يبدو أن الحكومة الحالية لا تتعرف على الناس إلا في حدود أنها تستغلهم ،فأمام الفشل في التصدي لآثار الأمطار الطوفانية من تهدم للمنازل وللسدود وللبنية التحتية الضحلة أصلا ونفاذ المخزون الغذائي وضياع الأمتعة وتزايد احتمال الأوبئة …،أظن أنه لو كانت لدينا أدوات قياس واستطلاع حقيقية للرأي العام في بلدنا لكانت علامة الحكومة على هذا المقياس في أدنى مستوياتها،فالحكومة اليوم في تقديري هي عبئ ثقيل ليس على المواطنين فحسب وإنما على القيادة السياسية.
فهي تعتاش في وجودها على التصريحات وعلى إدعاء العمل على تنفيذ رؤى رئيس الجمهورية( و إخفاق الحكومة في تحضير انطلاقة مشروع هام بحجم حزام الأمان الأخضر مؤشر على طبيعة إدعاءات الحكومة).، لقد أصبت بالدهشة والاستغراب حين وصف أحد الموظفين الهامين التدخل الباهت لإدارته بعد السيول الطوفانية ( والذي أتسم – في تقديري – بالضعف والمحدودية والانتقائية ) بأنه – والتعبير له – “أتحمجية” للفقراء والمظلومين.
ورغم الظلال المزعجة والقاتمة لهذا التصريح في ظل دولة تروم أن تكون دولة للمواطنة وللحق والقانون والشفافية وتحلم نخبها ببناء نموذج حكم أكثر شرعية وعقلانية وتحديث ،إلا أنه مثل محرضا على ما بدأته في مساهمتي الماضية حول نقد أداء حكومتنا ومحاولة التذاكر حول أوجه الخطأ في الأداء والرؤية والفشل في تجسيد قرارات القيادة السياسية ،أنا أعرف أنه لا يمكن للحكومة أن تتبنى سياسية النعامة فتدفن رأسها في الرمال دوما – بالرغم من الدعاية المغرضة التى ترتكبها في هذه الأثناء من خلال وسائل إعلامها الرسمية -،وكغيري اعرف أن المشاكل العويصة التي تواجه الدولة والمجتمع في موريتانيا – بغض النظر عن الأزمات الطارئة – هي ذات طبيعة بنيوية وهيكلية ولذا يجب عدم المراهنة على عامل الزمن لحلها فالزمن عنصر محايد في بناء الدول لابد من اعماره بالنظر والعمل ،بمعني آخر لا بد أن توجد رؤية واضحة تتعلق بعناصر محددة تكشف:
أولا مظاهر الخلل والقصور والتراجع والضعف في الدولة ، وبشكل أكثر سذاجة ما هي المشكلات المجتمعية في الاقتصاد والإدارة والمال والأمن والقضاء والتربية والتعليم والإعلام …إلخ؟
ثانياما هي الإمكانات القائمة بشريا وماديا وتقنيا وفنيا وعلميا … أين النقص وكيف يسد وما هي الحاجة؟
ثالثا ما هي الأهداف ، والفرص ، والعوائق ؟
رابعا على أساس ما سبق ما هي الخطط المتاحة ؟ وما هي البدائل والمداخل المناسبة للتعاطي المحكم مع التحديات المختلفة؟
خامسا اختيار الخطة الأمثل والعملية، ذات الموارد و الأهداف الواضحة والمواقيت المحددة ، والعمل على المراقبة ومساءلة الأداء والنتائج.
