لماذا قبل الاخوان المسلمون التقارب مع أميركا ؟
سامي كليب
ناديا شابة سورية تحلم بأن تصبح نجمة تلفزيونية. دفعها فقرها لهجرة قريتها “جبلة ” الساحلية وجاءت تبحث عن لقمة عيش شريفة في دمشق. تعيش ناديا في غرفة شديدة التواضع، وتقطع كل يوم أكثر من ساعتين بالسيارة ذهابا وايابا الى عملها. لم يمنعها انتماؤها الى الطائفة العلوية من الفقر، وما كادت تبدأ بالخروج من تواضع الحال حتى بدأت تلملم حوائجها بحثا عن مكان أكثر أمنا بعد ان تفاقمت مشاعر المذهبية في حيها .
شادي شاب سوري أشقر الشعر أزرق العينين. كل شيء في شكله وسحنته يوحي بأنه أوروبي الانتماء . يحلم هذا الفتى الحلبي بأن يصبح رجل أعمال ناجح. لم يجد في مدينته عملا يعيل منه عائلته، فجاء الى دمشق يبحث عن لقمة عيش شريفة. شادي سني الطائفة لكن انتماءه اليها لم يحمه من الفقر رغم كل ما يقال عن رأس المال السني الكبير في مدينته حلب.
يتفق شادي وناديا على ضرورة اصلاح النظام. يعتقدان بأنهما ضحية الظلم الاقتصادي والاداري والاجتماعي. هما من الجيل الذي انتقل من الطفولة الى المراهقة في العهد الحالي. أحبا الرئيس بشار الأسد وكرها النظام( شادي بدأ يغير رأيه بالاسد بعد تزايد الدم في الشوارع) . تنحصر صورة حزب البعث في ذهنيهما بقيادات عجوزة هرمة، وخطابات مملة، وبهرجات حزبية وسيارات فخمة سوداء، وبانسلاخ عن لغة العصر .
حين بدأت الثورات العربية في تونس وسقط زين العابدين بن علي، هبَّت رياح الحرية على الوطن العربي ( بل الأوطان العربية المفككة أصلا) . لم يعتقد شادي وناديا بأن الرياح ستصل الى سورية. كان كل شيء ساكنا في هذا البلد ذي نظام الحزب الواحد منذ أكثر من اربعين عاما .
كان بشار الأسد يعزز الانفتاح الاقتصادي ويعد بانفتاح سياسي. حقق الاقتصاد قفزات جيدة، ( انتقال الى الليبرالية، انفتاح مصرفي كبير، السماح بتداول الدولار، تسهيل قوانين الاستثمار المحلي والخارجي ، تشجيع السياحة … ذكر مثلا التقرير السنوي لصحيفة ” لوموند ” الفرنسية ان الناتج القومي الخام انتقل من 21،1 مليار يورور عام 2005 الى 43،9 مليار يورو في عام 2010 . ادت خصصة القطاع المصرفي الى انتعاش القطاع الخاص . تم فتح بورصة سورية عام 2009 . حققت السياحة 3،5 مليار يورو فقط في الاشهر الاولى من العام 2010. وصلت تحويلات السوريين في الخارج الى مليار يورو … ألخ ) .
انتعش الاقتصاد اذا وبقيت السياسة بانتظار فرج لم يأت. بررت السلطات السورية طويلا تأخر الاصلاح بالهجمة والحصار اللذين تعرضت لهما سورية في أعقاب اغتيال رئيس الوزراء اللبناني رفيق الحريري، لا بل قبل ذلك بقليل منذ التمديد للرئيس اللبناني السابق أميل لحود وبداية التباعد ثم التنافر مع فرنسا .
اعتقد النظام السوري ان الانتعاش الاقتصادي سيغير الكثير من انماط التفكير السياسي ويمحو احقاد التاريخ، لكن سرعان ما تبين منذ الشرارة الاولى في درعا، ان ابناء الارياف هم في طليعة المتضررين من النموذج الاقتصادي المستورد. وتبين أيضا ان الوجود الكثيف للقيادات البعثية وللبعثيين في تلك المناطق الريفية ( درعا، ادلب ، الرستن … وصولا الى جسر الشغور ومحيطها ) لم ينجح مطلقا في اخماد شرارة الانتفاضة، لا بل لعله عززها نظرا للاحقاد الدفينة ضد النماذج القيادية البعثية العالقة في التاريخ والمصالح والفساد .
