وأبدى لي زميلي بعض الملاحظات المهمة جدا. والتي تستحق التوقف معها.
لكن قبل ذلك سأتوقف قليلا مع “نفسي” لأوضح الملتبس أو ما قد يلتبس على البعض.
بداية ما هي العروبة التي أومن بها؟
باختصار شديد أومن بالعروبة كما حددها ذات ليلة المرحوم جمال ولد الحسن حين كنا في حفل عشاء في حي “الصالحية” ببغداد، فقال للوفد الموريتاني وكان من الحضور أحمد ولد عبد القادر وسيدي أحمد ولد الدي “إنني اعتبر جالو في السنغال إذا تكلم العربية وأدان بالإسلام عربيا”.
رد ولد الحسن وقتها على موقفه ومفهومه للعروبة بناء على طلب الحضور حيث تركزت الجلسة على استكناه بعض فكر ذلك الراحل الموهوب.
وبغض النظر عن الأصول العربية ل “الفلان”، والتي أقرها المؤرخون الغربيون، وليس القوميون العرب، وأنت أعلم مني بذلك، ولا أحد تنقصه الحقائق ليعرف أن هناك “عرب تأفرقوا وهناك أفارقة تعربوا”، بغض النظر عن ذلك فإن كلا منا يجب أن يشعر أنه سليل حضارة عربية إفريقية، وأن من واجبه أن يصون “المكونين” الثقافيين” لتلك الحضارة.
فكيف يكون ذلك..؟
هل يكون باللجوء أو “الاحتماء” باللغة الفرنسية (لغة الاستعمار والاستلاب). واللغة ليست كائنا محايدا أبدا لأنها حاضنة للثقافة والأفكار والتصورات والقيم والعادات والديانات وغيرها. بمعنى آخر “اللغة وجه كامل لأمتها وأهداف أمتها”.
أم يكون بالعودة للجذور اللغوية للبلد، الأصول التي تشكل حاضنة طبيعية لهوية السكان الموريتانيين.
هذا هو مربط الفرس. فأنا لا أفهم حقا أن اللغة العربية ستغير هوية الأفارقة، والغريب أن الفرنسية لن تغيرها..! أو أن العربية تمثل إقصاء لشريحتهم، لأنهم أمضوا ألف سنة يتعاملون بها يوميا في صلاتهم وكتاباتهم ومعاملاتهم ولم تتغير هويتهم الثقافية والعرقية.
وأنا أفهم، بل سأكون أول مؤيد للذين يطالبون بتدريس اللغات الوطنية، على شرط أن تحل محل لغة الاستعمار في الدراسة والعمل، وعلى شرط أن يكون هناك منطق للأشياء، فموريتانيا من ثلاثة ملايين نسمة ومن غير المعقول أن تدرس بخمس لغات “العربية، والبولارية، والسنكية، والولفية، ولغة أجنبية أخرى الفرنسية أو الانجليزية”.
أي تلميذ أو طالب يمكنه استيعاب هذا الكم من اللغات (خمس لغات).. هذا مستحيل. لا بد من تحديد لغة واحدة للدراسة والعمل أو لغتين على الأكثر. هذا إذا كنا واقعيين.
ثم أليس من الغريب أن الدول الإفريقية الأكثر كثافة وقدرات من موريتانيا لم تعتمد في الدراسة والعمل اللغات الثلاث الإفريقية الموجودة في موريتانيا.. أعطني فاتورة واحدة بالبولارية أو السننكية أو الولفية في أي دولة إفريقية. لا توجد.
وما معنى ذلك؟ معناه أن هناك استلابا لغويا، والقوميات الإفريقية التي تمسك بزمام السلطة في الدول الإفريقية لم تلتفت إلى هذا المشكل لتسويته، لأنها نخب تم تخلقيها في “البهو الخلفي” لما وراء البحار. ولا تترجم أبدا “الطموحات الوطنية” للمواطن الإفريقي.
هي تلك النخب التي تدير الدولة بعقلية “الوكيل” الذي لا يتورع عن تمزيق بلده بالحروب الأهلية من أجل تلبية طلب “الزبون الغربي” بخفض سعر الماس أو الذهب أو غيره من الثروات في القارة الإفريقية.
وعندما تجلس النخب الإفريقية الوطنية غير المستلبة للانحياز للغاتها الوطنية، وتضع المناهج العلمية الدقيقة وتتخذ قرارا جماعيا بذلك. يمكن فقط التأكد أن إثارة موضوع اللغات الإفريقية في موريتانيا ليس من أجل “وضع العربة أمام الحصان” الشارد.
