أستاذ بجامعة نواكشوط
“حرية التعبير تعني حرية ارتكاب الخطأ”.. جملة موجزة أطلقها مجادل فرنسي شهير مؤخرا، في محاولة يائسة لإيجاد مخرج مشرف بعد أن تفوه بألفاظ عنصرية بذيئة. لكنها تعكس ذات الوصف الذي تفز على ذهني عند قراءة الوثيقة التي نشرها اتحاد قوى التقدم تحت عنوان: “صعود الأسعار: أسباب حقيقية ومقترحات”. وقد أريد لهذه الوثيقة، المكونة من عشر صفحات، أنت تكون “تحليلا لنظام تموين السوق بالمواد الأساسية، ونقدا لعملية حوانيت التضامن” لا أقل من ذلك! لقد أراد كاتب – أو كتاب- الوثيقة – بطبيعة الحال- إلباسها طابعا فنيا، بل صبغة الدراسة العلمية الأكاديمية، دون انحياز،حول الواقع الاقتصادي الموريتاني؛ لكن الأقنعة- للأسف- سقطت بشكل سريع جدا لتكشف العملية عن هدفها الحقيقي، المتمثل في تأليب الرأي العام ضد مجموعة بذاتها، ينظر إليها قادة اتحاد قوى التقدم باعتبارها أحد الداعمين لهذا النظام الذي يحاربونه بكل قواهم.
بيد أن قادة هذا الحزب عودونا على تقلب المواقف، الذي كان أخف تجلياته ذلك المتمثل في التحامل على الدولة لمجرد أنها تابعت المسؤولين عن إفلاس شركة الخطوط الجوية الموريتانية، بعد أن كانوا أشرس الداعين لذلك أمام ممثلي الشعب.
أعرف أنه، مع اقتراب الاستحقاق الانتخابي، لا يهتدي بعض المنتخبين إلى الطرق التي اعتادوا السير فيها؛ لذا فلن أسلك طريق السياسة الذي ليس بطريقي، مكتفيا بتقديم بعض التوضيحات، إلى فئة من الرأي العام، قد تنساق وراء تصديق ما جاء في الوثيقة آنفة الذكر..
ما من شك في أن اتحاد قوى التقدم، أو من يديرونه عن بعد، إذا كانوا يرغبون فعلا في إيجاد فضائح مالية؛ كان يمكن أن ينكبوا على وثائق الإرشيف الاقتصادي للبلد لينفضوا الغبار عن كل تصفيات الشركات العمومية، وكل الصفقات المشبوهة وكافة الامتيازات غير المستحقة التي استفادت منها المجموعات الرئيسية في البلد.
لكن لنعد إلى موضوع “دراستكم التحليلية”، لنذكر بأن المجموعة التي تلمحون إليها، والتي أبين – بالمناسبة- أنها لم تنتدبني للرد نيابة عنها، واحدة من أقدم المجموعات الموريتانية ولم يأت نجاحها وأهميتها على الصعيد الاقتصادي، على الإطلاق، وليد السنتين المنصرمتين.
1- تؤكدون أنه: “تم حصر احتكار استيراد المواد الأساسية بشكل مركز؛ بحيث نجم عن تسارع وتيرة هذا المسار، تقليص عدد المستوردين من 15 إلى 5 فقط (ليسوا في الواقع سوى 3)”. لماذا تكتفون بالقول إنهم كانوا 15 فقط، علما بأنه كان بإمكانكم تضخيم الرقم حتى يصبح أكثر إثارة للانتباه؟
مع ذلك، من السهل فهم سبب تراجع عدد المستوردين، إن كان هناك تراجع أصلا، من خلال ثلاثة عوامل رئيسية..
أولا: خلال الفترة ما بين 1999 و2002، استفاد عشرات رجال الأعمال الموريتانيون من خطوط ائتمان وضمانات قدمتها هيئات مثل Coface، Hermes أو Decroix. وقد تبين كل هؤلاء تقريبا لم يفوا بكل ديونهم، وما زالت بعض الالتزامات غير مستوفاة حتى يومنا هذا، وأشك في أنها ستسدد على الإطلاق.. أما مجموعة “الوفاء” (أهل غده) فهي الوحيدة غير المدينة حسب علمي تجاه Coface أو أي من هيئات ضمان التصدير.. ومن هنا فهي مجموعة تتمتع برصيد كبير من المصداقية لدى المزودين نظرا لضعف احتمال الخسارة التجارية المرتبطة بالنشاط الذي تمارسه.
ثانيا: بعض المستوردين لم يختفوا، وإنما عمدوا – ببساطة – إلى تغيير تسمياتهم أو إلى استخدام أسماء مستعارة، وذلك بهدف التهرب من الضرائب ومن الدائنين الأجانب، مع الاحتفاظ بحصتهم في السوق.
أخيرا: هناك أسباب سياسية تجعل بعض التجار الآملين دون شك في تعقيد الأمور على النظام الحالي، الذي يعتقدون أنه ضد مصالحهم، أو لا يثقون فيه؛ يقررون – بملء إرادتهم- الامتناع عن الاستيراد لخلق أزمات مصطنعة. وبما أن الطبيعة تخاف من الفراغ، فقد تم سد الفجوة من طرف مستوردين آخرين. لكن في المحصلة النهائية، إذا نظرتم إلى حجم الواردات خلال السنوات العشر الأخيرة، أو الثلاثين سنة الماضية (بدل تركيز النظر على آخر سنتين) فستلاحظون أن حصة المجموعة التي تشيرون إليها بأصابع الاتهام ظلت منتظمة، ومن الطبيعي تماما أن تكون كذلك، إذ أن هذه المجموعة برهنت دائما على الجدية والمصداقية.