تسلح النظام بالانتعاش الاقتصادي، ولكنه تسلح ايضا بالالتفاف الشعبي حول بشار الأسد بعد خروج سورية من لبنان ثم في اعقاب انتصار المقاومة عام 2006 على اسرائيل. لم يعر انتباها كثيرا للحريات التي انعشها الاسد نفسه حين شجَّع مثقفي وسياسي ” ربيع دمشق” على التعبير بحرية عن آرائهم قبل ان يزج بهم في السجون بتهم ضعيفة الاسناد .
كان لا بد اذا ان تنتقل عدوى الثورات العربية الى سورية. فهل اخطأ الأسد في التقييم حين استبعد احتمال وصول النموذجين التونسي والمصري الى بلاده؟
ربما، ولكن الأكيد ان سورية تشكل نموذجا خاصا في سياق الثورات العربية حيث تختلط عند تخومها العوامل الداخلية والاقليمية والدولية، بحيث يصبح النظام البعثي هدفا سائغا لكل الذين لم يستسيغوا دوره ومواقفه في السنوات القليلة الماضية، تماما كما يصبح هدفا لجيل من الشباب بات توقه الى الحرية اقوى من كل التوقعات.
حاجات غربية وثورات عربية
كان شادي الشاب الحلبي السوري يحلم قبل فترة بأن يحصل على تأشيرة سفر الى الخارج. خاطب عددا من السفارات. لم يأته رد ايجابي . حين يتحدث اليوم عن تجربته المريرة تلك يضحك. يقول : ” حسنا فعلوا بأنهم لم يعطوني تأشيرة ، الا ترى ان الغرب بات مفلسا ” .
لا شك انه من الظلم بمكان ان يقال عن الثورات العربية بأنها وليدة مؤامرة خارجية. هذا بحد ذاته جهل بطبيعة المجتمعات التي تحركت فيها الثورات ونجحت. يقول العالم الفرنسي ايمانويل تولد ان الثورات في العالم نشأت حين صار نصف المجتمع متعلما . حصل ذلك في فرنسا وبريطانيا وفي ايران وغيرها، ويقول ان المجتمعات العربية ثارت بعد ان بلغت النسبة نفسها وبعد ان تقلص عدد الانجاب الى نسبة ولدين او اقل في العائلة الواحدة، ذلك انه كلما تعلمت المرأة قلَّ الانجاب وازداد الوعي . وكلما ازداد الوعي تضاعفت الرغبة في تحسين ظروف الحياة .
ولكن شيطان التفاصيل يدفع التحليل صوب أسباب خارجية كثيرة قد تخمد هذه الثورات قبل اكتمالها .
ومن التفاصيل مثلا ، ان الثورات العربية جاءت بعد عامين على الانهيار الاقتصادي العالمي. وجاءت بعد ان بلغت المديونية الاميركية حدا لم يسبق له مثيل في حاضر أميركا. وتزامنت مع افلاس اليونان، واضواء اقتصادية حمراء مقلقة في اليابان، ومع خطر محدق بالبرتغال واسبانيا وايطاليا وبريطانيا وفرنسا وغيرها… وجاءت الثورات متزامنة مع الاعداد للانسحاب العسكري من العراق ومع العجز عن ضرب ايران ، ومع ارتفاع موجهة الهجمات على القوات الغربية في افغانستان والجدل الدائر في أميركا وفرنسا حول انسحاب مبكر لهذه القوات ولو على مراحل . وجاءت الثورات ايضا وخصوصا بعد ثورة معلوماتية هائلة وشبكات تواصل اجتماعي اقامت جسورا بين القارات الخمس دون حاجة الى اذن او تأشيرة .
بدا العالم اذا منذ عام 2008 بحاجة اكثر من أي وقت مضى الى مصادر رزق وثروات زراعية وحيوانية ونفطية كثيرة . وصل عدد سكان العالم عام 2009 الى 6،8 مليار نسمة، منهم 3،9 في آسيا ومليار في افريقيا وحوالى 0،6 مليار في اوروبا، وسوف يتواصل ارتفاع عدد سكان العالم ليتخطى 9 مليارات في القرن الحالي بينهم 7،5 مليار في الدول النامية وفق احصائيات الامم المتحدة .