وأعرف أن السؤال الذي قد يتبادر إلى الذهن هنا هو: أن هذه الرؤية المشخصة للأمراض المزمنة لواقعنا الوطني والمقدمة للحلول النظرية والعملية ، من ينظر لها ويتصورها؟ ومن ينفذها ؟ وما هي سماتها؟ وعلى أهمية التساؤل ومركزيته إلا أننا سنحاول توضيحه بشيء من التفصيل في خاتمة هذه المساهمة.،ولكن قبل ذلك يجب الاتفاق على أن هناك – غالبا- قصور يطال تصوراتنا وبرامجنا المجتمعية المقدمة من الحكومات المتعاقبة ومن مختلف القوى السياسية المتصدية للشأن العام ، وحتى من المنظرين لفلسفة البناء الوطني – على قلتهم – فتلك التصورات يغلب عليها الطابع الوصفي والإيديولوجي في حديثها عن الأزمة وغالبا ما تقفز على الأحلام والأهداف . وهو ما يؤدي إلى إغفال الخطط السياسية والتنموية للتغيير وللوصول للأهداف. ولكي لا يظل الكلام هنا نظريا فسنضرب مثالين الأول، يتعلق بطبيعة البرنامج الحكومي الذي هو أهم أداة تنموية في يد الحكومة والذي فشل في أن يمثل خطابا اقتصاديا واجتماعيا متماسكا . والثاني، فشل الأداء الحكومي في تطبيق القرارات، فالمتمعن أولا: لبرنامج السياسية العامة للحكومة يجده مجموعة من الإجراءات والتمنيات السعيدة والدعاوى المتعلقة بسياسات غير متناغمة ولا متكاملة ، فضلا عن كون الحلول المتصورة تتسم بالبساطة والارتجالية، وعدم الاستفادة من تطورات العصر والتجارب الناجحة في العالم.، فضلا عن الفشل في استلهام نموذج خاص ونابع من الواقع الوطني، ولذا لا يمكن أن نعثر في برنامج الحكومة على تصور متكامل ومحدد للتنمية يدعي بأنه يمثل خيارا وطنيا واضحا وخاصا . بل إن الحديث عن خيار ونهج تنموي وطني منبثق من الحاجات والواقع الملموس والخصوصية ينظر إليه بأنه “يوتوبيا ” حالمة ،لغياب التأمل المدروس حول المصاعب التي تواجه الدولة والمجتمع. لذا أصبحت النظرة العامة للسياسة الحكومية تشبه تسيير سوبر ماركت كبير ومفلس، وليس دولة! المهم أن الحكومة لديها مداخل ريعية من بيع الثروة الوطنية، ولديها الاستعداد أن توبقها مؤسسات الدين العالمي (ما يعرف بمؤسسات النقد الدولي والشركاء الدوليين) مما يجعلنا نتساءل عن الخطط والبرامج التي تستهدف ترشيد الثروة ومراكمتها ،وعن حجم الموارد الحقيقية التي نمتلكها وكيفية إدارتها بشكل امثل؟ وعن القطاعات الإستراتيجية التي ستقود قاطرة ونهج الإصلاح التنموي؟ وما السقف والمدى الزمني لاختبار السياسات وتحقيق الثمار؟ وكيف نجند جميع الطاقات للعب الأدوار المرسومة بدقة وتشاور؟بالخبرة ندرك أن أي حديث عن إبداع أساليب جديدة وأكثر استقلالية في المجال الاقتصادي والاجتماعي يمثل موبقات لدى الحكومات الضعيفة.، ولكن المعطي الإيجابي اليوم أنه قد أصبح لدينا وضوحا نظريا على الأقل لمجمل أزماتنا البنيوية ، وذلك لطول معايشتنا لدولاب التخلف من جهة ، وبفضل إستراتيجية المكاشفة التي تبناها رئيس الجمهورية منذ ترشحه حتى الآن من خلال الأرقام ووضع اليد على مكامن الفساد والخلل، وهي سياسة مغايرة لما عهدناه من التستر على مظاهر القصور، ولذا نقول وبدون مجاملة بأن القيادة السياسية اتخذت القرارات المناسبة ، والتي كان يتعين تطبيقها من طرف الحكومة وبالسرعة المطلوبة، وعلى الجهاز الحكومي – القادم – كجهاز تنفيذي أن يدرك رمزية القرارات المتخذة وواقعيتها وأن يعمل على بناء البرامج وحشد الطاقات ورسم الخطوات الدقيقة والواضحة لتنفيذها.فمثلا أوضحت تطلعات الرئاسة في مجال الاكتفاء الذاتي وعلى أسس جديدة ومغايرة كما شرح رئيس الجمهورية في لقاءه حول ” الحملة الزراعية” ،وكذا السياسة المعلنة من الرئيس حول أهمية التدريب المهني.،وحول الأمن لملأ الفراغ في منطقة الظهر وتأكيد حضور الدولة … ،وافتتاح حملة للتشجير ( رغم القصور المشين للحكومة في الإعداد والتحضير الذي رصده الإعلام المستقل).