فيما يتعلق بشركة سونمكس، كانت المرة الوحيدة التي تعاملت فيها المجموعة مع هذه الأخيرة، حين خشيت السلطات آنذاك من أزمة في القمح كانت تهدد البلاد، فطلبت منها أن تستورد للشركة 000 24 طن من القمح تم شراؤها بنفس السعر من التجار الآخرين، ومازالت بقيتها (16000 طن) موضع نزاع أمام المحاكم. هل تعتدون أن مجموعة “ذات حظوة” يمكن أن تتفرج على مستحقاتها المشروعة تضيع كل هذا الوقت في أروقة المحاكم دون التمكن من استردادها؟ وبخصوص ما تسمونه “دراستكم” حول سعر الاستيراد، فإنها تعاني من عدة نواقص تجعها أقرب إلى واجب تلميذ في مدرسة ابتدائية، منها إلى دراسة يقدمها حزب محترم. لنأخذ على سبيل المثال أحدج الجداول التي كلفتكم الكثير من العناء، ولو من خلال إلقاء نظرة على الخانة الأولى:
الجدول 3: أعباء تنضاف إلى الكلفة الجزافية عند الإيصال
– السكر، القمح، الأرز المكسر: الكلفة الجزافية عند الإيصال بالدولار الأمريكي على التوالي: 800 دولار ، 300 دولار، 500 دولار؛ الكلفة بالأوقية تبلغ على التوالي: 000 220، 600 114، 700 13.. الجمركة تبلغ على التوالي: 500 1 ، 021 2 ، 500 7. رسوم الميناء: 000 1 ، 410 ، 000 1.. الإيداع الرصيفي: 300 1 ، 000 1 ، 000 1.. مكتب اليد العاملة بالميناء: 000 1 ، 000 1 ، 000 1.. النقل من الميناء إلى المدينة: 800 أوقية، 800 ، 800.. التفريغ في المخازن: 350 ، 350 ، 350.. مجموع تكاليف الجمركة و الشحن والإيصال: 950 5 ، 581 ، 650 11. التكلفة عند دخول المخازن: 950 225 ، 081 120 ، 450 175.
الملاحظة الأولى تتعاملون مع مسار متقلب، ولذا أفترض أنكم إما قد اعتمدتم معدلا عشريا أو معدلا فصليا، وإما أنكم اخترتم فترة بعينها, على أية حال تناسيتم عن قصد أن تبينوا ذلك. غير أننا حين نرى الكلفة الأصلية للاستيراد كما اعتمدتموها، نجد أن دراستكم تتعلق بتاريخ وثيقتكم، أي 28 فبراير 2011. إلا أنكم، في نفس الوقت، تستخدمون في دراستكم، سعر صرف الدولار بمعدل 270 أوقية للدولار الواحد، ولا شك أنكم تتفقون معي أن ذلك بعيد جدا من 284 أوقية التي تشكل سعر الصرف الحقيقي. لكن لنفترض ذلك جدلا، وننتقل إلى موضوع سعر السكر.. من المعلوم أنه من غير الممكن منذ أمد طويل الحصول على السكر بهذا الثمن (800 دولار). ومن شأن القيام ببحث سريع في مسيرة تطور الأسعار على شبكة الإنترنت، أن يتيح لنا أن نقدم لكم حقية أن ثمن الطن يبلغ 845 دولار، دون احتساب التأمين. وبذلك يصبح جدولكم، بعد تصحيحه وتكميله، كما يلي:
– السكر، : الكلفة الجزافية عند الإيصال بالدولار الأمريكي على التوالي: 400 227 الجمركة 000 18.. رسوم الميناء: 000 1.. الإيداع الرصيفي: 300 1 النقل من الميناء إلى المدينة: 800 التفريغ في المخازن: 500.. الرقابة على المتن وفي محطات توقف الباخرة: 700.. رسوم الجمارك: 200.. البلدية : 200.. غرفة التجارة: 200.. التكاليف المالية والتأمينات: 6960 (3,4 %) مجموع تكاليف الجمركة و الشحن والإيصال: 860 30. التكلفة عند دخول المخازن: 250 258..
–
غني عن الذكر أن مثل هذا الحساب يفترض أن عدم نقص أي غرام، عدم تعرض أي كيس أو خنشة للتلف أو البلل، عدم ضياع حبة واحدة؛ الأمر الذي تتفقون معي على أنه مستحيل. لكن لنفترضه جدلا.. لو أنه بيع لتجار المفرق كما كتبتم، بمبلغ 000 248، لكلف ذلك المستوردين خسارة عشرة آلاف أوقية من كل طن. لكنكم لا تجدون حرجا في حسابكم للهامش، لتأخذوا في الحسبان التكلفة عند باعة المفرق في دكاكين الأحياء الشعبية.
إن هذه المغالطة لوحدها، تظهر إلى أي حد أراد كاتب الوثيقة، بأية وسيلة، إيجاد كبش فداء بعينه، وأنه مصر كل الإصرار على إدانته.
أما بشأن عملية التضامن 2011، فإن ما لدي من معلومات ضئيلة حولها، يسمح لي بالقول إنها تتعلق باتفاقية موقعة بين الدولة واتحادية التجارة، وأن التجار، بغض النظر عن مخزونهم، تقاسموا المسؤولية كل حسب المقاطعة الموكلة إليه، والتي يجب عليه ضمان تموينها بأسعار محددة سلفا، وذلك مهما كانت تقلبات السوق. ومن جانبي لم ألمس لدى السكان الذين احتكيت بهم وكذا حملة الشهادات الذين وجدوا فرصة للعمل، أي شكل من أشكال الاستياء، بل على العكس من ذلك تماما.. لذلك أقول: بالله عليكم، قليلا من حسن النية!