قبل ذلك لا يستوعب المواطن العربي في موريتانيا أبدا لماذا يقف الزنوج الموريتانيون ضد اللغة العربية. وذلك للأسباب التالية:
1. اللغة العربية لغة الأكثرية في هذا البلد. وتتمتع لغات الأكثرية في كل شعوب العالم ودوله بأولوية في التدريس والعمل والترسيم كلغة للدولة والأمة.
2. اللغة العربية لغة إفريقية، وتدخل في صميم نسيج اللغات الإفريقية كافة، بل يمكن اعتبارها اللغة الأم للغات الإفريقية. فهي تشكل، على الأقل، نسبة 30% إلى 50% من اللغات الإفريقية، وأكثر لغة استعمالا في القارة الإفريقية هي “الهوسا” وتمثل مفردات العربية فيها 72% (الرقم من ممادو با).
3. اللغة العربية هي “اللغة الروحية” لجميع أفارقة موريتانيا وللمسلمين الذين يشكلون الأغلبية المطلقة من سكان القارة الإفريقية.
4. اللغة العربية كانت منذ القدم منطوقة في إفريقيا. حتى في الدول المسيحية الزنجية..(تذكر قصة بكاء ملك الحبشة عندما قرأ عليه القرآن الكريم لأول مرة قبل أكثر 1400 سنة).
5. الحضارة العربية والإفريقية تلتقي في أكثر من 60% في “الهوية” (القيم، العادات، التقاليد، مفهوم النبل والشهامة، المرويات الشعبية.. وغيرها، فضلا عن تطابق الألوان أو تقاربها، وحتى أنماط العيش من الثروة الحيوانية).
6. اللغة العربية (13 مليون كلمة) إحدى أكثر اللغات انتشارا في العالم، ويتكلم بها 400 مليون عربي، ويلم بها ويهتم بدراستها قرابة 2 (ملاري) مسلم في العالم، فضلا عن الاهتمام العالمي الذي تلقاه في الجامعات والمعاهد والجيوش ومراكز القرار، كما أنها أكثر اللغات”علمية تعبيرية” بحسب الدراسات الغربية. بالمناسبة تراجعت اللغة الفرنسية إلى المرتبة ال 9 عالميا وآخر تصنيف لها أنها لغة يتكلمها 200 مليون نسمة فقط. (الإسبانية 400 مليون نسمة). كما تشير الدراسات اللغوية إلى أن ثلث المستخدم من اللغة الفرنسية حاليا (في فرنسا) أصبح من اللغة الانجليزية التي يتم الاحتفال هذا العام ببلوغها مليون كلمة فقط بعد أن أضيف لها السنة الماضية مئات الكلمات من اللغة العربية.
على كل حال نحن لسنا هنا في إطار تقييم اللغة العربية كلغة عالمية، إنما فقط نشير إلى بعض الحقائق عن قوة هذه اللغة ومستقبلها. وكونها لا يمكن بأي حال أن تشكل عامل تحطيم لهوية الأفارقة الموريتانيين.
إن المتمعن في “المشكل العرقي” في موريتانيا لا يمكنه إطلاقا فهم الارتباط الوثيق بين هذا “المشكل” وبين اللغة الفرنسية.
لقد عاش العرب والزنوج في هذه الأرض لعدة قرون، لم تحدث فيها أي مشاكل عرقية، بل كانت الحروب بين القبائل العربية شائعة. فيما لا ذكر لأي شيء، ولا حتى “مشاجرات” على أساس عرقي. إلا ما ندر.
إذن متى بدأ المشكل؟
بدأ باستجلاب الإدارة الاستعمارية لوكلائها اللغويين من خارج البلد لتتركهم أوصياء على هذا الميراث.
من “طريف” الأمور أن يتظاهر البعض مطالبا ببقاء لغة الاستعمار صيانة لهويته. إنه “عار”. لكن ذلك قد لا يكون حكم التاريخ.
إن من يكره اللغة العربية يكره القرآن.. ومن يكره القرآن كيف يحب الله.
ومن الغريب أن يزايد قادة بارزون في المعارضة على ملف التعريب لمجرد أنهم في معركة سياسية مع النظام. إن إدخال ما يفترض أنها “ثوابت” في صلب معركة “اليومي” جريمة حضارية بامتياز. لا يمكن السكوت عليها.
ثم من الغريب أن يغضب الزنوج الموريتانيون من وصف موريتانيا ب”الدولة العربية” مثلما من الغريب أن يغضب العرب إذا قال مواطن أو مسؤول إفريقي إنها “دولة إفريقية”.
ومن الغريب أن تتسابق السلطة والمعارضة لتهشيم هذا البلد المسكين. بالتنكر لما “يفترض”، وحفر “أساسات” الواقع المر في وجدان المواطن الموريتاني.
