للمرة الأولي تخونني فراستي في معرفة الرجال؛ فقد كنت ملتزما بتقييم ثابت لمحمد ولد عبد العزيز علي أنه ليس أكثر من عسكري تعود علي الانصياع للأوامر فقط، وهاهو اليوم يستمتع بإعطائها لكل أحد علي نحو يشي بديكتاتورية في المهد تشيّـد علي ديمقراطية مشهود لها بالنموذجية.. إنه تصور لم يكن ليحول أو ليزول.
لقد كان لبغض الانقلابات (وعودا وشعارات والتزامات ، ومن ثم طغمة وفساد) دور كبير في تصميم تلك الخلفية من أننا لا نتوقع علي رأس أي انقلاب أكثر من عسكري طموح يريد أن يـُعبد، ولسنا بحاجة لدراسة سلوكه من أجل إظهار الاختلاف. ولهذا أضحي انقلاب 2008 كارثيا بالنسبة لكل شيء؛ وخاصة بالنسبة لهذه الحيثية بالذات، ثم بالنسبة للعودة بنا إلي عصر ممقوت: صراع عقداء الجيش الأقل مهنية علي السلطة، وتعارض ذلك مع مقتضيات المرحلة الانتقالية، ومع المكاسب التي تحققت بفعل النجاح الديمقراطي (طبيعة الانفتاح العالمي علي البلد، والاستعداد للتعاون الذي برهن عليه سيل التمويلات، والحظية في المجتمع الدولي، ولدي الرأي العام ولدي كبار الكتاب والمفكرين والصحف).. إنها عودة مدمرة إلي الوراء. ثم إنها غشاوة علي مسار محمد ولد عبد العزيز مهما كان مسلكه. ومن الشجاعة الاعتراف بأننا كنا نعرض صفحا عن كل قول أو فعل له، ونرميه وراءنا لأن همنا الكبير التخلص منه. وهكذا ظلت شعاراته تثير الحنق عندنا علي أنها مغتصبة من المعارضة شأنها شأن السلطة.. إنه ضابط صغير لم يكن معروفا ولا مؤهلا لهذا المنصب تماما وكسابقيه الذين خذلونا باستمرار بدؤوا طيبين وانتهوا جبارين. إنها نفس الأعراض التي توحي بعثرة الحظ التي تلاحق هذا الشعب علي نحو منتظم. ولهذا – وحتى بعد فوزه المخيب لكل آمالنا في الانتخابات- لم نجد غضاضة في الاستمرار في منحه نفس الوسام، وبشكل جاهز ولا يأتيه الباطل من بين يديه: عسكري متقلب، بالانقلاب أولا ، ومن ثم بتزوير الإرادات، لا توجد منزلة أخري للتفكير العميق أو استخدام ملكات العقل أمام هذه النتيجة. فقد تم تجاهل سنة كاملة من العمل الحكومي المعبئ للناخب وبصورة فعالة علي مستوي المفوضيات والمندوبية الجهوية للصيد، ومن النشاط الجماهيري الذي يقوم به محمد ولد عبد العزيز في المرحلتين كرئيس وكمرشح. فللمرة الأولي يلج الرئيس في أعماق الجماهير ويتعاطى معها ببساطة باحثا عن همومها الحياتية وأوجاعها اليومية، ثم أنها أيضا المرة الأولي التي يتم فيها تجاوز الوسطاء في عملية دعاية انتخابية جعلت الناخبين يستفيدون – في سابقة من نوعها- مباشرة من الأموال التي توزع في الحملة، ويتبادلون الالتزامات وجها لوجه مع المرشح في ثلاث مناسبات وعلي امتداد التراب الوطني. إن كل ذلك لا يضاهي السيطرة علي الخطاب السياسي، خاصة الخطاب التجديدي: الإصلاح، تجديد الطبقة السياسية، محاربة الفساد؛ ذلك الخطاب الإستقطابي الذي جندت له المعارضة نفسها طيلة العقدين الماضيين والذي سحب من تحت أقدامها دون أي تردد في منازلة سياسية مصيرية. إن النتيجة المباشرة لهذا العمل (الذي دعمته المعارضة مرة أخري بعدم وضع خيار المشاركة في الانتخابات في الحسبان) أدي إلي أن تغيرت الخريطة السياسية برمتها واستعاد عزيز قطاع الفقراء العريض والعمال المعدمين، ولم تعد هناك شعبية ثابتة لأي زعيم، ولا لأي حزب كما السابق. إنها – والحق يقال- تغييرات جوهرية في الخريطة السياسية لم نترو في حساب نتائجها. وحتى بعد انتهاء العملية الانتخابية لم يطرأ جديد علي أسلوب تحليلنا للوضع، فالتحول الذي شهده التعامل مع الإصلاح، من شعار انتخابي إلي برنامج حكومي، لم يعن لنا الكثير. ولم نكن مستعدين لتقييم الخطوات التي قطعت و مقارنة الفجوة بين ما تم تحقيقه وما يجب أن يتحقق انطلاقا من الظروف والشروط القائمة. وكنا نراوح نفس النقطة أو نقف عند نفس المنطلقات: عزيز لا يملك أية رؤية واضحة للإصلاح ولا المؤهلات ولا العمق الضروري للقيام بإصلاح مؤسسي ولا حتى الوقت، فهذا القيصر الصغير منغلق، ومزهو بنفسه، ومنشغل بجمع الحيوانات النادرة لإقطاعه في بنشاب، ويستخدم شعار الإصلاح في الوقت الذي يريد، خاصة من أجل تصفية خصومه السياسيين. ثم إنه يحتفظ بسيئين وأعداء تاريخيين للإصلاح في الواجهة. ولم نكترث بالخطوات التي قطعت بعكس تصورنا، ولا النتائج القيمة المترتبة عنها. فقد تم لجم المسيرين علي نحو صارم، بل انتقل التعامل مع المال العمومي من التسيب إلي الرعب الشديد. واستعادت الدولة أنفاسها في ما يتعلق بالبذخ في ميزانية التسيير، واسترجعت أموال طائلة من مراجعة مصروفاتها وملفاتها ومن إعادة التوازن بين ميزانيات التسيير والاستثمار، ومن تفعيل إدارات الضرائب والرقابة. ثم إن الإرادة السياسية أمست صارمة في ذلك الاتجاه. ومع كل ذلك مازالت جهودنا لا تنفك في اجترار صورة قميئة له، حتي نعرف ماذا نريد. إننا في الحقيقة نحبس الرئيس محمد ولد عبد العزيز في صورة مشحونة بالعواطف والضجر من الهزيمة. ولهذا أضحي من الصعب التفكير بموضوعية حياله. إنه عثرة أمام التواصل النزيه.
