نصف قرن حكم خلالها السلطان قابوس بن سعيد سلطنة عمان، ليكون بذلك صاحب أطول فترة حكم بين جميع الحكام العرب والمسلمين في العصر الحديث، قبل إعلان وفاته في مسقط، بعد أن تردد مرتين مؤخراً على العاصمة البلجيكية بروكسل، لإجراء فحوصات.
فمن يكون هذا الرجل الذي حافظ طيلة عقود على هدوئه وحياد بلاده في منطقة تغلي منذ الأزل ؟.
ولد السلطان بن سعيد عام 1940 وهو وحيد والده السلطان سعيد بن تيمور، وأمه ميزون بنت أحمد المعشنية، وهي سيدة من خارج الأسرة الحاكمة، في مدينة «صلالة» عاصمة محاظفة «ظفار»، جنوب غربي البلاد بمحاذاة الحدود مع اليمن (جمهوية اليمن الحالية و”اليمن الجنوبي” سابقا)، وتطل مدينة «صلالة» على بحر العرب، وعرف أهلها وأهل عمان بأنهم ملوك البحار منذ قرون طويلة.
ينحدر «قابوس بن سعيد» من عائلة تحكم سلطنة عمان منذ القرن الثامن عشر، وتحديداً منذ العام 1744، وبالتالي فهي من أعرق العائلات الحاكمة في منطقة الشرق الأوسط والعالم، ويدعى والد قابوس «السلطان سعيد بن تيمور» الذي حكم البلاد في الفترة من 1932 وحتى 1970 عندما عزله ابنه قابوس في انقلاب أبيض وهادئ، توفي بعده بعامين في منفاه بلندن.
درس السلطان قابوس الابتدائية والثانوية في «صلالة» قبل أن يرسله والده عام 1958 إلى المملكة المتحدة حيث التحق بمدرسة خاصة هيأته لدخول (أكاديمية ساندهيرست العسكرية الملكية) عام 1960، والتي تلقى فيها تكويناً عسكرياً انتهى عام 1962 وتخرج منه برتبة ملازم ثانٍ، قبل أن يتلقى تدريباً ميدانياً في ألمانيا الاتحادية لمدة ستة أشهر.
وخلال الفترة من 1962 وحتى 1964 عاد «قابوس» إلى المملكة المتحدة ليتدرب على إدارة وتنظيم الدول، ثم قام بجولة في العالم للاطلاع على طرق وآليات تسيير العديد من الدول، قبل أن يعود إلى بلاده نهاية عام 1964 ليبدأ دراسة الفقه والتشريع الإسلامي والتاريخ العربي والإسلامي، مع اهتمام بالفلسفة والفكر الإنساني، ويوصف بأنه مثقف وخطيب باللغتين العربية والإنجليزية.
خلال النصف الأخير من ستينيات القرن الماضي كان «قابوس» يقضي معظم وقته في مدينة صلالة، ممارسا هواياته الخاصة، من المطالعة إلى المشي على شاطئ بحر العرب وركوب الخيل والرماية، مع حب كبير للرسم والتصوير، بينما كان والده يخوض معركة خاصة مع كل ما هو جديد، رافضاً لكل مظاهر التحديث.
لقد كان «السلطان سعيد بن تيمور» من الجيل المحافظ، شديد التطرف في ذلك، فرفض أي نوع من الحداثة والإصلاح، ما تسبب في اندلاع تمرد مسلح بمحافظة ظفار، هز أركان حكمه، بدعم من المعسكر الاشتراكي في العالم بقيادة الاتحاد السوفياتي والصين وكوبا، ودول عربية كمصر وجمهورية اليمن الديمقراطية الشعبية (اليمن الجنوبي)، والأخيرة كانت بحكم الجوار الحدودي، قاعدة للمتمردين في «جبهة تحرير ظفار» التي حملت أولا اسم «جبهة تحرير الخليج العربي».
تحرك الولد الذي أكمل تكوينه ليكون «سلطان البلاد» المنقذ لها، وسيطر على مقاليد الحكم عام 1970 بدعم ومساندة من بريطانيا، وأخمد تمرد «ظفار» بسرعة كبيرة، بدعم عسكري مباشر من شاه إيران محمد رضا بهلوي، كما وقفت إلى جانبه دول خليجية وعربية.
قاد السلطان مصالحة داخلية، أسفرت عن دمج المتمردين السابقين، ومن بينهم الوزير المسؤول عن الشؤون الخارجية الحالي يوسف بن علوي.
تشير بعض التقارير إلى أن السلطان قابوس عندما تولى الحكم كانت توجد في عمان ثلاث مدارس فقط، فيما تصل نسبة الأمية بين السكان إلى 66 في المائة، فتوجه السلطان الشاب إلى إصلاحات جوهرية في التعليم والصحة والاقتصاد، ونجح في تغيير الأوضاع.
