أتناول الكلام وأنا في حيرة من أمري، لأنني لا أصدق أن أرى هذا الحشد، هذا النوع وهذا التنوع وهذا العدد متجمهرا ليس حول بضاعة ولا حول مال ولا حول مصالح ضيقة أنانية وآنية.
كل هذا الجمع تناسى مشاربه وانتماءاته فقط من أجل الحق ومن أجل كلمة حق في شخص تمثلت فيه القيم الرفيعة التي يؤمن بها هذا المجتمع.. صدق يشبه صدق الصحابة وأمانة ووفاء السموأل وثبات الأحنف ابن قيس، إنه شيء يشبه الحلم، بل قد يكون حلما.. وإذا كان حلما فليطل، لأنه حلم جميل أن نتدارك أنفسنا وأن نحاول إعادة الروح إلى مجتمعنا بتكريم شخصية نادرة، نموذجية أنتجها هذا المجتمع ثم تركها على الهامش كالمصحف في بيت الزنديق.
إن الأستاذ الذي نكرمه اليوم هو ظاهرة، شخص من هذا المجتمع الذي تعرفونه، لم يقض يوما واحدا في جمع المال، شخص كلما رأيته، مهما طال عهدك به تراه مهموما بواقع مجتمعه، ومستقبله قلقا على مصيره وعلى حضارته، وحتى على أسسه نفسها.
من أبرز ما يتجنبه الأستاذ محمذن مغالطة الناس، إنه يريد أن يظهر لهم كما هو، منسجما مع نفسه – باطنه وظاهره متطابقان – يرفض بقوة التطبع والتصنع، يبتعد عن المظهرية والامتثالية السطحية السائدتين ابتعاد من يخشى عدوى الجذام… يبدو أحيانا لمن لا يعرفه أنه في هذا المضمار مُغالٍِ في الصرامة، بل يخيل للبعض أنه نوع من التعالي بينما هو مجرد صدق مع النفس وأمانة مع الآخرين.
وعلاوة على ذلك فإنه قاس على نفسه إلى درجة أنه يحاسبها حسابا عسيرا وكأنه يرفض كل ما يأتي بدون مجهود أو بمجرد صدفة، وهو يستحي حتى أن يكون الحظ حليفه، لذا لا يقبل أن يغبن أي أحد، بل يفضل أن يبقى دائما مغبونا معتبرا أن الأسبقية والأحقية للآخرين ثم إنه لم يتجرأ مهما كانت الظروف على المطالبة بأي امتياز أو باسترجاع حق ضائع.
إن مثل هذا الإقدام فوق طاقته وقد أخفق في اقتحام أسوار تلك الشجاعة السائدة بيننا.
إبان ممارسته للمسؤوليات الإدارية والسياسية في الدولة لم تلتبس عليه الجيوب: جيبه الخاص والميزانية العامة، كان قد وضع بينهما سدا حديديا منيعا. إن هذه النفسية وهذا السلوك هو ما يفسر ضمور محفظته النقدية وتواضع منزله.إن الأمور لها أسباب وتعليل. إن هذه الهيأة، هذا المسار المدموغ دوما بطابع الجدية والنزاهة الفكرية والذي لم تهزه – عبر الزمن- العواصف العاتية ولا الأمواج الهوجاء، ولا الزلازل المدمرة: هو الذي نحت من هذا الرجل مثالا وقدوة ناهيك عن تضحياته من أجل هذه اللغة المضطهدة التي تأسس مرصدكم هذا من أجلها. إن هذا ما علمتني إياه علاقة طويلة بالرجل سيحل يوبيلها الذهبي في أغسطس آب المقبل، فطول هذه العلاقة وأحيانا المتابعة والمراقبة عن بعد لا يعني أننا كنا دائما في خندق واحد أو أن آراءنا كانت دائما متطابقة ولكن كنا في الفترات المفصلية نتشاور، التشاور مبدأ سليم وصحيح بيد أن التفاهم ليس شرطا.
أتذكر أننا تشاورنا في حدود العام 1973 إبان مراجعة الاتفاقيات مع فرنسا ودخول التعريب مرحلة تطبيقية، كما تشاورنا بعد إعلان الديمقراطية عام 1991، في هذه المناسبة الأخيرة كان معنا الأستاذ اسماعيل ولد أعمر والأستاذ أحمد ولد سيدي بابا وخرجنا بثلاثة مواقف مختلفة رغم التقدير والاحترام المتبادل. قد يتساءل أحد: وهل تشاورتم في أمر ما سيعرف فيما بعد ب «العاشر يوليو»؟ هذا ما أريد أن ألقي عليه ضوءا باهتا لأول مرة بعد ما يزيد على ثمان وثلاثين سنة، لماذا كل هذا الزمن؟ ليس قطعا لأنه من الأمور المحظورة أو التي تقع تحت دائرة الضوء وإنما لأن الفرصة لم تتح، وأي شيء لم تتح له فرصة ينبغي أن يبقى في مكانه، أي في الصدور إذ ليس من اللازم أن نبوح بكل شيء نزولا عند رغبة الفضوليين، وفي اعتقادي أن الإنسان عندما يودع الحياة، عندما يتوارى عن الأنظار، عليه أن يحتفظ بأشياء. هذا من خصائص شخصيته، بل من سمات إنسانيته. عليه أن لا يكون كقربة الماء الفارغة اليابسة وإنما كقربة الدهن (العكة) لأن العكة ترشح دائما إلى آخر لحظة ببقية رب ودهن.
