جميلة هي موريتانيا ورائعة وعزيزة… إنها غرة الأوطان ودرة البلدان.. فيها مدارج صبانا حيث نيطت علينا التمائم، ونبتت أحلامنا تخضر حينا وتصفر أحايين أخر.
اعذرينا أيتها الفاتنة الملهمة المثخنة بالجراح، وأشيحي بنظرك عن حاضرك ومستقبلك واتكئي على ماض مشرق عبق بالمقدس.. يوم كان أهلوك رغم البداوة طيبين ودودين يعبدون الله على أرضه، ويتعاونون على البر والتقوى؛ يُـسيّرون أمورهم بحكمة وصبر وعدل وأناة، يتجاوزون كل مطبات الزمن بذكاء، يتعايشون بهدوء.. يأتلفون كما يأتلف سواد العين ببياضها، ويصدّرون الدين الحق في ثوبه الناصع السمح، ويوقدون جذوة أدبهم وشعرهم وفتوتهم أيام كان الانحطاط يضرب أطنابه في أرجاء المشرق والمغرب..
استمروا في ذلك زمنا مديدا.. ولما أزفت لحظة المدنية والحداثة كانوا على الموعد رغم بعد الشقة وتناثر الأهل؛ المتتبعين آنذاك مساقط المطر ومظان الكلإ، فقد أفرزت الأمة الموريتانية العظيمة نخبة؛ وإن كانت قليلة العدد فهي كما يقال”نعاج”.. تمكنت رغم عوادي الزمن وظلم ذوي القربى من تأسيس مشروع وطن وأمة.. لو أن من تسللوا خلسة إلى دار الرئاسة ذات ليلة غاب فيها البدر من صيف 1978 حافظوا على معالم ذلك المشروع الطموح لما وجدنا أنفسنا اليوم نتساءل بحسرة ومرارة: هل نحن على مشارف نهاية وطن؟
لقد مارس من أسميتهم في مقال سابق “عصابة البزات” أسلوب إسقاط لبنات ذلك المشروع الطموح لبنة لبنة، وشكلوا أول” تحالف بشري في سبيل تحقيق ذلك مع الجهل والتخلف والجفاف والتصحر والقبلية والجهوية والعرقية”، وطيلة زمنهم “الداكن” الذي يمر بطيئا وكأنه يسير حبوا .. كانت الأسئلة الكبرى عن مصير الوطن تتداعى.. كان الناس في كل منعرج يضعون أيديهم على قلوبهم.. غير أنه في ظل الطبعة الحاكمة اليوم من “عصابة البزات” أصبحوا يضعون أيديهم على قلوبهم عند كل خطوة، وعلى آذانهم عند كل انفجار لبالونة في يد طفل أو عجلة سيارة.. ظنا منهم أنه “الانفجار الكبير”.
المتتبع للشأن الوطني خلال السنتين الماضيتين يدرك السرعة التي يسير بها البلد إلى درك لا نعرف منتهاه.. لقد نفض الشعب يديه من ما سمي زورا باللعبة الديمقراطية بعد أن أدرك أنها فارغة المضمون، لا تنتج سلطة ولاتسمن ولا تغني من جوع.. وأن النضال السلمي المدني تجارة خاسرة في هذه الأرض، وأن مشروع التغيير الذي يسخر له الآلاف أعمارهم، ويضحون من اجله بالغالي والنفيس.. عندما يقترب بفعل التضحيات، في لحظة من لحظات الزمن البرزخي المخادع، الحافل بالبروق الخلب.. حتى إذا لم يعد بينه، وبين الخروج إلى النور غير فواق ناقة، تحركت “همة” ضابط جلف يقود عشرين جنديا مسلحا فاستولى على الوطن والشعب في لمحة طرف.. لترغمَ آمالُ التغيير الحق على أن تصير جزءا من دوامة الأحلام المؤجلة.. زميلة للغول والعنقاء وباقي قائمة المستحيلات.
لا أحب أن أقسو على أحد، ولا أن اجعل من الحبة قبة.. فالله يعلم أنني لا أريد لهذا الوطن الغالي وأهله ـ كل أهله ـ إلا الخير والمنعة ولكني لن أساوم على حرية ووحدة البلاد والعباد..
لا يخفى على من له أبسط مستوى من المعرفة، أن هناك تعاملا غير موفق مع مجموعة ملفات معقدة وشائكة وخطيرة وخلق ملفات جديدة فوق طاقة البلد وتحمله.
عشية تربع من “يسوسونا” اليوم على عرش أسلافهم المفسدين، أطلقوا سيلا من الوعود البراقة، ومَـنـَّونا بوطن أقرب إلى المدينة الفاضلة، لكن سرعان ما انكشف الغيب عن أن الأمر لا يعدو أن يكون وهما كبيرا، والأدهى من ذلك أننا بدأنا نلمس ضعفا عاما في بنية الدولة وترديا لم يسبق له مثيل على مختلف الصعد.. فعلى الرغم من ترامي أطراف البلد وعزلة معظم أجزائه ووجوده على حافة الصحراء الكبرى المتفجرة إرهابا ومخدرات، لم يتورع نظام نواكشوط اليوم من الزج بخيرة ضباطنا وجنودنا في حرب وراء الحدود، لا ناقة لنا فيها ولا جمل، وكان أبرز أيامها يوم محاولة الإفراج عن الرهينة الفرنسي مشيل جيرمانو الذي اختطف في النيجر، واعتقل في مالي من طرف القاعدة، فجرد له قادتنا جيشا جرارا لكي يحرروه ففشلوا فشلا ذريعا وقتل جرمانو.. وها نحن اليوم نواصل دفع الثمن رعبا وخوفا وسيارات تتسلل من هنا وهناك ومفخخات تنفجر على أسوار نواكشوط، وفي شوارع النعمة ، وصراعا مفتوحا مع شذاذ آفاق لا موطن لهم معلوم ولا نسب يجمعهم، الشيء الذي سوف يجعلنا في شغل دائم عن الالتفات إلى المطالب الملحة والواقع البائس للناس.
