لا و لن أخفي إعجابي الكبير بما يصدر بين سانحة و أخرى عن مفكرنا القومي العربي الكبير و كاتبنا الحائز على احترام و تقدير الكثيرين الاستاذ محمد يحظيه ولد ابريد الليل ، رغم أن المرات التي التقينا فيها كانت محدودة ، و منذ سنوات ، خلال مشاركته ضمن المائدة المستديرة للأساتذة العرب بدعوة من جامعة ناصر الأممية سابقا في طرابلس بالجماهيرية ، و بدعوة من الأستاذ الدكتور ابراهيم أبو خزام رئيس الجامعة ، و كان مرافقه في نفس المناسبة الأستاذ أحمد الوافي رئيس منتدى الفكر و الحوار الديمقراطي بموريتانيا . و كانت مداخلات الأستاذ ابريد الليل و تعقيباته موضع استحسان و محل قبول و إعجاب من العديد من المفكرين و المثقفين العرب من مختلف الدول و الجامعات العربية داخل الوطن العربي و خارجه.
ثم إن تلك اللقاءات النادرة على هامش اللقاء الفكري في جناح الأستاذ أحمد الوافي بالفندق الكبير أتاحت لي الاقتراب أكثر من هذا الطود الشامخ فكريا و قوميا و أخلاقيا.
و منذ ذلك الوقت بتُّ أتابع – باهتمام – المقالات و التحليلات المتميزة التي يكتبها الأستاذ في غير ما مناسبة مثيرا جدلا لا يكاد يتوقف حتى يبدأ من جديد .
و لعل ما أدلى به ، مؤخرا ، من حديث مع الخريجين من نادي التلاقي قبل أيام، أثار أيضا تساؤلات ، و ربما استدراكات أو تعقيبات أو انتقادات مضمرة أو ظاهرة لدى البعض استمرارا لنفس الأثر الذي تخلفه – عادة – كتابات الأستاذ لدى النخبة و الكتاب و المثقفين و الاعلاميين في بلادنا .
و كان من حسن الطالع طرح التساؤل ، ربما الأزلى ، عن ” الدولة الوطنية ” في منكبنا البرزخي ، و لا أظن الأستاذ قد جانب الصواب بإشاراته الناطقة إلى القلق المتنامي نخبويا و سياسيا على مصير كيان دولة لم تكن بشكلها الحالى ، على الأقل – من صنعنا – بل تمت بإرادة “ديغولية !” لايماري فيها .
غير أن ذلك لا يغفل حقيقة أن مؤسسي تلك الدولة أو متداولى كرسيّ حكمها طيلة العقود الخمسة الماضية ، ومن شايعهم من نخب تنتسب ، حقيقة أو ادعاء ، إلى الثقافة و السياسة ، هم ربما من يتحمّل جزء ، رئيسيا ، من عبء المسؤولية التاريخية و الأخلاقية المولّدة للقلق على المصير الذي أشار إليه الأستاذ!
و قد عاصر الأستاذ و أترابه ميلاد جيل كان يرى في مجرد ” تأسيس!” الدولة هدفا بحد ذاته . إلا أن الجيل الحالى يتساءل – بقوةٍ – عن ماذا قدّمت له في مجالات التعليم و الصحة و غيرهما . جيل عيونه على ” آخرين ” و ” دولهم” ، و مولع بالتقليد و المحاكاة حتى ولو بالمفهوم الخلدوني لعلاقات الغالب بالمغلوب!!
و إن هذا الجيل القلق ، ربما يكون متأثرا سلبيا بتداعيات تدخّل مؤسسات بريتون وودز في رسمها لــ”حدود” و “سياق” دور الدولة في مجتمعات كمجتمعاتنا في عالم الجنوب..فهل تكون دولة متدخلة أو مجرد دولة الحدّ الأدنى ..أم هي دولة في وارد طرحها هي ذاتها للخوصصة..إن الدولة باتت موضع تساؤل يكبر مع الزمن !
كما أن التوظيف التاريخي لبعض المحطات المهمة في المخيال الجمعي للموريتانيين ( حركة المرابطين ، التجارب الأميرية ” أولاد امبارك ” و ” رمزية الشيخ ماء العينين”..) للإيحاء التبريري لمسألة ” البناء المائل ” للدولة هو مسألة جديرة بالاهتمام و ربما تسعّر جولات متجددة من الجدل السياسي ، غير أن الانزياح الشمالي للمرابطين ، و الانزياح الجنوبي لأولاد امبارك ، و الهجرة الشمالية للعلامة الشيخ ماء العينين … مثلما أوضح الأستاذ هو- برأينا المتواضع – مسألة تتنزل في عمق التشكل للدول و السلط الزمنية في الفضاء الساحلي الصحراوي و التدافعات الحضارية لتبادل منابع التأثير شمالا و جنوبا و بالعكس ضمن مجال حيوي واحد لمجموعات بشرية أكسبتها السنون مزيدا من تشابك المصالح و تعاقب الأدوار و توزيع مغانم و مغارم حركة التاريخ البشري.