فيما يخص موضوع العاشر يوليو أقول إنني أقدمت على ذلك المشروع بتهيب، بتهيب الكاهن، الشامان، أمام النار المقدسة، كما يشهد على ذلك أحد الحاضرين في هذه القاعة وهو الأستاذ ممد ولد أحمد. هذا لا يعني أنني لم أندفع فيما بعد عندما تأكدت أن المجتمع صار في مأزق. بعدما اقتنعت بضرورة تلك العملية الجراحية بادرت بالهرولة إلى باب الأستاذ محمذن لأتشاور معه في الأمر، ترى كيف يكون التشاور في موضوع انقلاب مع شخص عضو في الحكومة المهددة؟ إن ذلك مرده إلى الأسباب التالية:
الأول: هو أنني كنت أعتقد أن الحكومة القائمة آنذاك هي ائتلاف بين جهتين: حزب الشعب والأستاذ محمذن ولد باباه لأنه حسب تقديري لا يعتبر أن لأحد مِنـّةٌ عليه فهو لم يكن التابع المأمور البسيط الذي ينفذ التعليمات بصفة عمياء. لقد كان تعيينه وزيرا بمثابة ولوج تيار أساسي – يعبر عن ضمير الشعب الموريتاني- إلى الحكومة لأول مرة، وكان لا بد لحكومة تعول على التمويلات العربية وبالذات في المجهود الحربي، وتراهن على المساندة العربية في المحافل الدولية من وجود شخص على الواجهة يمثل أبرز رمز للهوية العربية في الساحة.
الثاني: كنت متأكدا أن الأستاذ محمذن في درجة من التعلق بشعبه – تشبه الشفقة – من شأنها أن تعصمه من التعصب لموقف قد يكون في النهاية ضارا بالمجتمع.
الثالث: هو أنني أنظر إلى الأستاذ محمذن نظرة المسيحيين للقديس فهو عندهم مأمون الشر. بإمكان أي إنسان أن يبوح له بكل الخطايا والأخطاء والجرائم وهو مطمئن. الأستاذ محمذن من هذا المنطلق مأمون المكر. من يعرفه لا يخشاه. جئت إليه المرة الأولى بعد العشاء لأجده في تقديري، قد ودع أصحاب مائدته وهو في فراغ لأحدثه في قضية تنطوي على هذه الدرجة من الحساسية والخطورة.. فوجدته محاطا بلفيف كثيف من أصدقائه يتناولون شايا ممددا بعد العشاء، وبعد نهايته لم يشعروا إلا بضرورة متابعة الحديث الشيق والرفيع الذي كان يشغلهم، فشعرت في حدود الساعة الثانية عشرة أو قبلها بقليل أن الحلقة تتجدد وتنتعش بمثابرة، ضد رغبتي. فهمست بوشوشة غير منطوقة بوضوح اتجاه الأستاذ توحي بأنني أود الإنسحاب، فخرج معي الأستاذ ليودعني عند الباب فانتهزت الفرصة لأبوح له بشيء واحد، ليس بإمكان أي أحد أن يفك لغزه إلا أنا فقلت له «أريد أن أراكم للحديث» فهم الأستاذ الأمر على ظاهره طبعا وبادر كعادته معلنا استعداده لذلك في أي وقت… ولأنني كنت متأكدا من صدق استعداده عدت إليه ثانية، وقت هدوء الليل وسحر جلاله حيث كنت أخال ذلك الظرف مناسبا للخوض في أمر كهذا. لكن العقبة الكأداء تكررت حتى لقد خيل إلي أنها مؤامرة داخل المؤامرة مع أنها مجرد صدفة، إنما هي جماعة تتناول أطراف حديث عام وشيق يتوسطها شخص جذاب يلتقون بعد يوم من العمل المكتبي المرهق والممل. إغراء مثل هذه الجلسات لم تتسرب إلي عدواه لأن الجماعة خالية البال، أما أنا فإنني أشبه بشخص يخفي بين جناحيه قنبلة ضخمة من حجم قنبلة هيروشيما. هذا القلق النسبي ترافقه مراقبة الوقت لأن علي أن لا أنتظر – تحت أي طائلة- الساعة الثانية عشر ليلا، لأن جوب الشوارع بعد ذلك الوقت بالنسبة للدوريات المنتشرة في ذلك الزمن هو شيء مريب، بل مثير.. يجب تجنبه بحزم سيما لشخص قد لا تكون المخابرات تثق فيه ثقة عمياء.
للمرة الثانية غادرت منزل الأستاذ محمذن قبل منتصف الليل بقليل تحرسني حفاوته الصادقة التي لا يطريها أي تطبع زائف من جهة وخيبة الأمل في الوصول إلى غايتي والخوف من لقاء دورية لها فضول في غير محله أو انتباه زائد، من يدري؟ … والواقع أنني عندما أخرج إلى الشارع في ذلك الوقت المتأخر نسبيا يخيل إلي أن القنبلة التي ترن في خلدي أصبحت تاجا على رأسي ظاهرا للعيان.
تكررت زياراتي على هذا النمط في نفس الوقت الذي أراه الوحيد المناسب ولم يسعفني خيالي باختيار وقت بديل. كنت دائما وأنا أقدم رجلا وأؤخر أخرى، وأغادر وأنا ألطف سيري لأطرد العجلة والاضطراب وأتظاهر بالتوازن والثبات في الوقت الذي أتمنى لو يكون لي جناحان لأطير.
بلغ عدد الزيارات ثلاثا ثم أربعا، وعندما وصلت إلى سبع، وهو الرقم المنبئ، السحري، الذي تعودنا ونحن صغار على أن به سرا، قلت في نفسي –لأنني خرافي- هذا الأمر غير مأذون فيه.