نحن اليوم الشعب الوحيد على هذا الكوكب الذي لا يحمل بطاقات تعريف وطنية، فأغلب بطاقاتنا انتهت صلاحيتها، والهيئة المكلفة بالحالة المدنية تغطّ في سبات عميق منذ عين رئيس النظام عليها أحد المقربين.. ممن لا يعرف عن المدنية والحداثة الكثير، فأدارها كما تدار الحوانيت و”المخابز”.. دون حسيب أو رقيب.
وفي هذا الخضم تفاقم ملف الاسترقاق المقيت الذي لم تكن إدارة الدولة له موفقة، فبعد نكران للظاهرة وتسفيه للمشتغلين بفضحها من حقوقيين ومناضلين وصل في بعض الأحيان حد الحبس والضرب.. عادت تحت الضغط للاعتراف ضمنيا بها، وتقديم من يتهمون بممارستها إلى السجن دون تدقيق أو تمييز في جو عارم من الإرباك الشديد وغياب القانون والضبابية المفرطة والشائعات التي سرت في أجزاء هذا الوطن سريان النار في الهشيم، وراح ضحيتها الكثير من أهلنا الذي وجدوا أنفسهم بدون شغل، والأدهى من ذلك والأمر والأخطر..اهتزاز العلاقة بين مكونات الطائفة الواحدة من ما ستكون له تداعيات خطيرة على مستقبلنا.
أما الحرب المعلنة على الفساد فلم تكن أكثر من تصفية حسابات ضيقة جدا، فحين تجد المفوض السابق لحقوق الإنسان يسجن بتهمة إضاعة مبلغ 236 مليون أوقية، ثم تجد الطرف يُغضُّ عن رجل آخر كشفت الوثائق أنه اختلس من مال هذا الشعب أكثر من 5.5 مليار أوقية، وأنه أضر بسونمكس وسوملك والبنك المركزي وسومغاز.. تكتشف مدى تفاهة هذه الحرب، واستغلالها سلطة الدولة وهيبتها، واستقوائها بالمقدرات الوطنية، في معارك جانبية صغيرة وصولات وجولات قبلية وجهوية لا تمت بأي صلة إلى المصلحة العامة.
وقبل كل ذلك، ومنذ الأيام الأولى بعد انقلاب 2008، سمع الموريتانيون لأول مرة في تاريخهم، نزول القيادة إلى مستوى جديد في التعاطي مع مواطنيها على أسس قبلية .. وكم نُقل لنا حينها أن “فلان”.. هاجم القبيلة كذا والقبيلة كذا، ووصف المنطقة كذا بالعبارة النابية كذا.. لم نعر الموضوع كبير الاهتمام حينها وقلنا إن الرجل حديث عهد بإدارة الشعوب، وهو في مواجهة مع معارضي انقلابه، وبعد ذلك كان في حملة انتخابية طاحنة، وكلام الحملات معفو عنه، لكن للأسف الشديد تبين أن الرجل يقصد ما يقوله، فقد تكرر النزول إلى ذلك الدرك مرارا، وفي أحيان كثيرة يكون علنا، ولعلكم تذكرون الهجوم اللا أخلاقي على المرحوم يعقوب ولد دحود وهو في سكراته، ذلك الهجوم الذي لم يوفر أسرته وأهله.
الدولة الوطنية اليوم تمر بلحظات صعبة، فمع أنه لا يزيد عدد موظفيها الرسمين عن الأربعين ألف، وهي نسبة ضئيلة ومضحكة أقل من أعداد موظفي مطار مدينة دبي الدولي الذين يربون على الخمسين ألف موظف،غير أن ضئالة موظفي دولتنا العتيدة لم يمنعهم من شظف العيش وسوء الحال.. فغالبيتهم اليوم تعتصم في الشوارع والساحات العامة في نواكشوط وبقية مدن البلد، انتظارا للحظة الفرج الذي قد يأتي وقد لا يأتي.
هذه التحديات الجمة والصعاب المقلقة وغيرها كثير.. تكاد تعصف بأسس هذا الوطن وتقذف به إلى هوة سحيقة، ومن ما يساهم في ذلك جهل وتجاهل المشرفين على الشأن الوطني، وارتباكهم الشديد في ابسط الأمور وأتفهِهَا وجعلهم من سياسة “التأجيل” إلى أجل غير مسمى.. حتى لأخطر الملفات وأوثقها صلة بمصائر الناس ولأوطان، ثم إن واقعا دوليا وإقليميا صعبا يضرب الجميع مما يجعل الأحبة والأصدقاء في شغل عنك بواقعهم، ويُخيّل إلى الأعداء أن حل مشاكلهم يمر بزيادة مشاكلنا نحن.
لذلك لا غرابة أن نطرح اليوم بحسرة كبيرة وتخوف بالغ .. على ضوء كل ما قلنا وما لم نقله سؤالا: مؤداه هل نحن على أبواب مرحلة سوف تفضي إلى نهاية هذا الوطن الحلم الذي لم ـ ولن ـ نكن بدونه جميعنا شيئا؟.