تؤكد تقارير الامم المتحدة ان العالم بحاجة الى مضاعفة انتاجه الغذائي مرتين قبل عام 2050 ، على ان يتضاعف هذا الانتاج 5 مرات في افريقيا ، بينما تؤكد منظمة التغذية العالمية ” فاو ” ضرورة رفع الانتاج بنسبة 70 بالمئة . لا بد اذا من اعداد العالم لهيمنة غربية جديدة بغية توفير المواد الغذائية والنفط من خيرات العالمين العربي والافريقي الى الغرب عبر احتلالات مباشرة او هيمنة عسكرية وسياسية او اتفاقيات مجحفة دائما بحق الجنوب .
يشار مثلا الى أن مساحة الاراضي الزراعية التي تم التنافس عليها دوليا بين عامي 2005 و 2008 خصوصا في افريقيا بلغت حوالى 20 مليون هكتار . اشترت الصين 3 مليون هكتار في الكونغو الديمقراطية لتطوير صناعة زيوت النخيل، واشترت كوريا الجنوبية والامارات العربية ومصر ما يقارب 1،5 مليون هكتار في السودان.
سنفهم جليا اذا أحد اسباب تقسيم السودان، فهذا البلد الافريقي الشاسع والمتعدد الاعراق والعربي الانتماء بات منذ سنوات ساحة للتنافس بين الولايات المتحدة الاميركية والصين . سارعت بكين الى الافادة من خروج الشركات النفطية الاميركية منذ عام 1995 . خصصت مليارات الدولارات لهذا القطاع. سرعان ما قاربت حصتها نصف نفط السودان. حاولت واشنطن قطع الطريق على الصين. احتلت المرتبة الاولى في تقديم المعونات للسودان حتى في أوج الخلاف ( اكثر من 6 مليارات دولار منذ اتفاقية السلام الشامل في نيفاشا عام 2005 ) . تبين لاحقا ان الهدف هو اغراء الخرطوم بالانفصال عن الجنوب .
الجنوب مهم نفطيا ، أكثر من ثلثي النفط السوداني يستخرج من هناك، ولكنه مهم أيضا للثروة الزراعية والحيوانية. هناك ثروة هائلة ستضيع عبر السنوات وسط جشع الغرب وما سينتج من فساد بين اطراف الجنوب . والسودان هو هدف غذائي هائل للعالم. فيه 84 مليون هكتار قابلة للزراعة من اصل حوالى 250 مليون هكتار هي مساحة البلاد. لا يستغل من هذه المساحة الزراعية سوى ما يقارب 19 مليون هكتار . أي ان ثلثي المساحة القابلة للزراعة لم تستغل بعد وهي تساوي بمساحتها تقريبا المساحة المزروعة في كامل الوطن العربي.
لم يحسن العرب استغلال ذاك المخزون الهائل. ثمة احصاءات دقيقة تؤكد ان في الوطن العربي 85 مليون عامل، لكن القوة العاملة الزراعية لم تتخط 26 مليونا. بينما تقتصر مساهمة القطاع الزراعي في الناتج القومي العربي العام على 80 مليار دولار من اجمالي 705 مليارات . والعرب بالتالي يستوردون القمح والسكر والارز ومجمل الحبوب
هم يستوردون ايضا اللحوم الغربية بينما في السودان ثروة زراعية وحيوانية هائلة . 24 مليون هكتار من المراعي. 64 مليون هكتار من الغابات . مصادر مياه وفيرة ومتعددة . ويحتل السودان المرتبة السادسة عالميا والاولى عربيا لجهة الثروة الحيوانية . أكثر من 128 مليون رأس ماشية ( 37 مليون من الابقار، و38 مليون من الماعز و46 مليون من الاغنام، و3 ملايين من الابل و 4 ملايين حصان او من فصيلة الخيول ) .
نفهم الان كيف ان رجال اعمل اميركيين وفي مقدمهم مثلا المصرفي المتقاعد فيليب هالبيرج يسارع الى شراء 400 ألف فدان في الجنوب حتى قبل ان ينقسم. أي انه اشترى مساحة تزيد على مساحة امارة دبي .