انتهت المحاولات اليائسة بل البائسة دون أن أنبس ببنت شفة أو تلوح مني إشارة توحي للأستاذ محمذن بمبتغاي وبما أريد تناوله معه. لقد كنت أعتبر أن أمرا كهذا بمثابة كتلة واحدة لا تتجزأ ليست له مقدمة منفصلة فإما أن يقذف به دفعة واحدة وبكل حيثياته ومرتكزاته الشاملة وإما أن يترك، لأن كل تناول مجتزأ له سيكون ضارا، ربما، فضلا عن كونه قد يشكل خطرا على سلامة المعنيين. المهم أن محاولاتي في التحدث إلى الأستاذ محمذن استمرت زهاء شهرين أو ثلاثة وكانت في الربع الأخير من سنة 1977 وربما طفحت على الشهر الأول من سنة 1978.
قد يقول قائل لو تم هذا التشاور وتحقق اللقاء هل كان سيغير سير الأحداث؟ هذا ما ليس عندي رد قطعي عليه، فثمة أسباب لقول لا، وأخرى لقول نعم.
ومهما يكن من أمر ينبغي أن لا نحكم على الأمور انطلاقا من الظروف الحالية ومن نفسية الأشخاص الآن وإنما انطلاقا من المبدأ القائل: إن الزمن نهر، مياهه جارية، وليس بإمكاننا أن نستحم فيه مرتين مهما فعلنا.
ما هو المتاح أو المطلوب أو المحتمل بالنسبة للأستاذ محمذن؟
لا أظن أن أي أحد منكم يتصور أنني جئت إليه لأقول له: أريد أن تشارك معنا ! لأن ذلك طلب دارج من جهة ومن جهة لأنني أعرف أن أخلاقيته لا تسمح له باتخاذ موقف قد يفسر فيما بعد على أنه غدر. حتى أنا الذي كنت في أسفل السلم عندما انطلقت الرصاصة الأولى في حرب الصحراء في ديسمبر كانون الأول 1975 أعلنت في اجتماع رسمي معارضتي المطلقة لتلك الحرب لأريح ضميري ويشهد على ذلك الأستاذ بارو عبد الله رئيس الاجتماع المذكور وهو آنذاك وزير دولة. ولا شك أن الأمر كان أصعب بالنسبة للأستاذ محمذن وليس بإمكانه أن يفعل شيئا، معنويا، إلا بهد أن يقطع حبل السرة باستقالة من الحكومة وإعلان معارضة الحرب القائمة. إن هذا بالضبط ما كنت أطمح إليه لأنني أعرف أنه لم يكن على الإطلاق من صقور تلك الحرب، وله من بعد النظر والحرص على سلامة الكيان الموريتاني والجرأة عند الاقتضاء ما لا يضع الأمر في طور المستحيل وخاصة إذا نمى إلى علمه تبلور مبادرة عسكرية وليدة سينظر إليها بالضرورة على أنها مغامرة ضارة وعمل يجب قطع الطريق عليه واحتواؤه بمبادرة سياسية مدنية منتجة تتمتع بالمصداقية. كان قيام مشروع سياسي جماهيري من هذا النوع هو الاحتمال الأفضل بل هو أوج التوقع وكان هو الخيار الوحيد والبديل الذي من شأنه أن يثنيني شخصيا عن المشروع العسكري الناشئ.
كانت تلك الاستقالة من شأنها لو تحققت أن تعيد الحكومة إلى سابق عرجها إبان عهد المنظمة الإفريقية الملغاشية ‘’OCAM’’ وتفضي إلى تجربة من نوع جديد من شأنها أن تغير مجرى التاريخ وتجنبنا الكثير من الانزلاقات والزيغ المتكرر الذي لا لزوم له. لكن يقال: «إن الرجال هم الذين يصنعون تاريخ أنفسهم ولكنهم لا يعرفون التاريخ الذي يصنعون».
كانت الانقلابات والأنظمة العسكرية تتمتع لدينا في تلك الفترة بسمعة سيئة نتيجة لانقلاب حافظ الأسد الذي قضى على التجربة التقدمية في دمشق وبالنتيجة حجَّم الثورة الفلسطينية – ونحن لا نستعمل آنذاك التخفيف أو التورية السائدة الآن: «المقاومة»- بل وضعها في قفص، كما كنا نتابع بمرارة واشمئزاز تجربة زمرة الكولولنات، السيئة الصيت، الحاكمة في اليونان. ثم جاءت الطامة الكبرى وهو الانقلاب المفزع الذي دبره العم سام في اتشيلي على نظام «الوحدة الشعبية» التقدمي بقيادة الرئيس سلفادور آلاندي الذي اغتاله الدموي بيونوشيه. إلا أن ثورة «القرنفل» في البرتغال التي فاجأتنا بها «حركة القوات المسلحة» صالحتنا من جديد مع الانقلابات فقضت تلك الحركة على آخر معاقل فاشستية كايتانو -خليفه سالازار- وقذفت بالحركات الثورية والتقدمية السرية إلى الواجهة وأعلنت استقلال المستعمرات البرتغالية في إفريقيا.
كان الرجل القوي في «حركة القوات المسلحة» الجنرال الثوري الشاب أوتلو دي كرفالو بالنسبة للكثير منا، هو امتداد ووكيل على الأرض للثوري الذي لا يلين تشي ڭيفارا.
استعادت عندنا بذلك الانقلابات بريقها وألقها كوسيلة تغيير وليس كصيغة حكم.