فالمعارضة كانت تعرف أن تصريحات “لفظية” من رئيس الوزراء في “يوم اللغة العربية” ليست إلا مجاملة للأغلبية. وأن موريتانيا ما تزال في سيادتها اللغوية تعيش في “الخمسينات”. لكن مع ذلك هيأت لوأد الحلم الذي لا يوأد. و”شجعت” “الإرهابيين الفرانكوفويين” على دوس كرامتنا.
لقد كانت تصريحات وزير التعليم الفرانكفوني، لا تختلف عن مبررات أي من “أعوان” الاستعمار، إنها تصريحات تـثير الغثيان. من طرف حكومة تتلقى 85% من تمويلاتها من العالم العربي والإسلامي. وينفذ 95% من مشاريع البنية التحتية لديها بمال عربي إسلامي. وتلقى الدعم الأول في انتخاباتها وانقلاباتها من العالم العربي.
في حين لا يمول الغرب غير مشاريع “الاستلاب”.. نشر اللغة الفرنسية، وتوزيع كميات فاسدة من “الواقي”، وتمويل المنظمات غير الحكومية التي تزحف تدريجيا على المنظومة الحضارية والأخلاقية للبلد.
واقع صعب، لكن “الأصعب” قادم بالتأكيد. فأول ما تشرق عليه “شمس الغد” هو مشاكل الأمس.
إننا لا “نجامل” مكونات شعبنا إلا بـ”حقنة تهدئة”. سرعان ما ينتهي مفعولها. ليتضح أن كلا منا أصبح أبعد مسافة من الآخر. وأن كلا منا “يحفر قبر أخيه”.
إنه لا مفر من عودة اللغة العربية لمكانتها في هذا المجتمع “مهما طال الزمن، ومهما كان الثمن”.
والآن أعود إليك يا صديقي العزيز عبد الله ممادو باه.
بداية سأحكي لك “رأيا”، فأسرتي معروفة بـ”الرؤيا”، إذ “رأيت فيما يرى النائم”، أن الجنرال “أفيلكس نكري” جمع أهم المسؤولين الزنوج في النظام الحالي بمنزل في نواكشوط، وقال لهم على ضوء الضجة المثارة عن تصريحات رئيس الوزراء “إن كل اثنين يسكنان في مكان واحد لا بد لأحدهما أن يلين للآخر”. فردت عليه الوزيرة “كمبا با” قائلة “مهما كان فلن نقبل إطلاقا بالتهدئة قبل أن يقوم الوزير الأول بالاعتذار عن وصف موريتانيا بالدولة العربية”.
كيف يفسر هذا الحلم.. أخي “يوسف”.. أم أنه لا يزال هناك عميقا في “الجب”.. و”السيارة” لم تأت بعد.
ما كتبته في “أوراق” السابقة. ليس شوفينية عنصري، أنا والله العلي العظيم أفضل مليون مرة مجرد “أثر” لـ”جوب” المستعرب على “عدنان” الفرانكفوني..
مشكلتي ليست مع أي قومية خاصة في أسرتي الإفريقية الكبيرة. مشكلتي فقط مع هؤلاء الفرانكوفويين الذين يشكلون خطورة على أمني الروحي والأخلاقي وعلى قيم حضارتي.
كتبت لأقول التالي:
أن المواطنين العرب مصابون بـ”صدمة كبيرة” جراء تصعيد القوميين الزنوج رغم “الخطوات المهمة” التي قام بها لصالح الأقلية الإفريقية نظاما “الشيخ عبد الله وعزيز”.
أن هذه الخطوات، التي لم “تـنفع” تقول ل”المتطرفين” شيئا واحدا “أنسوا التسويات التوافقية”.
أن على النظام عدم ارتكاب الأغلاط السابقة منذ الخلاف على هوية الدولة قبل الاستقلال وحتى اليوم. فتعيين فلان أو علان لا يحل مشكلة عرقية قائمة وذات أبعاد أكثر بكثير مما نتصور…
إن “الجلساء” يفشلون في الحوار حين لا يركزون إلا على ما هو “فوق الطاولة”. فيما يكون ما تحت الطاولة وفي جوانبها هو الأهم.