كلها أمثلة على أن القيادة المنتخبة تعيش هاجس التعاطي مع التحديات الكبيرة التي في مقدمتها الغذاء والأمن والتشغيل والبيئة ……،وهي توجهات كان على الحكومة أن تدرك أهميتها لتحقيق التنمية المستدامة فالتكامل بين النمو وتحقيق الأمن والحفاظ على البيئة شرط جوهري لقيام التنمية، فحين نثمن هذه التوجهات لا بد أن ندرك أهميتها بالنسبة للمواطن من جهة ونرصد من جهة أخرى وبكل وضوح التقصير الحكومي ،والذي عجز عن تبني الإصلاح كمطلب أساسي ،و الذي كشفت التحديات الأخيرة فشله في التعاطي مع المواطنين بشكل حقيقي وجوهري .
لذالك ندعو وبكل شفافية ليس إلى مراجعة آلية العمل الحكومي في المجال الإداري ،وإنما التدخل في عمق هذا العمل للوقوف على مدى صدقية توجهاته ووثوقيتها ومدى ملاءمتها، قبل فوات الأوان ، أي لابد من المراجعة بعد كل تطور وتحدى يواجه السياسة العامة للدولة، وبالطبع من السذاجة انتظار الحكومة لتأتي بكل روح صوفية وتقول بأنها أخطأت ، فالشعب ليس في ميزان الحكومة ، والأولى لدى الحكومة هو القدرة على المناورة …، وإنما واجب الإعلام وواجب النخب الوطنية أن تجعل الحكومة تعتذر وتراجع أداءها بما يخدم المصالح الحقيقية للمواطنين. ففي ظل الحكومة الحالية – وفي أي وقت – هناك واجب كبير على عاتق كل مثقف ملتزم وكل إعلامي حقيقي وكل الدارسين والأكادميين والخبراء والعلماء المستنيرين ، أن يرفعوا أصواتهم لصالح الشعب وأن يطلعوا صانع القرار على واقع وآلام المواطنين وكشف الضعف والقصور في المقاربات الحكومية ، فالنخب الحقيقية هي التي تنذر نفسها للتعبير عن مواطنين قعدت بهم الأمية وضعف الوعي عن احتلال موقع “المواطنة “للمطالبة بحقوقهم ومساءلة الحكومة وردعها عن خداع الشعب. فالإدارة الحكومية اليوم بحاجة ماسة للمراجعة والتقييم .
هذا فيما يتعلق بملاحظاتنا الأساسية على الأداء والتصور الحكومي ، أما فيما يتعلق بالتساؤل حول الجهة المخولة بالنظر وإعداد التصورات الكبرى ؟ والتنفيذ؟ وعن سمات هذه الرؤية العامة للإصلاح ؟ فنستأذن القارئ الكريم لتأجيله خوف الإطالة على أن يكون موضوع معالجة قادمة – إن شاء الله- المهم من خلال هذه العجالة هو أن الأمثلة والأحداث دالة وكاشفة لضعف الجهاز الحكومي في تعاطيه مع كثير من التحديات ،وهو ما عنى فقرا ملحوظا في الرؤية والأدوات (السياسات)، وعدم الشفافية، وهو وضع يدعونا كمجتمع للتكاتف في إطار المسؤولية الجماعية وتضافر الجهود للخروج من مأزق التنمية ومن دوامة التخلف قبل أن يقضى على ذماء الحياة في هذه الأرض الغنية بإنسانها وبثروتها وتعايشها وبتاريخها وموقعها وثقافتها،ففي النهاية ليس خيار التنمية الشاملة والناجحة خيارا مستحيلا ، فقناعتي أن التنمية ليست لغزا حين نعي كنهها والذي هو نسق من الإرادة والإدارة ، يصدر عن رؤية عامة ومحكمة- أي حين تكون الإرادة متسلحة بمزيج من الرؤية والعمل- الإرادة لدى من يملكون القرار بمختلف مستوياته (رسميا وأهليا) ،وإدارة للمجال العام من خلال إنفاذ تلك الإرادة في تمظهراته وشياته المختلفة.