نَظَّرَ المرحوم الرائد جدو ولد السالك مرارا لنموذج ليس لجنة العسكرية وإنما «حركة القوات المسلحة» كقوة حية تضم الجنود والضباط في الدول النامية إلى جانب النقابات العمالية والمنظمات الشبابية والحركات السياسية التقدمية والثورية وضرورة قيام جبهة واسعة من هذه المكونات تقود نضال الجماهير الشعبية، إلا أنه لم ير في محيطه الآذان الصاغية والتأني للنظر في أي نموذج مستقبلي. وسرعان ما تلاشت الفكرة في ضوضاء وملاحقة الأحداث اليومية الملحة وإكراهات تحضير التغيير.
قلت في مستهل كلامي إنني أخشى أن نكون في حلم وإذا لم يكن حلم نوم فأخشى أن يكون حلم يقظة.
إن أحلام اليقظة تنتاب الناس الذين هم غير متصالحين مع واقعهم، فيبدلون الواقع بأوهام وتصورات من نسج الخيال ويعيشون وراء أسوارها المنيعة، فهي تعويض عن المرارة واليأس والبؤس والإحباط والكبت.
لا شك أن هناك أكثر من سبب كي تطوف بنا هذه الظاهرة المرضية.
إذا كنا اليوم لسنا في العالم المحسوس وإنما في حالة من مراحل ما وراء الواقع، في حلم يقظة مثلا فأهلا وسهلا به لأنه يتيح لنا ما لم يتسن لنا من قبل وهي فرصة ممتعة لأنها قد تكون أول مرة يكرم فيها عندنا شخص انطلاقا من معايير تقوم على الإخلاص والصدق، بعيدا عن النفاق والمحاباة.
خطورة حلم اليقظة تبدأ عندما تنتفي الحدود بينه وبين الواقع فندخل مرحلة الجنون، والجنون نوعان الجنون المنتج مثل جنون فانقوق ونيتشه والجنون العقيم وهو الأكثر. هناك أيضا الجنون الجماعي. «أهل لعڳل» المشهورون بدقة التعبير أعطونا في الأسابيع الماضية صورة معبرة عنه، قالوا إنهم رأوا أناسا بالمئات من فئة الفقراء يأخذون آخر فلس من ادخارهم، عبارة عن درهم الأرملة، ويرمونه في الرمال المتحركة وبعد ذلك يبحثون عنه بواسطة جهاز كاشف. إنه مشهد يشبه الجنون إن لم يكن هو الجنون بعينه.
وما قولكم في مجتمع يظن أنه سيصل إلى أي شيء دون لغته؟ إن ذلك هو الجنون الأكبر.
شاءت الأقدار أن هذا البلد تغير فيه كل شيء، تغيرت فيه الأمور مرارا وتكرارا رأسا على عقب لكن شيئا واحدا لم يتغير ألا وهو قهر اللغة العربية واضطهادها.
ما مرد ذلك؟ هل هو عجز بنيوي أم إرادة مفككة أم عدم تمييز بين التابع والأساس، بين الفرع والأصل، بين الثانوي والمهم، بين المهم والأهم؟
إن المسألة وصلت مستوى المأزق العقلي. لا أحد يعادي اللغة العربية ظاهرا ولكن لا أحد يبادر في أمرها. إن دولة اليوم تعمل بلغة غير لغتها أصبحت مهزلة، مهزلة توحي بالشفقة أكثر منها تثير الضحك.
إن «تطفيل» اللغة العربية الذي تعوَّد عليه هذا البلد لن يدوم طويلا على هذا النسق بعدما يزيد على نصف قرن، فإما أن نعترف لها بالبلوغ ونسمح لها بالحصول على جميع حقوقها المغتصبة من طرف وريث غير شرعي وإما أن نعترف بأننا نسير في موكب وأدها ونسلم بأنها التحقت بأختها، أو قل أمها، المغفور لها: السريانية التي فقدناها دون أن نعرف متى وكيف.
هل تتبع لغة القرآن عندنا للغة الإنجيل في المشرق؟ هذا هو مصدر الحيرة والتساؤل مع فارق كبير بين الحالتين وهو أن السريانية ورثتها سليلتها: اللغة العربية.
وإذا كان حاضر السريانية هو مستقبل العربية عندنا وما آلت إليه فبودي أن أُذكّر بذلك الحاضر. إن السريانية اليوم تستعمل في الطقوس الدينية المسيحية الشرقية وأصبحت تتطلب درجة عالية من التخصص والاطلاع على كتبها المُعمّاة في نقطة من اللاهوت أو ركن من العقيدة وما حقيقة المشادة حول ذات المسيح بين نسطور السوري وسيريل المصري وما تفاصيل قصة أصحاب الكهف التي هي أول لغة تسجل بها في القرن الخامس.
ومهما يكن من أمر وسواء كنا خارج الواقع أو فيه فما اهتدينا إليه اليوم لا يكفي ولا يفي بالواجب في حق الأستاذ محمذن.
علينا اليوم أن نتوج هذه اللفتة المتأخرة بلقب يميز هذا الأستاذ، صاحب الشخصية الكثيفة، وأريد أن أعطي نماذج في هذا السياق:
في إحدى الإمارات الموريتانية القديمة كان هناك رجل من أهل القيادة يقال له «أعلي» وعندما نضج وظهرت فيه خصال محمودة لقب ب «أعلي والناس» والواو ليس من الكلمة التي تليه وإنما هو عطف، فصار عندهم «أعلي» يساوي الناس معنويا.
هناك صيغة أخرى: عند ما اطلع «ساشاكتري» على كتابات «آناتول فرانس» قال: هو فعلا فرانس، أي فرنسا، وأضاف: من المناسب أيضا أن يسمى «جوته» المسيو آلمانيا وأن يسمى «سيرفانتيس» المسيو اسبانيا.
