع شاعر الجزائر الكبير مفدي زكريا، حدثني خلالها عن قصته الغريبة مع الشعر. وملخصها أنه كان تاجرا، ولما اندلعت الثورة، واحتدمت معاركها، تحولت بضاعته أبيات شعر وقصائد عصماء! فالتحق بالثورة، وغنى لها أعذب أناشيد حدت ثورة عربية، كان زهرتها النشيد الوطني الجزائري:
قسما بالنازلات الماحقات والدماء الزاكيات الطاهرات
والبنود اللامعات الخافقات في الجبال الشامخات الشاهقات
نحن ثرنا فحياة أو ممات وعقدنا العزم أن تحيا الجزائـر
فاشهدوا.. فاشهدوا… فاشهدوا…
نحن جند في سبيل الحق ثرنا وإلى استقلالنا بالحرب قمنـا
لم تكن تصغي فرنسا إذ نطقنا فاتخذنا رنة البارود وزنــا
وعزفنا نغمة الرشاش لحنا وعقدنا العزم أن تحيا الجزائر
فاشهدوا.. فاشهدوا… فاشهدوا…
صرخة الأوطان في ساح الفدا اسمعوها.. واستجيبوا للنـدا
واكتبوها بدماء الشهــدا واحفظوها لبني الجيل غـدا
قد مددنا لك يا مجد يـدا وعقدنا العزم أن تحيا الجزائر
فاشهدوا.. فاشهدوا… فاشهدوا…
يا فرنسا قد مضى وقت العتاب وطويناه كما يطوى الكتاب
يا فرنسا قد أتى يوم الحساب فاستعدي وخذي منا الجواب
إن في ثورتنا فصل الخطاب وعقدنا العزم أن تحيا الجزائـر
فاشهدوا.. فاشهدوا… فاشهدوا…
وجمع شعر مفدي زكريا في ديوانه “اللهب المقدس” الذي اقتنيته قبل ذلك بسنتين من تونس، وقدمته، قبل استقلال الجزائر، حلقات في الإذاعة الموريتانية بمساعدة فني فرنسي، من أصل جزائري، كان يعمل بها يدعى روابح. و”للهب المقدس” دوره الأبرز في نهضة الشعر الموريتاني، خاصة لدى شاعرنا الأكبر أحمد بن عبد القادر. وقد زارنا مفدي زكريا في نواكشوط أثناء حرب الصحراء، وأحيا أمسية شعرية بدار الشباب، حمل فيها بشدة على نزار قباني، وعلى الشعر الحر الذي أسماه “بوليزاريو الشعر” رغم أنه يقرضه. وقد حاورته دفاعا عن المتهمين، وأثبت ليلتها براءتهما أمام الجمهور!
• الغنيمة التي جلبت معي من الجزائر! وتمثلت في حقيبة من الأشرطة، تحتوي ما لدى الإذاعة الجزائرية من الأغاني الثورية، المصرية، والجزائرية، كأناشيد الله أكبر، والوطن الأكبر، وهذه أرضي أنا، وقسما، وبني وطني، وكثير غيرها! وقد أخذ هذا الكنز طريقه إلى المستمعين، عن طريق إذاعة نواكشوط، بفضل السيدين روابح و الصحفي المرحوم خي باب شياخ، ليشكل قاعدة ثورة ثقافية عربية، اجتاحت المستمعين يومها، خاصة أثناء احتفالات الاستقلال التي جرت بعيد ذلك بأيام، وأثناء العطل والأعياد، ومنها ما استعذبه الجمهور، فصار يهدى في المناسبات، مثل نشيد بني وطني لعلية التونسية! (تعلم المطربة عليه الموريتانية أنها تحمل اسم عليه التونسية لكنها لا تعرف بالتأكيد كيف حصل ذلك، ولا من كان السبب!) وأغنية وردة التي جمعت بين الحب والثورة، والتي من كلماتها:
يا حبيبي ربع نادي الــــأنس ربع الذكريات
إنه مـأوى ذئــاب كدرت صفو الحيـاة
يا حبيبي لم أخــن عهدي ولا خنت هوايا
غير أن الحب أمسى ثورة بين الحنايـــا
سوف ألقاك مـع النـــصر بأعلام البشائــر
سـوف نبني عشنـا في ظل تحرير الجزائـر!
***
على ذكر دور الإعلام. فلحسن الحظ لم تكن لنا، يومئذ، تلفزة نسيء استخدامها كما هي الحالة اليوم! وحتى السينما التي كانت محدودة الانتشار ويملكها ويديرها أجانب كانت أجزل شكلا وأغنى مضمونا وأعف لسانا من تلفزة اليوم ومن سينمائه.. أما الإذاعة فكانت، على ضعف وسائلها، أداة توعية وتنمية! فبغض النظر عن برنامج محدود جدا موجه للمغرب، كانت بها برامج اجتماعية مستنيرة، كبرنامج “الحضارة والنظام في القرن العشرين” للمرحوم أحمد بن احميد، وأخرى أدبية، غنية، لا تخضع للرقابة، ولا تهدف إلى التدجين، غايتها صالح المجتمع، لا عبادة الفرد! وكان فيها صحفيون مقتدرون، شكلا ومضمونا، كالمرحوم خي باب شياخ والأستاذ محمد محمود بن ودادي والأستاذ محمد بن سيد إبراهيم! وكان يتم اختيار مسئوليها من بين النخبة المثقفة: أحمد بابه مسكه، عبد الوهاب الشيكر مثلا!