كما جعل بلاده التي تصدر أقل من مليون برميل من النفط يوميا، أحد أبرز البلدان الناهضة في مجال الاقتصاد والبنية التحتية، كما أصبحت وجهة سياحية وثقافية مهمة، مستندة على تاريخ إمبراطوري عريق، يتجاوز حدود سلطنة عمان الحالية.
ولكن نمط تسيير السلطان قابوس لشؤون بلاده كان مختلفاً، فقد احتفظ لنفسه بالعديد من المناصب والحقائب الحكومية الحساسة، فكان هو رئيس الوزراء ووزير الدفاع والمالية والخارجية، وهو أيضاً محافظ البنك المركزي.
ظلت الأوضاع داخل سلطة عمان هادئة طيلة حكمه، بينما انتهج سياسة خارجية تقوم على «الحياد الإيجابي» في منطقة تغلي وشهدت الكثير من الحروب خلال الخمسين سنة الماضية، ظل الرجل خلالها حريصاً على أن يكون «صديق الجميع».
وكانت الهزة الأبرز التي واجهها بعد تمرد ظفار في السبعينيات، هي حين شهدت عمان مظاهرات في مدن عدة من بينها مسقط وصلالة وصحار، تزامنا مع «الربيع العربي» في 2011، للمطالبة بإصلاحات سياسية واقتصادية، وقُتل فيها عدد من المتظاهرين.
لكن السلطان قابوس احتوى الأزمة، وقاد سلسلة إصلاحات واسعة.
وعلى المستوى الخارجي، حافظ على علاقة وطيدة بدول الجوار الخليجي والعربي، وعلاقات طيبة ووازنة مع القوى الدولية، وعلاقة تواصل مع إسرائيل.
وخلافا للدول العربية، لم يقطع قابوس علاقاته مع مصر أيام توقيع أنور السادات اتفاق السلام مع إسرائيل عام 1978، كما حافظ على علاقات وطيدة مع بشار الأسد وحكومته، وأبقى سفير لبلاده في دمشق خلال الأزمة السورية، وهو الأمر نفسه الذي انتهجته دول عربية أخرى كموريتانيا والسودان والجزائر.
منذ سنوات أصيب السلطان قابوس بمرض سرطان القولون، تلقى العلاج لفترة طويلة في ألمانيا، وظلت حالته الصحية تتدهور، رغم التعتيم الكبير على وضعه الصحي، إلا أن ذلك لم يمنع الحديث عن خلافته المثيرة للجدل، فالرجل ليس له أي أبناء، وهو الذي خاض تجربة زواج قصيرة لم تكن ناجحة.
زاد وضع السلطان قابوس الصحي سوءاً منذ 2014، ليبدأ النقاش يحتدم بشأن خلافته، فهنالك 85 شخصاً من أفراد عائلة «آل بوسعيد» يحق لكل واحد منهم اعتلاء العرش بعد وفاته، ولكن الرجل الذي أدار شؤون البلاد طيلة نصف قرن من الزمن، ترك وصية مغلقة تحدد اسم من يخلفه، في حالة اختلاف العائلة.
فالمادة 6 من القانون الأساسي للسلطنة تقول إن على الأسرة المالكة، بعد وفاة السلطان، أن تجتمع لثلاثة أيام من أجل اختيار سلطان جديد، وفي حالة لم يجمع مجلس العائلة على قرار واحد، يفتحون ظرفاً سرياً تركه السلطان قابوس فيه اسم خليفته.
ويحاط هذا المظروف بسرية كبيرة، وتشير بعض التقارير إلى أن هنالك مظروفين أحدهما في العاصمة مسقط والآخر في مدينة صلالة، وكلاهما تحت حراسة مشددة، وسيفتحان معاً للتأكد من عدم التلاعب بأي واحد منهما.
وتشير النصوص إلى أن الظرف السري سيفتح من طرف مجلس الدفاع في البلاد، الذي أعلن الانعقاد المستمر منذ وفاة السلطان قابوس، ورئيس المحكمة العليا ورؤساء غرفتي المجلس الاستشاري، وسيفتح المظروف بحضور أفراد العائلة الحاكمة، ويعلنون اسم السلطان الجديد الذي يرد بصرخة توحي باستعداده وبداية حكمه.
وتشير أغلب التوقعات إلى أن هنالك ثلاثة من أبناء عمومة السلطان قابوس، سيكون أحدهم هو الخليفة وكلهم يشغلون مناصب سامية في الدولة وهم: أسعد وهيثم وشهاب أبناء طارق بن تيمور آل سعيد، كما دار حديث خلال الأيام الأخيرة، عن تيمور بن أسعد ابن طارق، وهو شاب مثقف يتولى مسؤوليات عامة.
ولكن السلطان قابوس رفض طيلة السنوات الأخيرة من حكمه أن يفصح عن اسم خليفته خشية أن يؤدي ذلك إلى تقليص نفوذه أو أن تسعى قوى خارجية لاستمالته.