وإذا كانت موريتانيا محل جدل فلنعط لصاحبنا اسم الصحراء الكبرى.
كل هذا الجمع تناسى مشاربه وانتماءاته فقط من أجل الحق ومن أجل كلمة حق في شخص تمثلت فيه القيم الرفيعة التي يؤمن بها هذا المجتمع.. صدق يشبه صدق الصحابة وأمانة ووفاء السموأل وثبات الأحنف ابن قيس، إنه شيء يشبه الحلم، بل قد يكون حلما.. وإذا كان حلما فليطل، لأنه حلم جميل أن نتدارك أنفسنا وأن نحاول إعادة الروح إلى مجتمعنا بتكريم شخصية نادرة، نموذجية أنتجها هذا المجتمع ثم تركها على الهامش كالمصحف في بيت الزنديق.
إن الأستاذ الذي نكرمه اليوم هو ظاهرة، شخص من هذا المجتمع الذي تعرفونه، لم يقض يوما واحدا في جمع المال، شخص كلما رأيته، مهما طال عهدك به تراه مهموما بواقع مجتمعه، ومستقبله قلقا على مصيره وعلى حضارته، وحتى على أسسه نفسها.
من أبرز ما يتجنبه الأستاذ محمذن مغالطة الناس، إنه يريد أن يظهر لهم كما هو، منسجما مع نفسه – باطنه وظاهره متطابقان – يرفض بقوة التطبع والتصنع، يبتعد عن المظهرية والامتثالية السطحية السائدتين ابتعاد من يخشى عدوى الجذام… يبدو أحيانا لمن لا يعرفه أنه في هذا المضمار مُغالٍِ في الصرامة، بل يخيل للبعض أنه نوع من التعالي بينما هو مجرد صدق مع النفس وأمانة مع الآخرين.
وعلاوة على ذلك فإنه قاس على نفسه إلى درجة أنه يحاسبها حسابا عسيرا وكأنه يرفض كل ما يأتي بدون مجهود أو بمجرد صدفة، وهو يستحي حتى أن يكون الحظ حليفه، لذا لا يقبل أن يغبن أي أحد، بل يفضل أن يبقى دائما مغبونا معتبرا أن الأسبقية والأحقية للآخرين ثم إنه لم يتجرأ مهما كانت الظروف على المطالبة بأي امتياز أو باسترجاع حق ضائع.
إن مثل هذا الإقدام فوق طاقته وقد أخفق في اقتحام أسوار تلك الشجاعة السائدة بيننا.
إبان ممارسته للمسؤوليات الإدارية والسياسية في الدولة لم تلتبس عليه الجيوب: جيبه الخاص والميزانية العامة، كان قد وضع بينهما سدا حديديا منيعا. إن هذه النفسية وهذا السلوك هو ما يفسر ضمور محفظته النقدية وتواضع منزله.إن الأمور لها أسباب وتعليل. إن هذه الهيأة، هذا المسار المدموغ دوما بطابع الجدية والنزاهة الفكرية والذي لم تهزه – عبر الزمن- العواصف العاتية ولا الأمواج الهوجاء، ولا الزلازل المدمرة: هو الذي نحت من هذا الرجل مثالا وقدوة ناهيك عن تضحياته من أجل هذه اللغة المضطهدة التي تأسس مرصدكم هذا من أجلها. إن هذا ما علمتني إياه علاقة طويلة بالرجل سيحل يوبيلها الذهبي في أغسطس آب المقبل، فطول هذه العلاقة وأحيانا المتابعة والمراقبة عن بعد لا يعني أننا كنا دائما في خندق واحد أو أن آراءنا كانت دائما متطابقة ولكن كنا في الفترات المفصلية نتشاور، التشاور مبدأ سليم وصحيح بيد أن التفاهم ليس شرطا.
أتذكر أننا تشاورنا في حدود العام 1973 إبان مراجعة الاتفاقيات مع فرنسا ودخول التعريب مرحلة تطبيقية، كما تشاورنا بعد إعلان الديمقراطية عام 1991، في هذه المناسبة الأخيرة كان معنا الأستاذ اسماعيل ولد أعمر والأستاذ أحمد ولد سيدي بابا وخرجنا بثلاثة مواقف مختلفة رغم التقدير والاحترام المتبادل. قد يتساءل أحد: وهل تشاورتم في أمر ما سيعرف فيما بعد ب «العاشر يوليو»؟ هذا ما أريد أن ألقي عليه ضوءا باهتا لأول مرة بعد ما يزيد على ثمان وثلاثين سنة، لماذا كل هذا الزمن؟ ليس قطعا لأنه من الأمور المحظورة أو التي تقع تحت دائرة الضوء وإنما لأن الفرصة لم تتح، وأي شيء لم تتح له فرصة ينبغي أن يبقى في مكانه، أي في الصدور إذ ليس من اللازم أن نبوح بكل شيء نزولا عند رغبة الفضوليين، وفي اعتقادي أن الإنسان عندما يودع الحياة، عندما يتوارى عن الأنظار، عليه أن يحتفظ بأشياء. هذا من خصائص شخصيته، بل من سمات إنسانيته. عليه أن لا يكون كقربة الماء الفارغة اليابسة وإنما كقربة الدهن (العكة) لأن العكة ترشح دائما إلى آخر لحظة ببقية رب ودهن.