التنافس الصيني الغربي
كان لا بد من تقسيم السودان لوضع اليد على خيرات البلاد انطلاقا من جنوبها. سرَّع الغرب الخطى حين اكتشف فجأة ان الصين باتت سيدة افريقيا بلا منازع او كادت . اكتشف العالم ان الصين باتت القوة الاقتصادية الثانية في العالم وقد تصبح الاولى. تخطى انتاجها القومي الهام كل انتاج منطقة اليورو. نموها الاقتصادي فاق 3 مرات نظيره الاميركيي. نسبة الناتج القومي الخام باتت 11 بالمئة عالميا بينما كانت تقتصر على 5 بالمئة في مطلع السبعينيات . صارت المصدِّر الاول عالميا. انتجت 40 بالمئة من الاسمنت والحديد على مستوى العالم في الاعوام الماضية . تضاعف انتاجها الصناعي مرات منذ عام 2002 . عقدت تحالفات استثمارية واقتصادية هائلة مع افريقيا وهي تقود دبلوماسية هادئة اكثر ولكن حازمة حين يتعلق الامر بمجلس الامن.
ولأن من يصنِّع سيكون بحاجة أكبر للطاقة ، كان لا بد من التوجه الى الدول العربية وايران . ثمة دراسات جادة تؤكد ان احد أسباب الحرب الاميركية البريطانية على العراق كان الحؤول دون تمدد الاخطبوط الصيني صوب مناطق النفوذ الاميركية. ودراسات اخرى تشير الى أن السبب الرئيس خلف دفع السعودية والكويت ودول اخرى لرفع انتاجها خارج منظمة اوبك هو التأثير السلبي على ايران. وقد كشفت وثائق ويكيليكس الشهيرة كيف ان اميركا حاولت الضغط على وزير النفط السعودي علي النعيمي قبل سنوات لاقناع السعودية برفع تصديرها النفطي للصين بغية تخفيف الاعتماد الصيني على النفط الايراني لخنق ايران اقتصاديا .
أمام هذا المارد الصيني القائم من تحت الرماد. تبين ان العالم صار في مواجهة قوة مهددة ( رغم طبيعتها المسالمة على المستوى الدولي) . صار المصرف المركزي الصيني قادرا على انقاذ اميركا نفسها من ازمتها المالية منذ عام 2008. وصارت الصين تملك قدرة هائلة على التلاعب بالدولار لو شاءت ( ولكن ذلك قد يرتد سلبا عليها ايضا ) .
لا بد اذا من استعادة مراكز النفوذ . لا بد من البحث عن وسائل جديدة للابقاء على السيطرة على خيرات العرب وافريقيا من جهة ، وتجديد مفاعيل القوة السابقة. كان المرشح الاميركي السابق للرئاسة آل غور في طليعة المسؤولين الاميركيين الذين حذروا من مستقبل الأزمة الغذائية على مستوى العالم. قال عام 2009 ” اننا نواجه فعليا خطر اللاعودة في مجال المجاعة من الان وحتى 10 سنوات ” . صدر تحذير آخر من ” نادي روما ” جاء فيه ” ان الادارة المأساوية لثروات الارض قد تؤدي الى مراجعة عميقة لتصرفات البشر وللبنى الاجتماعية الحالية برمتها ” .
تعددت نواقيس الخطر . أطل شبح الازمة ابتداء من مطلع عام 2008 . تضاعفت اسعار القمح والذرة والارز التي تمثل ثلثي الغذاء العالمي ليصل ثمن الطن الواحد الى 400 دولار . قال وزير الخارجية الايطالي آنذاك انه لا بد من وضع ” آلية دولية لانشاء مستودعات استراتيجية لمواجهة احوال الطواريء الغذائية ” .
ظهرت مشكلة اميركية وغربية كبيرة منذ الازمة المالية العالمية. تبين لاحقا ان الاقتصاديات الغربية مرشحة لاهتزازات كبيرة. المديونية الاميركية ( أكثر من 14 تريليون دولار ) شكلت سابقة خطيرة . افلست اليونان. خيم شبح الافلاس على اسبانيا والبرتغال. تمددت الازمة صوب بريطانيا وايطاليا وفرنسا .( المضحك ان هذه الدول المفلسة هي التي سارعت للتبرع لمصر وتونس بعد ثورتهما ، ولكننا سنكتشف ان ثلث هذه المساعدة مفروضة على دول الخليج خصوصا ان مصر تقبع تحت مديونية تصل الى 35 مليار دولار وتونس الى اكثر من 22 مليار ) .
