هدوء تام في أروقة مطار محمد الخامس الدولي، لا رحلات ولا مسافرين، فالمطار الذي كان نقطة عبور مهمة في شبه المنطقة، تحول بسبب جائحة «كورونا» إلى مكان شبه مهجور، فأغلقت محلاته ومطاعمه ومقاهيه، واحتلت ملصقات التحذير من الوباء مكان أغلب ملصقات ترويج السياحة، واختبأت الوجوه الضاحكة للعاملين فيه وراء الكمامات وقطع البلاستيك، وعم الهدوء المكان، لا تشقه سوى همسات مضطربة لعشرات المسافرين الموريتانيين يستعدون للعودة إلى بلدهم، في رحلة استثنائية بدا أنها الوحيدة ذلك اليوم في مطار لم يكن يعرف الهدوء من قبل.
لقد تغير السفر في زمن «كورونا»، وتلاشت متعته لصالح الخوف، وأصبح الحذر هو سمته البارزة، حتى أن أحاديث المسافرين هي الأخرى تغيرت، فالموريتانيون الذين تقاطروا مع ساعات الفجر الأولى على مبنى السفارة في العاصمة الرباط، كانت أحاديثهم مليئة بالمعلومات المتضاربة حول طبيعة الرحلة وملامح السفر الجديدة.
بعض المسافرين كان يحكي تجارب مواطنين سبق أن عادوا على متن رحلات سابقة، وكيف صعد أحدهم بحقيبته اليدوية على متن الطائرة، رغم قرار يحظر ذلك من شركة «الموريتانية للطيران»، بينما فضل آخرون الحديث عن هواجس الفحص السريع الذي ينتظرهم في نواكشوط.
نقلت السفارة المسافرين نحو المطار على متن حافلة، وسط احترام واضح لإجراءات التباعد الاجتماعي، وحرص المسافرين أنفسهم على ذلك وامتناعهم عن التصافح أو التقارب، فكانت هنالك مقاعد شاغرة تفصل المسافرين عن بعضهم، وعمال السفارة يراقبون الالتزام بذلك.
انطلقت الحافلة وانطلق معها المسافرون بالتكبير والتهليل والتعاويذ، وتحركت السبح في الأيادي، قالت إحدى المسافرات إنه مشهد يذكرها بالحج، قبل أن تضيف «إنه الخوف»، ولكن هذا الخوف سرعان ما تلاشى وعاد الهدوء واستسلم أغلب الركاب لسلطة النوم.
إجراءات بطيئة
بعد ساعتين كانت الحافلة تتوقف أمام بوابة مطار محمد الخامس الدولي، حيث توقف هدير الطائرات وغاب ضجيج السيارات، واختفت الطوابير التي كانت السمة البارزة قبل الجائحة، فقط هي رحلة واحدة متجهة نحو نواكشوط، وأخرى بعد ساعات نحو تونس.
الشرطي عند البوابة الثانية، يضع رجلا فوق رجل، منهمكاً في هاتفه ويلقي نظرة بين الفينة والأخرى على شاشة تلفاز يعرض الحصيلة اليومية للمصابين بكورونا في المغرب، فيما يراقب زميله شاشات فحص الأمتعة، ويحرص على قياس درجة حرارة كل مسافر، قبل أن يسمح له بالدخول.
تجمع المسافرون الموريتانيون في باحة المطار، يستعدون للعودة إلى بلدهم بعد شهرين من الإغلاق، وحدهم يعيشون لحظة الفرح، وبحضورهم أصبح مطار محمد الخامس يتحدث اللهجة الحسانية لعدة ساعات.
مرضى وطلاب وعائلات وتجار، جمعتهم طوابير يفصل بين كل فرد فيها مسافة متر عن الآخر، ولكن ذلك لم يمنعهم من تبادل الأحاديث حول الشهرين السابقين من الحجر الصحي، فتقول منى وهي طالبة في جامعة محمد الخامس بالرباط: «كانت فترة صعبة جداً، قضيتها وأنا أعد اللحظات والأيام حتى أعود إلى بلدي».
لم تصدق منى البالغة من العمر 25 عاماً، البيان الذي صدر من شركة الموريتانية للطيران عن تنظيم رحلات جوية لإعادة العالقين في الخارج، تقول إنها فور صدور البيان اشترت تذكرة وبدأت إجراءات العودة.
رغم قلة عدد المسافرين إلا أن إجراءاتهم أخذت وقتاً أكثر من المعتاد، بسبب الإجراءات الاحترازية الزائدة، التي فرضها عمال المطار بلباقة لم تفقدهم صرامتهم، ولكن هذه الإجراءات سرعان ما اختفت عندما صعد المسافرون على طائرة «الموريتانية للطيران».
