ركب بيدرو سانشيز سيارة من نوع “بيجو 407″، متجولًا في إسبانيا على متنها، متنقلًا بين أنصار حزب العمال، أملًا في كسب ثقتهم في الانتخابات التمهيدية للحزب.
لم يكن هذا الشاب معروفًا في الأوساط السياسية آنذاك، لكنه كان مصدر إزعاج لقيادة الحزب المسيطرة على العمال. كان لديه هدف واحد: الانتقام من معارضيه داخل الحزب الذين أرغموه في عام 2014 على الاستقالة من أمانة الحزب والتنازل عن مقعده البرلماني.
عاد الرجل من رحلة استجمام على شواطئ كاليفورنيا وهو يحمل رغبة كبيرة في انتزاع قيادة الحزب ممن يُطلق عليهم “البارونات”، وهو ما تحقق من خلال فوز غير متوقع في الانتخابات التمهيدية لعام 2017.
بيدرو سانشيز، الرجل الذي يحرص دائمًا على الظهور بكامل أناقته، يرتدي عادةً بدلة داكنة متقنة التفصيل، مع قميص أبيض وربطة عنق متناسقة، يُوصف بأنه سياسي مرن، براغماتي، لا يتردد في عقد صفقات مع خصومه السياسيين، ويُعرف بامتلاكه قدرة كبيرة على التفاوض، وهو ما مكّنه من البقاء في رئاسة الحكومة رغم الهزات التي تعرض لها حزبه، خاصة في الانتخابات الأخيرة.
لعبة الحظ
ولد بيدرو سانشيز في 29 فبراير 1972 في مدريد، وينتمي إلى عائلة من الطبقة الوسطى، حيث نشأ في بيئة مثقفة؛ فوالده كان اقتصاديًا ومديرًا، ووالدته موظفة في الضمان الاجتماعي ومحامية، ما شكّل له خلفية متوازنة بين العلوم الاقتصادية والقانون.
بدأ سانشيز مسيرته السياسية مبكرًا، إذ انضم إلى الحزب الاشتراكي عام 1993، وتدرج في المناصب بدءًا من عضوية مجلس بلدية مدريد، مرورًا بتمثيله لمقاطعة مدريد في البرلمان.
في عام 2014، تولّى قيادة الحزب بعد فوزه في أول انتخابات داخلية، لتبدأ معها رحلته القيادية التي بلغت ذروتها بصعوده إلى رئاسة الحكومة عام 2018، عقب نجاحه في تقديم طلب لحجب الثقة عن الحكومة السابقة.
كانت رحلته مليئة بالتحديات والصراعات الداخلية في الحزب، ولعب الحظ دورًا كبيرًا في مسيرة صعوده؛ فقد اجتمعت له ثلاثة عوامل رئيسية: الجهد، والإيمان المطلق بالنفس، والفرصة الذهبية التي أُتيحت له عندما دفع به جناح داخل الحزب كمرشح لرئاسته نكاية بجناح آخر، وهو ما تحقق في عام 2014.
لكن سرعان ما تبيّن أن سانشيز لم يكن دمية تُحرّك، بل تعلّم سريعًا كيف يمارس السلطة، وتمكن من ترسيخ موقعه كأمين عام للحزب متحديًا الجناح الذي أوصله.
كانت مواجهته للمتنفذين في الحزب مكلفة سياسيًا، إذ حاصروه ودفعوه إلى الاستقالة، ما اضطره للتخلي أيضًا عن مقعده في البرلمان.
عاد من إجازة استجمام، وهو يحمل رغبة عارمة في العودة إلى الحزب. وقد شكّلت تلك العطلة فرصة للمراجعة والتأمل في كيفية إسقاط المتنفذين داخله، وهو ما تحقق لاحقًا حين منحه أنصار الحزب ثقتهم من جديد في انتخابات تمهيدية أعادت إليه زعامة الحزب.
مفاوض برغامتي
وبما أن الحظ يلعب دورًا كبيرًا في الحياة السياسية لبيدرو سانشيز، فقد عاد ليظهر مجددًا عام 2018، حين نجح في تمرير تصويت لسحب الثقة من الحكومة، مما أوصله إلى رئاسة الحكومة رغم أن نتائج استطلاعات الرأي آنذاك كانت متدنية، ووضعته في المرتبة الرابعة.
استطاع تشكيل حكومته في غضون ساعات، وضمت شخصيات تكنوقراطية، وهي حكومة نظر إليها كثير من الإسبان باعتبارها تفتقر إلى المقومات اللازمة للبقاء والاستقرار، وتوقعوا سقوطها خلال أقل من عام.
