للإجابة عن هذا السؤال الخطير لا بد من العودة إلى الوراء ، إلى حقبة الاحتلال الفرنسي لهذا البلد للتذكير بالحدث التاريخي الفارق و المتمثل فى المقاومة الأسطورية التى ووجه بها ، على خلاف الكثير من البلدان التى أذعنت للغزو الأجنبي فور وصوله إليها. فما إن أطلت القوة الغازية برأسها و لما تبرح بعد قواعدها فى بلاد ما وراء النهر نهاية القرن التاسع عشر حتى برزت بواكير ما سيكون فى ما بعد نموذجا فريدا لجهاد دفع الغزو الأجنبي من شعب حر لم يعتد الخضوع إلا للحق سبحانه .
توالت المعارك و اشتد الكر والفر واستمرت المقارعة على مدى خمس و ثلاثين سنة ، و لم يبق حيز من هذا الإقليم إلا و شهد بطولات من أروع ما يكون … إلى أن قضى الله أمرا كان مفعولا و تمكن الغزاة بعد جهد جهيد و خسائر كبيرة فى الجند و العتاد من كسب المعركة و بسط سيطرته على أرض شنقيط الطاهرة .
نهاية غير منطقية … و بداية دولة مصطنعة
يلاحظ المتتبع لمسيرة الأحداث أن هذا الصراع الطويل و الحافل بالتضحيات لم ينته للأسف النهاية المنطقية التى تمليها هذه المسيرة الجهادية حيث بدا الاستقلال الممنوح سنة 1960 و كأنه مجرد حلقة من حلقات تاريخ هادئ منساب لم يسبقه كفاح طويل و مرير من أجل السيادة و الاستقلال .
لقد أعلن إذن استقلال موريتانيا فى اليوم الأغر الثامن والعشرين من نوفمبر 1960 تحت اسم الجمهورية الإسلامية الموريتانية ، و قد كان الكيان الجديد أقرب إلى الدولة الافتراضية حيث لم تكن للبلاد عاصمة و لا إدارة ، و لا حياة
سياسية بعد ما أجهزت جماعة آمّاليز(المترجمين) بزعامة المختار ولد داداه الذين تسلموا الحكم معه فى ضربة استباقية على كل الأحزاب والتجمعات الوطنية التى كانت موجودة و مرخصا لها قبل ذلك من طرف قوات الاحتلال نفسها و فى مقدمتها حزب “النهضة” الوطني التحرري ، و تم فرض حزب النظام على أنقاض هذه التكوينات تحت اسم “حزب الشعب الموريتاني” ، الحزب الذى سينفرد بالحكم على مدى عقدين من الزمن . ثم بدأ الكيان المصطنع الآتي من لا شيء يتشكل لبنة لبنة حتى اكتملت أركانه واتخذ ملامح الدولة بالمعنى المتعارف ، دولة تتمتع بالسيادة ، على الأقل فى الشكل ، يرفرف عليها علم ولها نشيد ومؤسسات دستورية وكافة الرموز التى لدى كل الدول المستقلة ، كما أصبح لها وجود رسمي معترف به فى المنظمات الدولية والإقليمية .
يجدر بنا الآن و نحن قد أحيينا منذ أشهر ثلاث الذكرى الثانية والخمسين لاستقلال هذا الكيان أن نقيّم مسيرته وما آل إليه تقييما موضوعيا و متأنيا مبتعدين عن تمجيد الذات ، أو جلدها على حد سواء .
جدل الاستقلال و التبعية
ينقسم المحللون فى هذا المجال إلى فسطاطين ، فأما المؤمنون بحقيقة الاستقلال و ما يفتحه من آمال على مستقبل مشرق و رغم اعترافهم بما يعتور مسيرة أكثر من نصف قرن من الزمن من نواقص واختلالات، فإنهم يبررون تفاؤلهم بالحصيلة الإجمالية الايجابية فى نظرهم التى تحققت حيث أن هناك دولة كاملة السيادة على أرضها ولها حضورها ضمن المجموعة الدولية كما أنها حققت مستوى معتبرا من التطور الاقتصادي و الاجتماعي ، تطور توجته عملية ديمقراطية ناجحة .