كورونا يغير السفر
العاملون في شركة «الموريتانية للطيران» بالمطار، والمسؤولون عن ضبط الرحلة، كانوا بعد كل تدقيق في جواز أحد المسافرين، يعقمون أيديهم بمطهرات كحولية، ما زاد من الوقت المخصص للإجراءات، ولكنها ضوابط جديدة جاءت مع كورونا.
أما في مصلحة مراقبة الجوازت عند الشرطة المغربية فيبدأ تفتيش مختلف، فبالإضافة إلى تفتيش الأمتعة بجهاز الأشعة، أصبح المسافرون يمرون عبر غرفة صغيرة تلعب دور التفتيش، تفاديا للاحتكاك أو التقارب بين رجال الأمن والمسافرين، فالتباعد الاجتماعي يفرض ذلك.
كان رجال الأمن في مطار محمد الخامس يتسامحون مع كل موريتاني انتهت مدة صلاحية تأشيرة دخوله للبلد، ولكنهم مع ذلك يحصلون على إذن للخروج، باتفاق بين السلطات في البلدين، نظراً لظروف الجائحة وما سببته من شلل في الإدارات.
في صالة الانتظار، وعندما كان ينتظر عشرات الموريتانيين إقلاع الطائرة، بدأت هواجس الفحص السريع الذي سيخضعون له في العاصمة نواكشوط، بعضهم يخشى نتيجة هذا الفحص.
الساعة تشير إلى الواحدة زوالاً، بدأ المسافرون يتجهون إلى الطائرة، وفق ضوابط أخرى لابد من احترامها والمرور بها قبل الصعود على متن الطائرة، فعند بوابتها مضيفان يلبسان ملابس واقية، يضعان قناعا من البلاستيك، يوزعان الكمامات على المسافرين ويرشون لهم معقماً في اليد.
كورونا بقي في الأرض
يستغرب أحد المسافرين اختفاء الإجراءات بعد الصعود على متن الطائرة، وكيف تكدس المسافرون على المقاعد متحاذين لا تفصلهم سوى سنتمترات قليلة، وكأن الخوف من الفيروس بقي في الأرض عندما حلقت الطائرة في السماء.
مع أن اللجنة المشرفة على نقل المسافرين من السفارة إلى المطار حرصت على إجراءات التباعد بين المسافرين داخل الحافلة، وحرص عليها العاملون في المطار، ولكنها اختفت بشكل مفاجئ داخل الطائرة وطيلة الرحلة.
فقط حين أقلعت الطائرة، أضيفت نصائح سريعة للوقاية من العدوى إلى الإرشادات والتوجيهات المعهودة، مع دعوة المسافرين إلى الحد من التحرك غير الضروري داخل الطائرة، وتوزيع حلوى وقنينة ماء ولبن بدل وجبة الغداء.
نسي المسافرون الخوف من بعضهم البعض، وبدأت أحاديثهم تركز على الوضعية الوبائية في موريتانيا، وعدم فرض الحجر الصحي الإجباري على المسافرين، وهو قرار ارتاحت له سيدة وهي تقول: «الحمد الله سأتمكن من حضور حفل زفاف صديقتي».
في مطار نواكشوط
تهبط الطائرة في مطار أم التونسي وسط غبار كثيف يخيم على العاصمة وتكاد تنعدم فيه الرؤية، يتسابق المسافرون للخروج دون احترام للإجراءات الاحترازية، يحملون جوازات سفرهم واستمارات تابعة لوزارة الصحة تكتب فيها بيانات من ضمنها «العنوان ورقم الهاتف ورقم الرحلة ورقم المقعد».
يصطدم المسافرون في مطار نواكشوط بإجراءات أكثر صرامة وحزما من تلك التي مروا بها في مطار محمد الخامس، يقول أحد المسافرين مفسراً ذلك إن أخذ الحيطة والحذر من القادمين أولى وأهم من خطورة المغادرين، فكان رجال الأمن في مطار نواكشوط متشددين جداً في قواعد التباعد الاجتماعي.
المفارقة هي أن الكلمة النافذة في مطار نواكشوط الدولي تعود للأطباء، هم من يوجهون رجال الأمن ويفرضون عليهم قراراتهم، حتى وإن امتعض بعض رجال الأمن من ذلك، لكنها معركة الصحة أكثر من أي مجال آخر، يقول أحد المسافرين.
خضع الجميع بترقب شديد وخوف مذهل، للفحص السريع، أطفال يبكون، والجميع واجم ينتظر نتيجة فحص قد لا يحمل الخبر السعيد، الأطباء يتصببون عرقا في بدلات واقية من البلاستيك، ومع ذلك يلقون التحية على المسافرين قبل أخذ كل عينة.
يأخذ الفحص السريع من الوقت 15 دقيقة لكل عينة، ولكنه استمر لأكثر من ذلك بسبب عدد المسافرين، الذين تجمعوا في إحدى القاعات، وكان كل مسافر يتسلم نتيجة فحصه وجواز سفره ويغادر بسرعة المطار ليبتلعه الغبار المنتشر خارج المطار.