البحث عن مصادر مال وطاقة وغذاء صار اذا اولوية في سياسات الدول الكبرى . القلق كبير، ذلك ان المصادر السابقة وبينها ما هو قائم منذ عقود طويلة في الخليج باتت مهددة بسبب الهزيمة الاميركية في العراق وما خلفته من مصائب هناك من جهة، وتحول ايران من دولة مدافعة عن نفسها الى لاعب اقليمي كبير مستقبلا في العراق وغيره . لعلنا نفهم الآن وأكثر من أي وقت مضى أسباب التهييج الدبلوماسي العربي والخليجي والدولي الكبير ضد ايران تارة بذريعة الخوف من القنبلة النووية وتارة اخرى لاسباب تتعلق بالمد الشيعي او الفارسي وغيرها ……….
ليبيا مثال لنهب الثروات
بعد سقوط الرئيسين التونسي والمصري زين العابدن بن علي وحسني مبارك . ارتفع منسوب القلق الاميركي الى أقصاه. نحن امام سقوط حليفين تاريخيين، وامام خطر فعلي على النفوذ الاميركي والغربي في منطقتين استراتيجيتن. تلقفت اميركا وفرنسا الصدمة . سعتا للتغطية على اخطائهما في دعم الرئيسين.قدمتا نفسيهما على أنهما في طليعة قادة التحرير العربي في ربيع قد لا يستفيد العرب من خيراته ما لم يحسنوا فهم ما يجري حاليا .
لم تكن الثورة في ليبيا داخلة في حسابات الاستراتيجيين الغربيين ( تماما كتونس ) . الدولة التي تم اكتشاف اول بئر نفطي فيها عام 1959 وصدَّرت باكورة نفطها عام 1961 وعرفت انقلاب العقيد معمر القذافي عام 1969 ، كانت خرجت من قائمة الدول الارهابية وصارت موضع ترحيب في الغرب. رئيس الوزراء الايطالي سيلفيو برلوسكوني يقبل يد القذافي . تعترف ايطاليا بخطأها الاستعماري. ينصب القذافي خيمته في قصر الاليزة . تعتذر سويسرا له . تفرش بريطانيا سجادها الاحمر لاستقباله. تغض الطرف عن لوكربي مقابل صفقة نفطية لشركة بريتش بتروليوم في اعماق السواحل الليبية الغربية
لا بد من النظر الى المخزون النفطي الهائل لنفهم سبب الغرام الغربي المستجد بالقذافي قبيل محاولة الاطاحة به او قتله . ليبيا هي ثالث منتج افريقي للنفط مع احتياطي يصل الى حوالى 42 مليار برميل. هي رابع منتج افريقي للغاز الطبيعي مع احتياطي يتخطى 1500 مليار متر مكعب، وكانت ثمة توقعات بان يرتفع الاحتياطي الى اكثر من 3،2 مليار مترب مكعب . بلغت ايراداتها النفطية 35 مليار دولار في العالم الماضي نتيجة بيع 1،474 مليون برميل وكانت تعتزم رفع نسبة التصدير الى 2،9 مليون برميل يوميا. ما كاد وزير النفط ورئيس المؤسسة الوطنية للنفط الليبي شكري غانم يؤكد قبل اشهر قليلة بان ليبيا ستنفق 6 مليارات دولار لزيادة انتاجها ، حتى كانت طائرات الاطلسي تتقدم صوب الشواطيء الليبية وترمي قنابلها على العقيد وترمي حبَّها المستجد على الثوار. لا بأس بان يكون الاخوان المسلمون على رأس المجلس الانتقالي . لا بأس ان تكون فرنسا العلمانية راس حربة تلك الحملة العسكرية . ولا بأس ان يكون الفيلسوف اليهودي برنار هنري ليفي في طليعة من ذهب للقاء القادة الاخوانيين لثوار ليبيا.
وفي الحديث عن برنار هنري ليفي الذي فاض حبه اليوم لثوار سورية تحت شعر مؤتمر ” انقذوا سورية ” ، يجب التذكير بدوره في ايصال السودان الى مرحلة التقسيم عبر لوبي يهودي امتد من اميركا الى فرنسا تعت شعار ” انقذوا دارفور”، ثم ذهب للعب الورقة نفسها في ليبيا بعد سنوات من رحلته الى افغانستان دعما لشاه مسعود. كنا سنصدق فائض مشاعره الثورية الجياشة لو أنه قال كلمة واحدة لنصرة فلسطين بدلا من دعمه المطلق للسياسة الاسرائيلية. ( لعل قراءة كتاب الباحث الفرنسي بيار بيان بعنوان مجازر سيضيء الكثير على دور ذاك اللوبي وبرنار هنري ليفي نفسه ) .