أما المشككون فى حقيقة هذا الاستقلال فإنهم لا يقللون من قيمة الانجازات المذكورة و يثمنون على وجه الخصوص بعضا منها كمراجعة اتفاقيات الدفاع مع فرنسا ، و تأمين شركة “ميفرما”، و سك العملة الوطنية الأوقية ، والمطالبة بالصحراء الغربية باعتبارها إقليما موريتانيا محتلا ، مطالبة لم تبق مع الأسف سلمية وقد أفضت إلى حرب مأساوية لم تكن نهايتها مع ذلك جديرة بالإجلال، وسيحاسب التاريخ مهما تطاول الزمن انقلابيي 1978 على خسارة هذا الإقليم بسبب استسلامهم المذل لشروط العدو .
هذه الانجازات الهامة تحسب بكل نأكيد لنظام المختار ولد داداه كما للنضال الشاق والتضحيات الجسام التى قدمتها الجماهير الموريتانية وقواها المناضلة . بل أكثر من ذلك ، يعترف هؤلاء المنتقدون ، فان المكاسب المذكورة تدخل بمجملها فى صميم مفهوم السيادة والاستقلال الوطنيين …
لكن المشككين لا يعتبرون موريتانيا رغم ذلك كله مستقلة بالقدرالذى يمكنها من شق طريقها لوحدها ونيل مكانة تحت الشمس إلى جانب الدول ذات الاستقلال التام الغير مشوب بقيود التبعية السياسية والثقافية والاقتصادية . على العكس من ذلك فإنهم يشددون على حقيقة يرونها السبب الأول و الوحيد لفشل الدولة الفتية و للحصيلة الهزيلة و المحبطة لأكثر من خمسين سنة من وجودها : هذه الحقيقة تقول انه مازالت هناك تبعية مهينة و جلية للمستعمر الفرنسي على كافة الأصعدة. . بعبارة أدق فان موريتانيا قد انتقلت من الاستعمار المباشر و عبوديته الصريحة إلى شكل منه جديد يتداخل فيه الايجابي النافع مع السلبي المقيت و الشكلي الخادع مع المضمون المدمّر. انه إذن الاستعمار الجديد فى صورته الكلاسيكية الذى آل إليه بدرجات متفاوتة مصيرأغلبية الدول التي وقعت تحت السيطرة الأجنبية ، بعضها عرف كيف يتحر رمنه و البعض الآخر مثل معظم الدول الإفريقية مازال يرزح تحت وطأته الثقيلة .
التبعية الاقتصادية
ظل الاقتصاد الموريتاني مرتبطا عضويا باقتصاد فرنسا و السوق الأوروبية ، فالشركات الفرنسية احتكرت الاستغلال المنجمي لمدة طويلة من الزمن كما احتكرت الصيد البحري ، والسوق الموريتانية تغلب عليها السلع الاستهلاكية الفرنسية التي بعضها ـ و هذه مفارقة ـ مصنّع من مواد أولية موريتانية كالحديد والنحاس والسمك و يتم تصدير معظمها خاما إلى فرنسا والسوق الأوروبية المشتركة .
بطبيعة الحال لم يفكر أي من الأنظمة المتعاقبة فى تحويل هذه الثروات محليا بهدف خلق قاعدة صناعية من شأنها تعزيز القرار الاقتصادي المستقل لأن عقلية التبعية المستحكمة فى عقول هؤلاء الحكام و فى نهجهم تحول دون ذلك.
إن تغييب موريتانيا عن نشاطات الجامعة العربية وهيئاتها الاقتصادية على وجه الخصوص مثل مجلس الوحدة الاقتصادية العربية ، و المنظمة العربية المصدرة للنفط (أوابك) ، و اتحاد رجال الأعمال العرب الخ … يمثل هو الآخر مظهرا من مظاهر التبعية الاقتصادية و يؤكد على تصميم الدولة الفرنسية الانفراد بموريتانيا الدولة الصغيرة الغنية بالموارد وعلى الحيلولة دون اختيارها لشركائها الاقتصاديين. . كان بإمكان موريتانيا ، لو أنها أعطيت الفرصة و رفع عنها الفيتو الفرنسي أن تستفيد بقدر كبير من التكامل الاقتصادي العربي على ما فى هيئات هذا الأخير من نقص، و من الحركة التجارية عموما داخل هذا الفضاء العربي . و من حسن حظها على كل حال أن الرأساميل العربي لم يتوقف عن التدفق اليها منذ الاستقلال عبر الصناديق الكويتية و السعودية ومنظمة الأوبك والبنك الإسلامي .. و إن كانت مرد ودية هذا السخاء الساذج الغير مشروط والغير مراقب استخدامه كما يراقب الغرب مثلا تمويلاته، محدودة بالنسبة إلى تطور البلد ككل و رفاه شعبه نتيجة الفساد المتجذر فى هذا الكيان المعوّق أصلا .