وإذا كنا ننتقد على كتابنا ومثقفينا أنهم يعبرون عن الرأي (المشاعر)، ولا يقدمون الحلول. فإني، رغم أني لست مثقفا، لا أرى خروجا لموريتانيا من هذه “الدوامة” الكارثية، سوى اللجوء لخيارين:
الأول، خيار توافقي. ويتطلب إطلاق الحوار بين القوميين من الطرفين (العرب والزنوج)، حتى يتأكد أولا كل منهما أن الآخر بشر وليس حيوانا معديا، ويمكن لهذا الحوار أن يبدأ تمهيدا من طرف محايد ك”التيار الإسلامي” أو اليسار الموريتاني المعتدل. وإذا أطلق هذا الحوار سيكتشف الطرفان أن ما يجمعها أكثر بكثير مما يفرقهما.
وفي المرحلة الثانية يوسع هذا الحوار ليشمل كل الأطياف الوطنية تحت رعاية الحكومة ليتم التوصل لـ”خلاصة توافقية” تقدم إلى “المنتديات العامة للتعليم”. ومن ثم يصادق عليها البرلمان.
الخيار الثاني، هو اللجوء للقانون، ويمكن تسميته بـ”خيار المليمتر”، فإذا كان العرب مصممين على سيادة العربية، والزنوج رافضين. والعرب يدعون أنهم أغلبية والزنوج رافضين،
فليس أمامنا طريق سوى:
1. إجراء إحصاء يحدد قوميات الشعب الموريتاني. وهذا في كل دول العالم ما عدانا نحن. ومن ثم يتم تقاسم السلطة والثروات حسب نسبة كل قومية.
2. تنظيم استفتاء حر ونزيه تحت رعاية دولية يختار الشعب الموريتاني من خلاله “لغة الدولة”. مع الحفاظ على الخصوصية الثقافية لكل طرف.
أنا لست من أنصار اللجوء لـ”خيار المليمتر” بين أسر عربية وإفريقية قليلة تقاسمت هذا البلد روحيا وحياتيا طوال قرون، وجمع بينها الإسلام والنسب والعيش المشترك.
ولكن إن لم يكن هناك خيار “فليستند الكل على عوده”. إن كان لا بــدّ، إن كان الكل يرفض “المحاصصة التقريبية” فتقاسم الدولة ب”المليمتر” أفضل من بديل “الدم” الذي تسوق له بعض الأطراف.
فسكب الدماء لا يحل مشاكل التعايش العرقي، ونحن نشاهد كيف يقتل السني أخيه الشيعي والعربي أخيه الكردي، والعكس، في العراق. ونيجيريا، وساحل العاج، كيف يتقاتل الإخوة في أكثر من بلد في الجنوب وحتى في الغرب ثم في النهاية كانت “طاولة الحوار” هي الحاسمة… بعد كل تلك الدماء.. كل تلك الضحايا والجثث والأرامل والمفقودين والمكلومين والمشردين والمهجرين.
لقد نال شعبنا “حصته” من الدم.. قتل من قتل. شرد من شرد. هجر من هجر. أذل من أذل.. من الطرفين. ما هي النتيجة؟.. لا يفتخر بها قطعا سوى الشيطان.
لا مفر من منطق الحوار بالفعل، والتوافق، فالبديل لا ينهي أي أزمة. لا بالنسبة لأقلية ولا بالنسبة لأغلبية. ونحن في بلد مهدد بفعل الصراع العرقي، ولا أحد يريد مصير تجارب “بروندي” و”هايتي” و”السودان” أو “تشاد” أو غيرها، إن لم يكن الآن فغدا، إذا لم نحتكم للمنطق والقانون والأساليب الحضارية في تسوية القضايا الأثنية.
تسوية لا تسمح لأي أحد بالمزايدة على الطرف الآخر. ولا تسمح له أيضا بالوقاحة.
من الملاحظات المهمة التي أبداها لي أخي العزيز عبد الله ممادو با، أن الزنوج المستعربين يجدون أنفسهم الضحية الأولى في “الصراع”، فهم خونة من وجهة نظر القوميين الزنوج، وهم ليسوا أكثر من “أعداء” أيضا من طرف القوميين العرب.
وأنا أضيف له تهميش هؤلاء في الإدارة والوظائف التي يحتكرها الفرانكوفويين من الطرفين. حيث تقدم كترضية وكإسكات لأن الفرانكوفويين يقدمون أنفسهم متحكمين وناطقين باسم مناطق النفوذ الشعبية. ولا أعرف على أي أساس يستند صناع القرار الموريتاني في ذلك.
أخيرا تذكروا هذا الكلام جيدا.
ورد في تقرير مركزي لواحدة من أهم كنائس العالم، وعقب جرد عن التبشير في إفريقيا، ما نصه “أين ما حـل “البيظاني” أو “الفلاني”، ولو كانا جاهلين، انتشر الإسلام”.
لكن يبدو أنهما “حـلا” بموريتانيا فانتشرت الفرنسية..!