وفي العودة الى النفط الليبي ، هل ننسى ان 85 بالمئة من صادرات الطاقة الليبيية تذهب الى اوروبا وخصوصا الى ايطاليا ثم المانيا وفرنسا والصين ؟ . هل يعقل ان يتمدد الاخطبوط الصيني الى ليبيا بعد ان بلغت التجارة بين الجانبين مبلغا كبيرا، وبعد ان زرعت الصين في افريقيا العزيزة على قلب القذافي ” ملك ملوك افريقيا ” 5 ملايين صيني بين مدرب وفني وعامل ؟ .
لم يخف رئيس الوزراء الصيني في خلال منتدى التعاون الصيني الافريقي في اديس ابابا عام 2003 عامل التنافس مع الاميركيين. قال علانية : ” ان هدف التعاون مع افريقيا هو مناهضة الهيمنة الاميركية ذلك ان هذه الهيمنة بدأت تبرز وجهها القبيح ” . قال ذلك فيما كانت الاستثمارات الصينية في السودان وحده قد فاقت 20 مليار دولار . فتحت واشنطن عينيها واسعتين .
افريقيا مهمة لاميركا. تريدها قاعدة لمكافحة الارهاب وقاعدة لنفوذها السياسي والعسكري . وتريد منها خيراتها وتريدها سوقا لبضائعها. كان لا بد اذا من اللجوء ، على جري عادة الكاوبوي ، الى القوة العسكرية. انشات واشنطن القيادة الافريقية المسلحة ( افريكوم ) . بحث حلف شمال الاطلسي معاهدة شراكة عسكرية مع الاتحاد الافريقي في اديس ابابا. صارت واشنطن قادرة على تحريك قوات افريقية في صراعات القاراة . ( قريبا قوات اثيوبية في المناطق الحدودية السودانية بين الشمال والجنوب ) .
كانت احلام القذافي في افريقيا قد بلغت حدا غير مقبول غربيا. جاءت الثورة في بلاده فتلقفها الغرب بغية تحقيق اهداف عديدة تبدا بانهاء اسطورة القذافي وتصل الى نهب الثروة الليبية بامتياز.
الاخوان المسلمون حلفاء مؤقتون
تدرك واشنطن ان تيار الاخوان المسلمين في الوطن العربي هو القوة الوحيدة المنظمة والعابرة للحدود. لا يمكن التفكير باقامة تحالفات مع هذا الوطن بدونهم. راح تيار في الادارة الاميركية منذ عهد الرئيس السابق جورج بوش يقول بضرورة التحاور معهم. كان النموذج الاخواني التركي عبر حزب العدالة والتنمية يوحي بامكانية تمدد التحالف صوب العالم العربي. كشفت وثائق ويكيلكيس ان الحكومة الاميركية كانت تعمل مع الاخوان المسلمين والمعارضة منذ فترة طويلة . تبين ان قطر ايضا ترعى بقوة هذا التيار وتساعده سياسيا وماليا تماما كما تفعل اطراف في السعودية والكويت. ولعل بول بريمر قد بارك العلاقة مع الاخوان ذلك ان تجربته معهم في العراق كانت اكثر من ممتازة .
ان نظرة سريعة لواقع العرب بعد الثورات اعطى ذاك التيار الاميركي مبررات فتح الخطوط واسعة مع الاخوان. في تونس صارت حركة النهضة بقيادة الشيخ راشد الغنوشي قوة كبيرة . في مصر تم التأسيس لمرحلة مقبلة قوية بين الاخوان ذوي الشعبية الكبيرة والمجلس العسكري. حصل ذلك بمباركة اميركية. في اليمن لم يترنج عرش الرئيس علي عبدالله صالح بدون الوجوه الاخوانية او الاسلامية من الشيخ حميد الاحمر مرورا باللواء علي محسن الاحمر وصولا الى حزب الاصلاح والشيخ عبد المجيد الزنداني.