التبعية الثقافية
قد تكون التبعية للمستعمر القديم أكثر وضوحا وأعمق أثرا فى المجال الثقافي . لقد مضى أكثر من نصف قرن على فرض اللغة الفرنسية على شعب يرفضها و ظل يحاربها إلى آخر لحظة ، لكنها أصبحت على الرغم من ذلك و رغم عدم دستوريتها و عدم ذكرها فى أي قانون آخر من القوانين الموريتانية مهيمنة أكثر من أي وقت مضى ، فهي عمليا اللغة الرسمية كونها لغة الإدارة بلا منازع واللغة ذات الحظ الأوفر فى التعليم فى مختلف مراحله .. أما العربية فهي دستورية على الورق فقط ولا يتم التعاطى بها باستثناء استخدامات قليلة تؤكد القاعدة فى قطاعي الشؤون الإسلامية والعدالة و جزء من مصالح وزارة الداخلية ، فضلا عن بعض خطب المناسبات الرسمية التى يلقيها بتكلف بالغ وزراء البيظان ـ فيا لها من ورقة توت بائسة لا تستر عورة! ـ فى وقت يصر الوزراء والمسؤولون الزنوج من جانبهم و ب”مبدئية” راسخة على إلقاء خطبهم بالفرنسية ، حتى لو كانوا يحسنون العربية! أي مشهد مضحك مبكي، أي تنافر فى أداء هذا الجوق البيروقراطي وأي عبث بالتناغم والانسجام الذين يجب أن يتحلى بهما الخطاب الرسمي والمظهرالحكومي !
إن النتيجة المنطقية لهذا الوضع العام المأزوم منذ اليوم الأول للاستقلال هو ما نعيشه الآن من بؤس و تخلف ثقافي و علمي سببه الأول فشل التعليم وسيطرة طبقة فرنكوفونية متجذرة النفوذ ظلت تقف حجرعثرة فى وجه أي إصلاح للوضعية المأساوية لهذا التعليم . وحتى اللغة الفرنسية التى يتشبث بها هؤلاء المتفرنسون الممسوخون تشبثا تعبديا لم يستطيعوا تطوير مستوياتهم فيها ولا حسن استعمالها! ولا يختلف اثنان على أن التعليم الفرنسي فى موريتانيا تعليم مهلهل و مستوى المتعلمين فيه ضحل إلى درجة تثير السخرية و الشفقة .
من نافلة القول إن رفض اللغة الفرنسية كلغة عمل و تخاطب من طرف قطاعات واسعة من الشعب الموريتاني و نخبه و بعضها مفرنس ، ليس وليد اليوم بل تمتد جذوره إلى بدايات الحقبة الاستعمارية فى ما يعرف بالمقاومة الثقافية . انه رفض ضمني، ويمكن أن نقول لا شعوري ، وهو السبب الرئيسي فى فشل التعليم ككل، بجانبيه المعرّب المهمّش و المحتقرعلنا، والمفرنس المرفوض على النحو الذى ذكرنا .
دور فرنسا فى هيمنة لغتها
إن الحديث عن هيمنة الثقافة الفرنسية يبقى ناقصا ما لم نجل الدورالمباشر لفرنسا فى هذه الهيمنة و تدخلها السافر فى السياسات التربوية لبلدنا. تدخل يأخذ كل أشكال الضغط والإملاء والإغراء . ففرنسا تشترط على سبيل المثال فى تعاونها و دعمها الاقتصادي للأنظمة الموريتانية ، كبند دائم لا يقبل المساومة ، نشرلغتها والدفاع عنها ولا سميا حيال اللغة العربية (يا ليت الممولين العرب ـ بالمناسبة ـ يضعون مثل هذا البند عند منحهم مساعداتهم خدمة للغتهم التى هي أحوج إلى الحماية من الفرنسية. لكن هيهات، لم يزل هؤلاء يغدقون الأموال الطائلة من دون شروط وبغباوة على الأنظمة الشعوبية الموريتانية المتعاقبة حامية لغة الاستعمار)
لقد دأبت فرنسا، من جهة ثانية على تشجيع غيرالناطقين بالعربية من الموريتانيين على الابتعاد عن هذه اللغة بل معاداتها و بالطبع الحث على التمسك بالفرنسية و التشبث بها، بعيدا عن كل منطق .. لأن الزنوج موريتانيون أولا و أخيرا و هم مسلمون و أقرب إلى لغة الإسلام و لغة وطنهم الرسمية من اللغة الفرنسية التى هي غريبة عليهم و تحول بينهم فضلا عن ذلك وبين تطوير لغاتهم الخاصة. وإذا كان المثقفون الفرنكوفونيون من النخبة العربية البيظانية لا تؤرقهم أزمة لغتهم الأم و ثوابت وطنهم عموما ، بل يستهزؤون بهذه اللغة والثوابت نهارا جهارا ، فان المثقفين من بين الزنوج من جهتهم ينصبون لها عداءا مبدئيا وممنهجا، متمسكين بقوة فى المقابل بلغة لا تمت لهم بصلة .. اللهم إذا كان ذلك التمسك من باب التماهي مع محيطهم الجغرافي الغرب أفريقي الذي لا بديل عنده هو الآخرعن اللغة الفرنسية ، وهو تطلع مشروع من حيث المبدأ لكنه بئس المثل فى هكذا حالة لأنها تؤدى إلى تكريس الاستلاب والتبعية السياسية والمسخ الثقافي و الحضاري.