فيما يخص موضوع العاشر يوليو أقول إنني أقدمت على ذلك المشروع بتهيب، بتهيب الكاهن، الشامان، أمام النار المقدسة، كما يشهد على ذلك أحد الحاضرين في هذه القاعة وهو الأستاذ ممد ولد أحمد. هذا لا يعني أنني لم أندفع فيما بعد عندما تأكدت أن المجتمع صار في مأزق. بعدما اقتنعت بضرورة تلك العملية الجراحية بادرت بالهرولة إلى باب الأستاذ محمذن لأتشاور معه في الأمر، ترى كيف يكون التشاور في موضوع انقلاب مع شخص عضو في الحكومة المهددة؟ إن ذلك مرده إلى الأسباب التالية:
الأول: هو أنني كنت أعتقد أن الحكومة القائمة آنذاك هي ائتلاف بين جهتين: حزب الشعب والأستاذ محمذن ولد باباه لأنه حسب تقديري لا يعتبر أن لأحد مِنـّةٌ عليه فهو لم يكن التابع المأمور البسيط الذي ينفذ التعليمات بصفة عمياء. لقد كان تعيينه وزيرا بمثابة ولوج تيار أساسي – يعبر عن ضمير الشعب الموريتاني- إلى الحكومة لأول مرة، وكان لا بد لحكومة تعول على التمويلات العربية وبالذات في المجهود الحربي، وتراهن على المساندة العربية في المحافل الدولية من وجود شخص على الواجهة يمثل أبرز رمز للهوية العربية في الساحة.
الثاني: كنت متأكدا أن الأستاذ محمذن في درجة من التعلق بشعبه – تشبه الشفقة – من شأنها أن تعصمه من التعصب لموقف قد يكون في النهاية ضارا بالمجتمع.
الثالث: هو أنني أنظر إلى الأستاذ محمذن نظرة المسيحيين للقديس فهو عندهم مأمون الشر. بإمكان أي إنسان أن يبوح له بكل الخطايا والأخطاء والجرائم وهو مطمئن. الأستاذ محمذن من هذا المنطلق مأمون المكر. من يعرفه لا يخشاه. جئت إليه المرة الأولى بعد العشاء لأجده في تقديري، قد ودع أصحاب مائدته وهو في فراغ لأحدثه في قضية تنطوي على هذه الدرجة من الحساسية والخطورة.. فوجدته محاطا بلفيف كثيف من أصدقائه يتناولون شايا ممددا بعد العشاء، وبعد نهايته لم يشعروا إلا بضرورة متابعة الحديث الشيق والرفيع الذي كان يشغلهم، فشعرت في حدود الساعة الثانية عشرة أو قبلها بقليل أن الحلقة تتجدد وتنتعش بمثابرة، ضد رغبتي. فهمست بوشوشة غير منطوقة بوضوح اتجاه الأستاذ توحي بأنني أود الإنسحاب، فخرج معي الأستاذ ليودعني عند الباب فانتهزت الفرصة لأبوح له بشيء واحد، ليس بإمكان أي أحد أن يفك لغزه إلا أنا فقلت له «أريد أن أراكم للحديث» فهم الأستاذ الأمر على ظاهره طبعا وبادر كعادته معلنا استعداده لذلك في أي وقت… ولأنني كنت متأكدا من صدق استعداده عدت إليه ثانية، وقت هدوء الليل وسحر جلاله حيث كنت أخال ذلك الظرف مناسبا للخوض في أمر كهذا. لكن العقبة الكأداء تكررت حتى لقد خيل إلي أنها مؤامرة داخل المؤامرة مع أنها مجرد صدفة، إنما هي جماعة تتناول أطراف حديث عام وشيق يتوسطها شخص جذاب يلتقون بعد يوم من العمل المكتبي المرهق والممل. إغراء مثل هذه الجلسات لم تتسرب إلي عدواه لأن الجماعة خالية البال، أما أنا فإنني أشبه بشخص يخفي بين جناحيه قنبلة ضخمة من حجم قنبلة هيروشيما. هذا القلق النسبي ترافقه مراقبة الوقت لأن علي أن لا أنتظر – تحت أي طائلة- الساعة الثانية عشر ليلا، لأن جوب الشوارع بعد ذلك الوقت بالنسبة للدوريات المنتشرة في ذلك الزمن هو شيء مريب، بل مثير.. يجب تجنبه بحزم سيما لشخص قد لا تكون المخابرات تثق فيه ثقة عمياء.
للمرة الثانية غادرت منزل الأستاذ محمذن قبل منتصف الليل بقليل تحرسني حفاوته الصادقة التي لا يطريها أي تطبع زائف من جهة وخيبة الأمل في الوصول إلى غايتي والخوف من لقاء دورية لها فضول في غير محله أو انتباه زائد، من يدري؟ … والواقع أنني عندما أخرج إلى الشارع في ذلك الوقت المتأخر نسبيا يخيل إلي أن القنبلة التي ترن في خلدي أصبحت تاجا على رأسي ظاهرا للعيان.
تكررت زياراتي على هذا النمط في نفس الوقت الذي أراه الوحيد المناسب ولم يسعفني خيالي باختيار وقت بديل. كنت دائما وأنا أقدم رجلا وأؤخر أخرى، وأغادر وأنا ألطف سيري لأطرد العجلة والاضطراب وأتظاهر بالتوازن والثبات في الوقت الذي أتمنى لو يكون لي جناحان لأطير.
بلغ عدد الزيارات ثلاثا ثم أربعا، وعندما وصلت إلى سبع، وهو الرقم المنبئ، السحري، الذي تعودنا ونحن صغار على أن به سرا، قلت في نفسي –لأنني خرافي- هذا الأمر غير مأذون فيه.