لقد شكل برنامج الرئيس محمد ولد عبد العزيز التلفزيوني المباشر حادثة رهيبة من حيث المدلول ومن حيث القيمة السياسية؛ فقد كان فرصة لا تعوض لأن ظهر علي حقيقته، فليس بديهيا أن تبتسم طيلة أربع ساعات وأمام جميع الأسئلة خاصة أمام صحفيين يسعون لكسب رهان التألق لقاء رئيس شاب أخذ نجمه في الصعود. لقد كان البرنامج من حيث المبدأ عملا غير مسبوق: رئيس يواجه معارضة واسعة ويجلس أعزل علي التلفزيون القومي. والأهم من كل ذلك أن البرنامج صمم علي نحو انتزعت منه الدعاية نهائيا، فلقد كان الصحفي المحاور رئيس برنامجه بحق ويديره بمهنية عالية، متحللا من الإطراء والتكلف، كما لم تهجم شعبية الرئيس علي موزع الصوت لتطالعنا باللغة الخشبية المقززة من التمجيد والتزلف. كما لم يشعر المشاهد بأي حفاوة بالرئيس عن ضيوفه فباستثناء ذلك القلم الذي يحمل ماركة mont blanc الشهيرة الذي يدون به الرئيس معلوماته، كانت الطاولات والمقاعد نفسها، وكان الرئيس ضيفا اعتياديا، بل فريسة للصحفيين والجمهور ومن دون معاونين, فلم تقطع شهية المشاهدين تلك الحركات المتكلفة للأطقم المألوفة في مثل هذه المنسبات. لقد كانت الأجوبة تشي بأن الرئيس غارق في كل التفاصيل بشكل يصعب معه تغييبه، بل أظهر قدرا من الدراية بالخلفيات علي نحو يرمي من ورائه إلى أنه هو من وضع تلك السياسات. لقد برزت شخصية محمد ولد عبد العزيز في هذا اللقاء كرئيس كامل السلطات ويفكر لما بعد الكرسي؛ فقد تضمنت بعض أجوبته براعة سياسية فاجأت بعض المراقبين، فمثلا نفى الحرب مع القاعدة، معتبرا أنهم يواجهون جماعة من القتلة لا تحمل أي آراء ولا تصورات، وكذلك الرسالة المشفرة الموجهة إلي فرنسا فـ”الفرنسية مثل الإنجليزية لغة انفتاح ولا داعي للتأجيج”، الاعتراف بفساد القضاء، وغيرها من الأجوبة. لقد كشف هذا البرنامج -الذي لم يكن هناك تواطؤ بشأن إعداده لا من حيث أسئلة الصحافة ولا من حيث تدخل الجمهور- أن هناك انفتاح كبير علي الرأي العام ، وأن الاستعداد قائم لنقاش كافة قضايا الوطن.
لقد أضحي واضحا أن محمد ولد عبد العزيز ينطلق في جميع أجوبته في هذا البرنامج من خلفية الإصلاح. ومهما كان تفسير الدوافع، فإن هناك أمرا لا يمكن إغفاله هو أن هذا الأسلوب جديد في عمل الرؤساء الموريتانيين . لقد كان هذا البرنامج مناسبة لكي نتخلص من تلك الصورة النمطية لمحمد ولد عبد العزيز ونتعامل مع الأحداث في سياقها الموضوعي . ثم إنها مناسبة لدعوة القوي الوطنية لأن تلتحم في جعل الإصلاح خيارا نهائيا لا يمكن إجهاضه ولا التراجع عنه بدعمه وتوكيده وبالوقوف أمام عودة السيئين إلي تحريك دفة الحكم وإحباط جهودهم.
محمد محمود ولد بكار