لا تقتصرالآثارالكارثية للاستعمار الثقافي على بقاء قطارالتحرر والبناء مراوحا فى مكانه بل كذلك على الهدم والتخريب الذين أصابا فى العمق القيم الأصيلة للمجتمع الموريتاني و بنياته العتيدة . إن اللغة الفرنسية وما تحمله من مفاهيم وقيم بعضها ايجابي لا شك ، لم تترك زاوية من الفضاء الثقافي والاجتماعي الموريتاني إلا وحشرت فيه أنفها مسببة إرباكا و تشويشا يستحيل معهما ترتيب الشأن الثقافي و وضع الاستراتيجيات التعليمية واللغوية الضرورية من طرف السلطات باستقلالية وخارج الإطارالفرنكوفوني المرسوم سلفا . من أمثال هذه الدكتاتورية اللغوية ،الطريقة الفجة التى دأبت عليها السلطات المتعاقبة، استجابة لإرادة فرنسا، فى إقحام لغة المستعمرالقديم الجديد فى قلب إصلاحات التعليم المتتالية وفرض دورها التسلطي فى هذه الإصلاحات، مما يعزز أيضا قبضتها الحديدية على عالم الشغل بشقيه العام والخاص يساعدها فى ذلك التجهيل المهنيّ المتعمّد لشباب البيظان .
من جهة ثانية فان سيطرة الفرنسية قد لعبت دورالقطب الجاذب بامتياز للعمالة الأجنبية والهجرة السرية الإفريقية و ما يصاحبها من مخاطر أبرزها التجنس اللا شرعي الذي يهدد التوازن ألاثني و القومي للبلد. لو أن اللغة الرسمية كانت معتمدة فى ميدان الشغل لما ظل الآلاف من ذوى الشهادات والكفاآت المختلفة بالعربية يكتوون بنارالبطالة الحارق فى وقت يستأثر فيه العمال الأفارقة بجل الفرص المتوفرة ، و لكانت اليد العاملة ألأجنبية أقل طغيانا وتهديدا للقمة عيش المواطن الموريتاني وأمن بلده .