انتهت المحاولات اليائسة بل البائسة دون أن أنبس ببنت شفة أو تلوح مني إشارة توحي للأستاذ محمذن بمبتغاي وبما أريد تناوله معه. لقد كنت أعتبر أن أمرا كهذا بمثابة كتلة واحدة لا تتجزأ ليست له مقدمة منفصلة فإما أن يقذف به دفعة واحدة وبكل حيثياته ومرتكزاته الشاملة وإما أن يترك، لأن كل تناول مجتزأ له سيكون ضارا، ربما، فضلا عن كونه قد يشكل خطرا على سلامة المعنيين. المهم أن محاولاتي في التحدث إلى الأستاذ محمذن استمرت زهاء شهرين أو ثلاثة وكانت في الربع الأخير من سنة 1977 وربما طفحت على الشهر الأول من سنة 1978.
قد يقول قائل لو تم هذا التشاور وتحقق اللقاء هل كان سيغير سير الأحداث؟ هذا ما ليس عندي رد قطعي عليه، فثمة أسباب لقول لا، وأخرى لقول نعم.
ومهما يكن من أمر ينبغي أن لا نحكم على الأمور انطلاقا من الظروف الحالية ومن نفسية الأشخاص الآن وإنما انطلاقا من المبدأ القائل: إن الزمن نهر، مياهه جارية، وليس بإمكاننا أن نستحم فيه مرتين مهما فعلنا.
ما هو المتاح أو المطلوب أو المحتمل بالنسبة للأستاذ محمذن؟
لا أظن أن أي أحد منكم يتصور أنني جئت إليه لأقول له: أريد أن تشارك معنا ! لأن ذلك طلب دارج من جهة ومن جهة لأنني أعرف أن أخلاقيته لا تسمح له باتخاذ موقف قد يفسر فيما بعد على أنه غدر. حتى أنا الذي كنت في أسفل السلم عندما انطلقت الرصاصة الأولى في حرب الصحراء في ديسمبر كانون الأول 1975 أعلنت في اجتماع رسمي معارضتي المطلقة لتلك الحرب لأريح ضميري ويشهد على ذلك الأستاذ بارو عبد الله رئيس الاجتماع المذكور وهو آنذاك وزير دولة. ولا شك أن الأمر كان أصعب بالنسبة للأستاذ محمذن وليس بإمكانه أن يفعل شيئا، معنويا، إلا بهد أن يقطع حبل السرة باستقالة من الحكومة وإعلان معارضة الحرب القائمة. إن هذا بالضبط ما كنت أطمح إليه لأنني أعرف أنه لم يكن على الإطلاق من صقور تلك الحرب، وله من بعد النظر والحرص على سلامة الكيان الموريتاني والجرأة عند الاقتضاء ما لا يضع الأمر في طور المستحيل وخاصة إذا نمى إلى علمه تبلور مبادرة عسكرية وليدة سينظر إليها بالضرورة على أنها مغامرة ضارة وعمل يجب قطع الطريق عليه واحتواؤه بمبادرة سياسية مدنية منتجة تتمتع بالمصداقية. كان قيام مشروع سياسي جماهيري من هذا النوع هو الاحتمال الأفضل بل هو أوج التوقع وكان هو الخيار الوحيد والبديل الذي من شأنه أن يثنيني شخصيا عن المشروع العسكري الناشئ.
كانت تلك الاستقالة من شأنها لو تحققت أن تعيد الحكومة إلى سابق عرجها إبان عهد المنظمة الإفريقية الملغاشية ‘’OCAM’’ وتفضي إلى تجربة من نوع جديد من شأنها أن تغير مجرى التاريخ وتجنبنا الكثير من الانزلاقات والزيغ المتكرر الذي لا لزوم له. لكن يقال: «إن الرجال هم الذين يصنعون تاريخ أنفسهم ولكنهم لا يعرفون التاريخ الذي يصنعون».
كانت الانقلابات والأنظمة العسكرية تتمتع لدينا في تلك الفترة بسمعة سيئة نتيجة لانقلاب حافظ الأسد الذي قضى على التجربة التقدمية في دمشق وبالنتيجة حجَّم الثورة الفلسطينية – ونحن لا نستعمل آنذاك التخفيف أو التورية السائدة الآن: «المقاومة»- بل وضعها في قفص، كما كنا نتابع بمرارة واشمئزاز تجربة زمرة الكولولنات، السيئة الصيت، الحاكمة في اليونان. ثم جاءت الطامة الكبرى وهو الانقلاب المفزع الذي دبره العم سام في اتشيلي على نظام «الوحدة الشعبية» التقدمي بقيادة الرئيس سلفادور آلاندي الذي اغتاله الدموي بيونوشيه. إلا أن ثورة «القرنفل» في البرتغال التي فاجأتنا بها «حركة القوات المسلحة» صالحتنا من جديد مع الانقلابات فقضت تلك الحركة على آخر معاقل فاشستية كايتانو -خليفه سالازار- وقذفت بالحركات الثورية والتقدمية السرية إلى الواجهة وأعلنت استقلال المستعمرات البرتغالية في إفريقيا.
كان الرجل القوي في «حركة القوات المسلحة» الجنرال الثوري الشاب أوتلو دي كرفالو بالنسبة للكثير منا، هو امتداد ووكيل على الأرض للثوري الذي لا يلين تشي ڭيفارا.
استعادت عندنا بذلك الانقلابات بريقها وألقها كوسيلة تغيير وليس كصيغة حكم.