إلا إذا كان في عرف الأستاذ أن ” المغرب الاقصي : مراكش ” ، أو ” باغنة” وحتى ” كارطه ” هي مناطق خارج النسق الحضاري لسكان هذه الأرض تاريخيا ، على الأقل منذ تجذّر الاسلام و التزاوج الحضاري بين الاسلام و الثقافة العربية مع الروافد البربرية و الزنجية في افريقيا.
و أمام التساؤلات الجدية حيال مصير الأوطان التي باتت في مرمى التفكيك إلى أطر ما قبل الدولة نفسها . حيث مراحل البناء و التغيير التي تنوء بها التنظيمات الأسرية و القبلية و العشائرية الضيقة ..مما يرجع بحسب البعض إلى الشعور المتعاظم بأن ” الدول ” في تشكلاتها و تمظهراتها لا تعطي تمثيلا صحيحا للمجتمع الذي يفترض أنها تمثله .. مما يتطلب رجوعا إلى نقطة الأصل ( بلغة أهل الرياضيات) ، ليس بتفكيك و إعادة تركيب . بل بخلق حالة إجماع وطني حقيقي وليس افتراضي على الدولة وكل متعلقاتها من شعار و رموز و وثائق مرجعية من قوانين و لوائح ودساتير ، وذلك من أجل أن تبني بناء ” سليما = مستقيما ” و ليس ” مائلا” !!.
إن دولة تمثل مجتمعها حق التمثيل هي دولة مدعومة و مسنودة برافعة أبدية صنعتها إرادة المجتمع بكل مكواته و أطيافه و تنوعاته .. و هذا هو رهان المثقفين ” الصميميين ” ، إن جاز الوصف ، أولئك الذين أشار إليهم الاستاذ في نهاية مقاله ، و أهاب بهم ليعاكسوا التفكير السائد حتى لا يتحول المجتمع إلى قطيع ضأن!..
و في نهاية هذه الحاشية من المهم التنبيه إلى أنه لا يعقل استمرار نخبتنا الفكرية و السياسية في دأبها إنتاج الخيبة السياسية و محاولات دونكيشوتية محمومة لوضع الحصان أمام العربة دائما ، و تماهيها الأسطوري مع الدول المتعاقبة في زمننا السياسي منذ ما قبل تأسيس الدولة الحديثة حتى الآن ، و بلغت الأمور أوجها في قلب الحقائق و طعن المصداقية في مقتل ، و في سبيل الجلوس على كرسي الحكم فلا قيمة لأي إنجاز وطني للعامة و ليس للخاصة وخاصتهم ، من تأسيس الجامعات و المعاهد الفنية و المتوسطة و تعيين أئمة المساجد و منحهم رواتب شهرية وطباعة المصحف لأول مرة على حساب الخزينة العمومية ..و تحسين البنية التحتية و القاعدة الهيكلية لأية تنمية جادة ..رغم أن هذا ما كان ينبغي أن يكون منتهى ” إنجاز” أية سلطة تحترم نفسها ، بعد تبديد جهود و عرق و موارد محدودة و ناضبة طيلة خمسة عقود ذهبت زبدا جفاء لم ينفع الناس.
وخلال تلك المراحل اتسمت الوضعية بأن أية سلطة جاءت تلعن أختها السابقة و تسير على خطاها بمزيد من الهدر و التبذير..وكان ذلك من دواعي إنتاج القلق و اليأس وطنيا..و قد آن الأوان لإسدال الستار على الممارسات التي يدّعي الجميع ، أحيانا دون إثبات ، أنه يناقضها .. و ليتلاقي الجميع على كلمة سواء لحماية الدولة و تقوية أسسها و أركانها موالاة و معارضة … وأتصور أن هذه هي الرسالة التي أبلغها الأستاذ محمد يحظيه ولد ابريد الليل لخريجي نادي التلاقي الذين خاطب فيهم الدولة و نخبتها و مجتمعها ..فهل تراه أوصل الرسالة بوضوح ..أم أن الجدل سيظل مستمرا حتى إشعار آخر خصوصا في شعب رزق الجدل دون العمل. و الله المستعان..اهـ