أما الأثرالأكثرخطورة لسيطرة هذه اللغة هو تسللها إلى الخطاب الشعبي . فلم تعد النخبة الفرنكوفونية هي وحدها التى تجد المتعة فى التعاطي بها بدلا عن اللغة الأم ، بل تجاوزالاختراق إلى الأوساط الشعبية وتغلغل فيروسها بعيدا حيث أصبحت الدارجة الحسا نية نفسها مهددة بالمسخ لما صارت تزخربه من المفردات والتعبيرات الفرنسية المكسرة بعد أن كان وجودها محدودا، بل طبيعيا يماثل الدخيل فى كل لغة ويقتصرفى أغلبه على أسماء الحاجيات المستوردة . هذا
الاختراق سيتسبب فى تضاؤل مخزون هذه الدارجة شيئا فشيئا وإذا لم يعالج الأمرعلى جناح السرعة يخشى أن يلتحق الموريتانيون بإخوتهم الجزائريين وآخرين غيرهم فى سوق الرطانة والتخاطب المشوّش بدارجات هجينة متسببين فى الوقت ذاته بضياع لغتهم الجميلة، كما يخشى أن تلقى الحسا نية وربما الفصحى مصيرلغات شعوب كانت قائمة بذاتها لكنها أصيبت بلعنة الاستعمار الفرنسي وهيمنة لغته التى لا تبقى ولا تذر. ليس بعيدا فى هذا المضمار ما حل بلغات شعوب ما يسمى با”لأقاليم الفرنسية ما وراء البحار” المارتينيك ، الغوادالوب ، لاغويان ، لارئينيون ، التى تحولت إلى
التى فقد كل أصالة وكل قدرة علىالتطور. (le créole)شبه لغات تدعى “لو كريوول”
إن الآثارالسلبية لسيطرة هذا الغول ـ اللغة الفرنسية ـ لا تقتصرعلى تهديد اللغة العربية فى عقر دارها بل إنها تحكم على اللغات الوطنية الأخرى الموريتانية السوننكية و البولارية و الولفية بالجمود والعقم بسبب تغييبها عن الساحة الثقافية و تنصيب الفرنسية نفسها بديلا عنها وبممارسة هذه الأخيرة أبوية ماجاء بها من سلطان على الناطقين بهذه اللغات . إن المستهدفين بالدرجة الأولى من هذا الاعتداء الثقافي السافر أي المنحدرين من الشرائح الزنجية لا يشعرون مع الأسف بواجب الدفاع عن لغاتهم هذه، بل نشاهد ثلة من مثقفيهم الفرانكفونيين ـ و إن كانوا لا يمثلونهم على كل حال ـ يتبجحون بحميميتهم مع اللغة الفرنسية وتمسكهم المبدئي بها كأنها لغة آبائهم و أجدادهم، مصدقين فى ما يبدوالعبارة الشهيرة التى
(nos ancêtres les Gaulois) كانت تدرس فى المدارس الاستعمارية، “أجدادنا الغول”
التبعية السياسية
إذا كانت الروابط العضوية والإستراتيجية التى ظلت تربط أنظمة الحكم الموريتاني المتعاقبة على الحال التى رأينا من
تبعية على الصعيدين الاقتصادي والثقافي، رغم ما يتخلل هذه التبعية من ومضات وانجازات ذكرناها فى محلها، وكانت قرارات جريئة ذات طابع سيادي واضح المعالم ولامست وقتها الطموحات الاستقلالية الكامنة عند الجماهيرالموريتانية و نخبها المناضلة، فان النتيجة المنطقية لهذه الروابط لم تكن رغم ذلك كله إلا التبعية السياسية وسيطرة الشريك الفرنسي من خلال السلط المتعاقبة الموالية له على القرار الوطني وتوجيهه بما يخدم المصالح الفرنسية بالدرجة الأولى . فعلى الصعيد الداخلي نرى بصمات هذه السيطرة والتوجيه جلية فى سياسات الأنظمة الحاكمة و حتى (و هو ما يدعو للاستغراب) فى برامج ومواقف جل الأحزاب السياسية، معارضة كانت أم موالاة، بما فيها تلك التى تتبنى الاديولوجية الماركسية كحركة “الكادحين”، حزب قوى التقدم اليوم، التى ظلت تقارع نظام ولد داداه فى جوانب كثيرة من سياسته لكنها لم تنفذ إلى قلب الظاهرة الاستعمارية الجديدة. ربما تميز التيارالقومي آنذاك بتركيزأكثرعلى هذا الجانب لكن تأثيره كان أقل .
فى كل الأحوال لم تلد الساحة السياسية الموريتانية بعد من يخرج عن بيت الطاعة الفرنسي ويدعو علنا بتصميم وجدية للاستقلال الحقيقي وفك الارتباط مع المستعمرالقديم ـ الجديد، لا من زعماء سياسيين ، مستقلين أو غير مستقلين ، ولا من أحزاب يمين أو وسط أو يسار .. ناهيك عن الحكام المأمون جانبهم أصلا .
