محمد بن عبد الباقي*
تشهد الساحة الوطنية هذه الأيام تجاذبات قوية بين مكونات الطيف السياسي، تجاوزت الصراعات التقليدية المبينة على الاعتبارات القبلية والجهوية، حيث خرجت على المألوف في العرف السياسي الوطني بتنظيم مؤتمرات وحوارات مفتوحة بين المعارضة والموالاة للخروج برؤية مشتركة للآفاق المستقبلية للبلد.
وإذا كان البعض يرى في هذا التحول الجذري في طريقة التعاطي بين الكتل السياسية وتقوقعها تحت المظلة الحزبية، كإطار سياسي للتحرك بدل القبيلة والجهة، إنجازا ديمقراطيا ملموسا، فإن البعض الآخر يرى أن سباق الولاءات والارتماء في أحضان النظام وما رافق ذلك من حملة إعلامية سخرت لها وسائل الدولة المادية والمعنوية هو نذير شؤم ودليل على أننا في بداية عشرينية عهد الرئيس الأسبق، معاوية.
إذا كانت المشاكل السياسية للبلد قد نالت الحيز الأكبر من اهتمام النخبة المثقفة، فإن المشاكل الاجتماعية لا تكاد تذكر وإن ذكرت فباحتشام كبير، ولكن ما ظهر خلال الأيام الأخيرة من تصرفات من يصفون أنفسهم بأدعياء الحرية فرض على الجميع أو على الأقل من يهتم بالسلم الأهلي أن يولي هذه القضية أهمية كبرى، فمخطئ من يظن أن مقومات الدولة المدنية الحديث لا تتأتى إلا بقيم كالعادلة والمساواة والحرية وغيرها من الشعارات التي دأب الكثير من السياسيين على تسويقها وجعلها المفتاح السحري لكل المشاكل، ولكن ما غاب أو غيب عن الجميع هو أنه بدون سلم أهلي لا يمكن بناء دولة المؤسسات المدنية الحديثة، خاصة في بلد كموريتانيا له مكونات عرقية وثقافية متعددة ومعرض للهزات الاجتماعية والسياسية ولأتفه الأسباب.
فما حدث في جامعة نواكشوط وما رافقه من توظيف سياسيي رخيص لنزاع نشب بين اتحادين طلابيين على خلفية انتخاب مكتب طلابي، لدليل واضح على هشاشة الروابط الاجتماعية ومرونتها وقابليتها لخدمة أهداف مشبوهة تخدم أجندة خارجية، ترى في الوحدة الوطنية عامل تهديد لمصالحها.
وغير بعيد عن الجامعة وتحديدا في ميدان كارفور مدريد، حيث تجمع بعض من سائقي السيارات للمطالبة بتعديل نظام المرور وتنظيم المهنة ووضع ضوابط تمنع الأجنبي من مضايقة المواطن في مهنة لا يتطلب صاحبها كفاءة أكثر من رخصة سياقة، فإن أيادي خفية عملت جاهدة لإعطاء هذا الاحتجاج طابع فئوي كما فعلت سابقا مع احتجاج الحمالة، والأمثلة كثيرة ومتشابهة.
وما حدث بالأمس أمام مفوضية القصر من محاولة لفرض القانون من طرف مجموعة برام ولد الداه ولد أعبيدي والقيام بدور السلطة لدليل على بداية موجة تسيب قد تعصف بالنسيج الاجتماعي الهش أصلا.
إن هذا التصرف وغيره لا يمكن فهمه خارج سياق الابتزاز السياسي وشيطنة الأهداف النبيلة واللعب على أوتار عقدة (السيد، والعبد)، فقضية العبودية لم تعد قضية مطروحة ولا يحق لأحد الارتزاق من أنات الآخرين في الماضي مهما كانت علاقته وصلاته الدموية بهم.
فإذا كانت موريتانيا قد مرت بتاريخ مظلم عانت فيه شريحة لحراطين كغيرها من شرائح المجتمع الضعيفة ظلما فإنه من المخجل أن تبقي النخبة المثقفة مرتهنة لعقدة الماضي تجتر كلمات مخزية تتنصل فيها من الماضي ضمن خطة نفاق سياسي مكشوف، يمنعها من انتقاد تصرفات الخارجين على القانون حتى ولو كانت في وضح النهار وعلى مرأى ومسمع الكل، وهل يتطلب علاج العين المريضة فقأ العين السليمة؟
إن الوضع الحالي يتطلب منا انتداب حقوقيين من أعرق ديمقراطيات العالم وأطولها معاناة من نظام العبودية وأكثرها خبرة في معالجتها (الولايات المتحدة الأمريكية) لتثقيف نخبنا السياسية لمعرفة ما لها وما عليها، أما بيرام فعليه قراءة سيرة مارتن لوثر كين (Martin Luther King) النضالية وطرق تعامله الحضرية مع مواضيع شائكة تهدد السلم الأهلي، وعليه أن لا يحاول القفز على أكتاف الآخرين بحجة أنهم أسياد الأمس، {تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُم مَّا كَسَبْتُمْ وَلاَ تُسْأَلُونَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ } صدق الله العظيم.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــ
* كاتب موريتاني مقيم بالدوحة ـ قطر