في اواخر عام 2007 قدم الاكاديمي الاميركي مارك لينش 4 نصائح للاخوان المسلمين لكي يصبحوا مقبولين غربيا : الالتزام الواضح بالديمقراطية. تطابق تصريحات قادة الاخوان بين النص العربي والنص الانكليزي بحيث لا يكون لهم خطابان مختلفين. التركيز على العمل كقوة اسلام معتدل ومعادي للارهاب. تعزيز الديمقراطية الداخلية التي تسمح لشباب جماعة الاخوان بالتعبير عن مناخ جديد من الحرية في الآراء السياسية .
لو وضعنا دراسة للخطاب الاخواني منذ بداية الثورات العربية، سنجد التزاما واضحا بهذه النقاط. صار المراقب العام للاخوان السوريين رياض الشقفة يتحدث بلغة ديمقراطية انفتاحية لافتة. بات محمد مرسي رئيس حزب الحرية والعدالة ( حزب الاخوان في مصر) يقول علانية ” ان الجماعة تريد برلمانا متنوعا بعد انتخابات ايلول المقبل ولا تسعى لفرض الشريعة، وان الحزب كما الجماعة يدعون الى دولة مدنية ” . أفسح حزب الحرية والعدالة المجال لدخول 93 مسيحيا قبطيا الى صفوفه وبينهم النائب الثاني لرئيس الحزب . ذهب الشيخ راشد الغنوشي الى حد التاكيد بان حزبه لن يمنع مايوه البكيني لو وصل الى السلطة .
من الصعب التسليم بان الانفتاح الاميركي الكبير على الاخوان، جاء نتيجة حب فجائي. ادركت اميركا ان دخولها الى الوطن العربي يجب ان يتم عبر قوة قادرة على التأثير فعليا على الشارع. لم تعد الجيوش العربية قادرة وحدها على مخاطبة الملايين . لا يوجد في هذا الشارع العربي قوة اكثر تنظيما وتاثيرا من الاخوان . ثمة اعتقاد بان هذا التحالف الاميركي الاخواني قد يمتد الى سورية برعاية تركيا لو ساءت الاوضاع اكثر .
لكن لهذا التحالف الاميركي الاخواني حدودا . يعتقد بعض الاستراتيجيين الاميركيين ان المطلوب هو تمرير المرحلة الراهنة وان الاوضاع الاقتصادية العربية الصعبة ستدفع المجتمعات بعد اقل من 4 اعوام الى نبذ الاخوان، فيسهل آنذاك تركيب أنظمة اكثر قدرة على ضمان المصالح الاميركية وحماية اسرائيل.
لم يتردد رون ليشيم في افتتاحيته في صحيفة هآرتس في القول في 13 -1-2011 : ” ان المصريين سيصوتون للاخوان لانه لا يوجد أي حزب آخر قادر على ان يحمل لهم التغيير السريع الذي تريده الجماهير، وان هذا السيناريو سيمتد الى باقي الشرق الاوسط، وان ديانية سياسية راديكالية ستهيمن قريبا على الشرق الاوسط ” .
اميركا مضطرة للتحالف مع الاخوان ولكنها تخشاهم. يذكر الاميركيون جيدا تصريح محمد بديع مرشد الاخوان في مصر حين قال في 30 ايلول 2010 : ” لقد سقط الاتحاد السوفياتي بصورة دراماتيكية الا ان القوى التي ستدفع لانهيار الولايات المتحدة اكثر قوة من تلك التي دفعت لسقوط الاتحاد السوفياتي. ان الامم التي لا تقدِّر الاخلاق ولا القيم الانسانية لا يجب ان تقود البشرية ” . من الصعب تصور الاخوان هادئين لو ارتكبت اسرائيل حماقة عسكرية جديدة ضد الفلسطينيين او غيرهم .
كسر حواجز الهيمنة الجديدة
لو سلمنا جدلا بان الغرب بقيادة اميركيا يريد خيرات العرب من نفط وغذاء وثروة حيوانية وزراعية. ولو سلمنا ايضا بان الغرب يريد الحفاظ على مصالحه وان اسرائيل تشكل الجزء الاهم لهذه المصالح لكونها القاعدة العسكرية المتقدمة . يمكن القول بان الهدف الاول والاخير تبقى ايران نظرا لدورها في توثيق عرى الخط المواجه. لا بد اذا من كسر هيبتها واضعاف هيمنتها او القبول بصفقة كبيرة معها . وسورية في هذا المجال تبدو الآن الحلقة الاضعف. من الصعب التفكير بهدوء اوضاعها الا في حالتين، فاما ان تقبل بصفقة سياسية مجحفة، او ان تلجأ الى عملية عسكرية واسعة وحاسمة مما لم تؤدي خطوات الاصلاح الى انفراج .