إن التدخل الخفي فى شؤون البلد الداخلية و الاملاآت المعلنة وغير المعلنة على حكامه وعربدة المخابرات الفرنسية روتين مألوف لم يعد يثيرالاستنكار. من أبرزهذه الاملاآت، و ليست أسوأها على كل حال، نداء “لابول” الشهيرالى الدول الأفريقية أن أقيموا الديمقراطية من دون تأخير . استجابت موريتانيا للنداء مثل الأقطارالافرقية الأخرى وبدأت على الفور تعد لهذه العملية، لاسيما أن معاوية ولد الطائع كان قد قام قبل ذلك بالخطوة الأولى على هذا الطريق بإنشاء البلديات . ثم توالت الانجازات … إلى آخرا لمسلسل الذي نعيش الآن مراحل متقدمة منه والمشهود له داخليا و خارجيا بالمصداقية ، يجب الاعتراف بذلك . أخيرا، فإن السمة البارزة الأخرى للتدخل الفرنسي المزمن هو دور فرنسا المعروف فى تغييرالأنظمة وفى الانقلابات العسكرية المتكررة . فكم من تغييرـ أو إحباط تغيير! ـ كان لليد الفرنسية فيه حضور .
أما بخصوص السياسة الخارجية فلابد من الإشارة إلى بعض المواقف التى اتخذها نظام المختار ولد داداه فى فترة ما من حكمه و قادها وزير خارجيته حمدي ولد مكناس، مثل مساندة حركات التحررالإفريقية والدفاع عن القضية الفلسطينية و العلاقات المتميزة مع الصين الشعبية و دور موريتانيا المشهود فى منظمة عدم الانحياز … و كانت مواقف ثورية و متحررة ـ لا يمكن انكارذلك ـ من أية إرادة أجنبية، بل و فى تعارض واضح وشجاع مع خط المنظومة الرأسمالية التى تنتمي إليها فرنسا .
فما عدا هذه المواقف لا يخفى ما للسياسة الخارجية الموريتانية وأداتها الدبلوماسية من تطابق وحميمية مع “نظيرتها” الفرنسية عبر تاريخهما المشترك، تدور حيث دارت وتراوح عند الاقتضاء . لقد أوعزت فرنسا إلى الحكام الموريتانيين الذين بقوا ما أمكنهم على العهد، بالتباع النهج الذى رسمته لمستعمراتها الافريقة القديمة الجديدة ـ و ما موريتانيا إلا إحداهاـ فى جميع الميادين و من أهمها السياسة الخارجية. انه الفضاء الحصري لفرنسا فى الغرب الإفريقي
أو “فرنساـ افريقيا” الذى تمارس من خلاله نفوذها فى القارةFrançafriqueالمعروف ب
الدمج القسري مدخل للسيطرة
و يمضى أصحاب النظرة المرتابة والمشككة فى حقيقة الاستقلال المتحصل عليه، معربين عن اعتقادهم أن السبب الأساسي للفشل الذى آلت إليه الدولة الموريتانية هوعملية الإدماج القسري التى أجريت علي هذا البلد بزرعه فى وسط يختلف كثيراعنه ثقافيا و اجتماعيا، أي الوسط الغرب إفريقي الخاضع للنفوذ الفرنسي فى أدق مفاصله . ولن يرقى الجسم المزروع بذلك السبب إلى مستوى دولة القرن الواحد والعشرين المنشودة . كما يؤكدون على أن موريتانيا حيث لم يكن لها ماض منفصل و مستقل عن محيطها المغاربي، وبخاصة عن المملكة المغربية التى يحتفظ التاريخ فى ذاكرته بما كان بين الفضائين من تواصل، فلن ينقذ موريتانيا إلا الرجوع إلى هذا المحيط من خلال رسم توجه جديد يعيد لها هويتها العربية . إن تجربة أكثر من نصف قرن من الاستقلال المؤطّر بإطار المنظومة الغرب افريقية كافية للتأكيد على ذلك و إن الواقع المعاش المزري دليل إضافي على هذه الحقيقة . يبقى التأكيد على أن الرجوع إلى الهوية المفقودة لا يتعارض بأي حال مع الحرص على البعد الأفريقي لموريتانيا كونها جزءا أصيلا من هذه القارة و بها مكون قومي أفريقي هام .
الحرب على الهوية العربية
يحمّل المعارضون لنظام المرحوم المختار ولد داداه مسؤولية تاريخية فى هذه القضية الحيوية . أصبحت موريتانيا فى نظرهؤلاء دولة هلامية تضيع ملامحها فى خليط سكاني غريب ، يلجها و يستوطّنها من شاء ومتى شاء . ملامح لم تعد عربية كما كانت منذ نشأتها الأولى ولاهي زنجية مسلم بزنجيتها . ليست الصدفة فى اعتقاد المعارضين، ولا التطور الطبيعي للمجتمع هما الذان وراء هذا التحول الدراماتيكي وإنما هوالخبث الاستعماري الذى وجد من يسوغ له مشروعه فى شخص زعيم محترم هو المختار ولد داداه، من وسط بظاني أصيل ويفترض فى اجتهاده إسداء خدمة جلاء لوطنه .