ولم يخب ظن المتشائمين، إذ دعا سانشيز إلى انتخابات جديدة في عام 2019، بعد أن أسقط أحد أحزاب الائتلاف ميزانية الدولة، لتدخل إسبانيا في دوامة من الانتخابات نتيجة فشل تشكيل حكومة مستقرة، ما اضطره إلى القبول بالتحالف مع أحزاب كان يرفض سابقًا التحالف معها، والخضوع لشروطها.
يُعرف سانشيز بقدرته الفائقة على عقد الاتفاقيات مع مختلف الأحزاب، فهو يفاوض ويتنازل، وتظل خارطة تحالفاته السياسية متغيرة؛ فالأولوية بالنسبة له أن يبقى حزبه على رأس الحكومة.
ومن بين أكثر الاتفاقيات إثارة للجدل تلك التي أبرمها مع حزبين انفصاليين من إقليم كتالونيا، وتتضمن إلغاء ديون حكومة الإقليم بقيمة 15 مليار دولار، بالإضافة إلى التشريع الأكثر حساسية: قانون العفو، الذي استفاد منه مئات المحكومين في قضية الانفصال الكتالوني غير القانوني، والذي بلغ ذروته عام 2017 بإعلان استقلال أحادي الجانب.
صداع الهجرة
يبقى ملف الهجرة غير النظامية واحدًا من أكثر الملفات التي تُشكّل صداعًا لبيدرو سانشيز، في وقت تتصاعد فيه حملات اليمين المتطرف ضد المهاجرين في إسبانيا.
وقد تبنّى رئيس الحكومة الإسبانية رؤية مزدوجة للهجرة، تقوم على مبدأ التوازن بين البعد الإنساني والواقعية السياسية. فمنذ توليه رئاسة الحكومة، سعى سانشيز إلى رسم سياسة هجرة تتجاوز المقاربة الأمنية البحتة.
وفي هذا السياق، أطلقت حكومته برامج للهجرة الدائرية، تتيح استقدام عمال موسميين من دول إفريقيا جنوب الصحراء، خاصة موريتانيا والسنغال وغامبيا، ثم إعادتهم إلى بلدانهم بعد انتهاء فترة العمل.
هذا النموذج، الذي تقوم فلسفته على التناوب وليس الاستقرار الدائم، يُقدَّم كحلّ وسطي يُخفف من ضغوط الهجرة غير النظامية، ويعزز في الوقت نفسه التعاون مع دول المصدر.
ولا يتردد سانشيز في التأكيد على البُعد الاقتصادي للهجرة؛ ففي أكثر من مناسبة، شدد على أن “الهجرة تمثل فرصة”، معتبرًا أن المهاجرين يشكلون رافدًا مهمًا لدعم أنظمة التقاعد والضمان الاجتماعي، في بلد يعاني من شيخوخة ديموغرافية متزايدة.
ووفقًا لما كشفه سانشيز، فإن أكثر من نصف الشركات الإسبانية تواجه صعوبات في سد حاجتها من اليد العاملة، في وقت يُتوقع أن تخسر أوروبا خلال السنوات المقبلة أكثر من 30 مليون شخص في سن العمل، بسبب تراجع معدلات الإنجاب وشيخوخة السكان.
ويُشكّل المهاجرون نحو 14.2% من السكان، لكن تأثيرهم في سوق العمل يتجاوز هذه النسبة بكثير؛ فبحسب البيانات الحكومية، يسجل المهاجرون معدل نشاط اقتصادي يفوق معدل المواطنين الإسبان بأربع نقاط مئوية، ويساهمون في 10% من إيرادات الضمان الاجتماعي، مقابل 1% فقط من الإنفاق العام عليهم، نظرًا إلى أن غالبيتهم من الشباب غير المستفيدين من المعاشات أو من الخدمات الصحية المكثفة.
كما تؤكد الحكومة الإسبانية أن المهاجرين مسؤولون عن ربع نمو الناتج المحلي الإجمالي للفرد في السنوات الأخيرة، ولولاهم لانهارت قطاعات حيوية مثل الفلاحة، والبناء، والسياحة.
وبينما تتعاظم التحديات السياسية والاقتصادية، ويشتد ضغط الشارع واليمين المتطرف، يستعد بيدرو سانشيز لخوض انتخابات جديدة، حيث يعود مرة أخرى إلى رهانات غير مضمونة.
فهل يسعفه الحظ مجددًا في كتابة فصل جديد من مسيرته السياسية، أم أن اللعبة هذه المرة ستكون أقسى من أن تُخاض بالحسابات القديمة؟