نَظَّرَ المرحوم الرائد جدو ولد السالك مرارا لنموذج ليس لجنة العسكرية وإنما «حركة القوات المسلحة» كقوة حية تضم الجنود والضباط في الدول النامية إلى جانب النقابات العمالية والمنظمات الشبابية والحركات السياسية التقدمية والثورية وضرورة قيام جبهة واسعة من هذه المكونات تقود نضال الجماهير الشعبية، إلا أنه لم ير في محيطه الآذان الصاغية والتأني للنظر في أي نموذج مستقبلي. وسرعان ما تلاشت الفكرة في ضوضاء وملاحقة الأحداث اليومية الملحة وإكراهات تحضير التغيير.
قلت في مستهل كلامي إنني أخشى أن نكون في حلم وإذا لم يكن حلم نوم فأخشى أن يكون حلم يقظة.
إن أحلام اليقظة تنتاب الناس الذين هم غير متصالحين مع واقعهم، فيبدلون الواقع بأوهام وتصورات من نسج الخيال ويعيشون وراء أسوارها المنيعة، فهي تعويض عن المرارة واليأس والبؤس والإحباط والكبت.
لا شك أن هناك أكثر من سبب كي تطوف بنا هذه الظاهرة المرضية.
إذا كنا اليوم لسنا في العالم المحسوس وإنما في حالة من مراحل ما وراء الواقع، في حلم يقظة مثلا فأهلا وسهلا به لأنه يتيح لنا ما لم يتسن لنا من قبل وهي فرصة ممتعة لأنها قد تكون أول مرة يكرم فيها عندنا شخص انطلاقا من معايير تقوم على الإخلاص والصدق، بعيدا عن النفاق والمحاباة.
خطورة حلم اليقظة تبدأ عندما تنتفي الحدود بينه وبين الواقع فندخل مرحلة الجنون، والجنون نوعان الجنون المنتج مثل جنون فانقوق ونيتشه والجنون العقيم وهو الأكثر. هناك أيضا الجنون الجماعي. «أهل لعڳل» المشهورون بدقة التعبير أعطونا في الأسابيع الماضية صورة معبرة عنه، قالوا إنهم رأوا أناسا بالمئات من فئة الفقراء يأخذون آخر فلس من ادخارهم، عبارة عن درهم الأرملة، ويرمونه في الرمال المتحركة وبعد ذلك يبحثون عنه بواسطة جهاز كاشف. إنه مشهد يشبه الجنون إن لم يكن هو الجنون بعينه.
وما قولكم في مجتمع يظن أنه سيصل إلى أي شيء دون لغته؟ إن ذلك هو الجنون الأكبر.
شاءت الأقدار أن هذا البلد تغير فيه كل شيء، تغيرت فيه الأمور مرارا وتكرارا رأسا على عقب لكن شيئا واحدا لم يتغير ألا وهو قهر اللغة العربية واضطهادها.
ما مرد ذلك؟ هل هو عجز بنيوي أم إرادة مفككة أم عدم تمييز بين التابع والأساس، بين الفرع والأصل، بين الثانوي والمهم، بين المهم والأهم؟
إن المسألة وصلت مستوى المأزق العقلي. لا أحد يعادي اللغة العربية ظاهرا ولكن لا أحد يبادر في أمرها. إن دولة اليوم تعمل بلغة غير لغتها أصبحت مهزلة، مهزلة توحي بالشفقة أكثر منها تثير الضحك.
إن «تطفيل» اللغة العربية الذي تعوَّد عليه هذا البلد لن يدوم طويلا على هذا النسق بعدما يزيد على نصف قرن، فإما أن نعترف لها بالبلوغ ونسمح لها بالحصول على جميع حقوقها المغتصبة من طرف وريث غير شرعي وإما أن نعترف بأننا نسير في موكب وأدها ونسلم بأنها التحقت بأختها، أو قل أمها، المغفور لها: السريانية التي فقدناها دون أن نعرف متى وكيف.
هل تتبع لغة القرآن عندنا للغة الإنجيل في المشرق؟ هذا هو مصدر الحيرة والتساؤل مع فارق كبير بين الحالتين وهو أن السريانية ورثتها سليلتها: اللغة العربية.
وإذا كان حاضر السريانية هو مستقبل العربية عندنا وما آلت إليه فبودي أن أُذكّر بذلك الحاضر. إن السريانية اليوم تستعمل في الطقوس الدينية المسيحية الشرقية وأصبحت تتطلب درجة عالية من التخصص والاطلاع على كتبها المُعمّاة في نقطة من اللاهوت أو ركن من العقيدة وما حقيقة المشادة حول ذات المسيح بين نسطور السوري وسيريل المصري وما تفاصيل قصة أصحاب الكهف التي هي أول لغة تسجل بها في القرن الخامس.
ومهما يكن من أمر وسواء كنا خارج الواقع أو فيه فما اهتدينا إليه اليوم لا يكفي ولا يفي بالواجب في حق الأستاذ محمذن.
علينا اليوم أن نتوج هذه اللفتة المتأخرة بلقب يميز هذا الأستاذ، صاحب الشخصية الكثيفة، وأريد أن أعطي نماذج في هذا السياق:
في إحدى الإمارات الموريتانية القديمة كان هناك رجل من أهل القيادة يقال له «أعلي» وعندما نضج وظهرت فيه خصال محمودة لقب ب «أعلي والناس» والواو ليس من الكلمة التي تليه وإنما هو عطف، فصار عندهم «أعلي» يساوي الناس معنويا.
هناك صيغة أخرى: عند ما اطلع «ساشاكتري» على كتابات «آناتول فرانس» قال: هو فعلا فرانس، أي فرنسا، وأضاف: من المناسب أيضا أن يسمى «جوته» المسيو آلمانيا وأن يسمى «سيرفانتيس» المسيو اسبانيا.
وإذا كانت موريتانيا محل جدل فلنعط لصاحبنا اسم الصحراء الكبرى.