لقد كان المحتل قبل الاستقلال يتعامل مع الكيان الموريتاني بشيء من الواقعية فى ما يخص انتماءه للشمال الإفريقي فى الوقت ذاته الذى كان يديره من مدينة سان لويس السنغالية. فقد أنجزالمستعمر الطريق الذى يشق موريتانيا من أقصى الجنوب الى أقصى الشمال وينتهي فى الدار البيضاء بالمغرب وكان يتم بواسطته التبادل التجاري والبشري مع هذا الفضاء، كما أن التعليم كان يستفيد من المناهج المغربية ومن المعلمين الجزائريين والتونسيين . لم يدم طويلا على كل حال ذلك التواصل وقد توقف مباشرة بعد إعلان لاستقلال . يتذكر بعض من شهد تلك الفترة بهذا الخصوص كيف تم استبدال كتاب “علي و فاطمة” الذى كان مقررا على السنوات الأولى من التعليم الابتدائي فى الجزائر ويدرّس فى نفس الوقت فى المدارس الموريتانية، بمنهاج “ماما دو و بينتا” الشهير المصمم لمدارس إفريقيا الغربية والذى مازال معتمدا إلى اليوم .
إن الرمزية هنا واضحة من خلال هذا التوديع للولدين المغاربيين والسيرالحثيث صوب زميليهما السمراوين، رمزية تحيل إلى التحول الذى طال البلد ككل وبموجبه أدارت موريتانيا ظهرها كليا إلى محيطها العربي، و بموجبه تأسس رسميا اندماجها فى المجموعة الغرب افريقية . ظل ذلك الاندماج يتعمق سنة بعد سنة، ولم يتعثر فى مسيرته، باستثناء محاولة يتيمة كان بطلها الرئيس معاوية ولد الطائع حيث أقدم على سحب موريتانيا من المنظمة الاقتصادية لغرب افريقيا بسبب التباين الصارخ مع طبيعة اقتصاديات الدول المكونة لها، واشتراكها فى الفرنك الأفريقي الذى هو مجرّد ملحق للعملة الفرنسية الفرنك سابقا واليورو فى ما بعد .. فى الوقت الذى تتمتع فيه الجمهورية الموريتانية بعملتها الخاصة الأوقية المستغنية عن الوصاية . مع ذلك ظلت الأنظمة التى جاءت بعد نظام معاوية تغازل هذه المجموعة الاقتصادية وتحاول جادة الرجوع إلى حضنها والمجموعة تضغط من جهتها وتغرى .. لكن يقظة الرأي العام حول هذه المسألة الحساسة أفشلت تلك المحاولات … إلى الآن على الأقل .
مقابل هذه الهرولة اتجاه افريقيا الغربية فان انضمام موريتانيا إلى الجامعة العربية فى العام 1973 أعاد بشكل رمزي هو الآخر جزءا كبيرا من التوازن لصالح هوية الأغلبية وقوبل بارتياح بالغ إلا أنه لم يرق ـ من حيث الواقع العملي ـ إلى المستوى الذى يعيد الهوية المفقودة . قرارالانضمام مثل أيضا تجسيدا رجعيا للبعد “العربي” لنظرية ” همزة الوصل” الذى كان شبه غائب فى الممارسة قبل ذلك . هذه النظرية كانت تنبني على فرضية تعسفية تضع مسافة واحدة بين هويتين موريتانيتين غير متجانستين من حيث التعداد البشري ، هوية عربية تستند الى أغلبية كبيرة وهوية افريقية بحدود 17 بالمائة . هذا من حيث المبدأ أما فى الواقع المعاش فان الممارسة السياسية للنظام تنحاز تقليديا أيضا إلى الأقلية .