لم يكن مفاجئا اذا ان ينبري ثلاثة من غلاة المدافعين عن اسرائيل في الكونغرس الاميركي ” هيلينا روس ليتينين، و آليوت انغل، وجو ليبرمان ” الى دفع الرئيس باراك اوباما لاعلان حكم الاسد فاقدا للشرعية. وقبل هؤلاء كان مجلس الديمقراطية في لوس انجلس يؤكد دعمه لقناة بردى التلفزيونية المعارضة. وكانت برقية مؤرخة في نيسان 2009 وصادرة عن السفارة الاميركية في دمشق تقول : ” ان مجلس الديمقراطية تلقى 6،3 مليون دولار من الخارجية الاميركية لادارة البرنامج المتعلق بسورية ” هذه المخصصات كانت وصلت الى 12 مليون دولار عام 2010 ، فما هو هدفها ؟ لقد اكدت وثائق ويكيليكس ان هذه الاموال تدار من قبل الخارجية الاميركية لاضعاف النظام السوري .
قد يبدو هذا الكلام للبعض بمثابة القول بان ما يحصل في سورية هو فعل “مؤامرة ” فقط . العكس هو الصحيح. ان حركة الشارع هي التي عززت عند البعض احتمالات نجاح خطة اضعاف النظام السوري حتى شل قدراته الخارجية. لو لم تحصل انتفاضة في سورية لكانت الانظار ستتوجه الى قوة عربية مستعادة تقوم على تحالف سوري مصري . ولو اضيف لها قوى المقاومة عبر حزب الله وحماس والتيار الاسلامي في الاردن لربما احدث ذلك قلقا فعليا على اسرائيل وعلى المشروع الاميركي والغربي الجديد في المنطقة .
يكفي ان نلاحظ ان 4 عمليات تفجير انابيب للغاز المصري الذاهب الى اسرائيل قد حصلت مؤخرا. اسرائيل تستورد من مصر 46 بالمئة من حاجاتها الغازية، وهذا الغاز يوفر لها 40 بالمئة من حاجاتها الكهربائية باسعار مخفضة. الان يقوم جدل كبير في مصر حول هذه المسالة. يجري كلام مقلق في اسرائيل منذ القرار المصري بفتح المعبر . يتنامى القلق ايضا منذ قال وزير الخارجية السابق ( الامين العام الحالي لجامعة الدول العربية ) نبيل العربي بضرورة التقارب مع ايران . فكيف لو ان سورية بقيت بدون انتفاضة ؟
اُبعد نبيل العربي عن وزارة الخارجية ، جيء بالوزير محمد العرابي الذي كان دبلوماسيا في سفارة بلاده في تل ابيب. تراجع الكلام عن التقارب مع ايران. تم الاعلان عن ضم الاردن والمملكة المغربية الى مجلس التعاون الخليجي. اعطيت قطر مركز الصدارة في الدبلوماسية العربية وسط غموض المستقبل السعودي. ضبطت سريعا اوضاع البحرين. حصل تدخل اميركي هائل في اليمن المهدد للسعودية والخليج لو ساءت اوضاعه اكثر . لا بد من الحفاظ على استقرار الخليج، مصدر الثروة النفطية والمبالغ المالية الهائلة والنفوذ الاميركي . وبين هذا وذاك بدأت عملية الاستيلاء على اموال الروؤساء المخلوعين ومعظمها في مصارف اجنبية وتقدر باكثر من 200 مليار دولار .
الثورات العربية مهمة، لا بل هي الحدث الاهم في تاريخنا الحديث بعد الانتصار على اسرائيل وهزيمة اميركا في العراق. فهذه الثورات فتحت آفاقا هائلة امام الشباب العربي، واسقطت انظمة شمولية متعفنة في التاريخ والقمع، وتهدد انظمة شمولية اخرى بالسقوط ما لم تبادر الى تلقف الشارع بسرعة وتلبية كل مطالبه.
ولكن السؤال الاهم الآن : هل ان العرب هم المستفيدون فعلا من ثوراتهم . ألم يقل الثائر الارجنتيني الشهير في كوبا تشي غيفارا ان الثورة يطلقها مغامر ويقودها بطل ويستغلها انتهازي ؟
انتهى .