هذا فى ما يتعلق بالخلفية التاريخية للتموقع المصطنع للجمهورية الإسلامية الموريتانية. أما فى الحاضر فان هذه النتيجة المأساوية، أي ضياع هوية موريتانيا العربية يتجلى ـ كما يرى المتشائمون ـ فى أمور كثيرة نورد منها النقاط البارزة التالية :
1 ـ فرض الطابع الفرنكوفوني ـ الأفريقي على الدولة من خلال الخطاب والممارسة الرسميين .. و كان من حق المكوّن العربي إضفاء طابعه هو كونه يمثل الأغلبية الساحقة من الشعب الموريتاني، ما دام المطلوب هو الالتزام بالقاعدة الذهبية للديمقراطية المعمول بها على نطاق العالم كله
2 ـ هيمنة لغة أجنبية لا دستورية هي الفرنسية وإقصاء اللغة الوطنية والرسمية للبلد ، اللغة العربية
3 ـ شبه غياب موريتانيا عن نشاطات الجامعة العربية رغم انتمائها لهذه المنظمة
4 ـ الإبقاء على الحدود الجنوبية مفتوحة على مصراعيها مع ضعف الرقابة عليها ، و إعفاء
الوافدين عبرها من تأشيرة الدخول ، مما تسبب فى إغراق البلد بالمهاجرين الأجانب وسهّل حصولهم على الجنسية الموريتانية بصفة غير شرعية، وهو ما لا يخفى تهديده للتوازن القومي وألاثني القائم و تغييرالثقافة والقيم الاجتماعية المحلية .. و حتى بالمساس بالدين كون العديد من هؤلاء المهاجرين يحملون ديانات غير الإسلام و البعض منهم يروّج لها
5 ـ شن الأوساط الفرنكوفونية وأحزاب اسلاموية شعوبية وماركسية عنصرية ، فضلا عن الحركات الزنجية ذات الاديولوجيات القومية الضيقة حملة ضارية على مفهوم العروبة متهمة إياها بالعنصرية والشوفينية و معاداة الأجانب الخ….
يشارك فى هذه الحملة ضمنيا الإعلام الرسمي وعلنا بعض الإعلام الحر فى محاولة لترسيخ صورة مذبذبة ومائعة للهوية العربية للبيظان بمفهومهم الواسع، البيض منهم والسمر، سبيلا إلى خلق هوية “موريتانية”خالصة مبتكرة وبديلة مستوحاة من نظرية “همزة الوصل” الداداهية العتيدة ومن النظرية الأممية كذلك عند التوأمين الفكريين الماركسية والاخوانية الاسلاموية. يوظف في هذه الحملة لأول مرة العامل “البربري”، أو”الأمازيغي” كما يقولون الآن، كعامل تشكيك فى اتساق هوية البيظان هذه. مع تجاهل حقيقة أن الشعب الموريتاني متعرّب ـ على حد تعبيرالمرحوم جمال ولد الحسن ـ منذ القرن الحادي عشر، وأن لا وجود اليوم لقومية بربرية موريتانية لعدم بروز محددات للهوية المتعارف عليها من لغة و ثقافة متميزة وتاريخ ، الخ … كما هي الحال بالنسبة إلى القوميات الزنجية الموريتانية المتواجدة الآن . حتى إن قبائل الزوايا الذين يتفنن البعض فى إرجاع أصولهم إلى البربر لا يروق لهم هذا التصنيف . فهذا محمد فال ولد عينينا الحسني من بين كثيرين آخرين ينشد :
إنا بنو حسن دلت فصاحتنا أننا إلى العرب الأقحاح ننتسب
إن لم تقم بينات أننا عرب ففى اللسان بيان أننا عرب
و هذا المؤرخ المختار ولد حامدن يثير زوبعة عندما يضع مثلا الأصل الجكني فى خانة غير خانة العروبة ، ثم يضطر إلى الاعتذار و إلى تصحيح مقولته. مع هذا كله فان شعب البربر الشمال أفريقي بأكمله لم يستنكف يوما من الأيام عن الانتماء إلى العروبة بمفهومها الإسلامي الواسع ، والإسلام بالمقابل حفظ لهذا الشعب على مرّ التاريخ خصوصيته الثقافية و الاجتماعية . أخيرا، أليس من المعروف على نطاق واسع عند المؤرخين أن البربر ينتمون إلى أرومة يمنية، مهد العرب؟ هناك بطبيعة الحال من يجادل فى ذلك .. وهذا موضوع آخر…
أما بخصوص العرب السمر أو الحراطين فقد لا يرجع نسبهم إلى عدنان ولا إلى قحطان ، إلا أنهم ينتمون إلى العروبة بنفس الدرجة التى ينتمي إليها إخوانهم البيظان البيض لأن الهوية لا يحددها العرق ولا لون البشرة بل الثقافة وفى مقدمتها اللغة، و التاريخ، والتطلعات المشتركة، والسيكولوجية المهيمنة . . و هذا كله يجمع بين الشريحتين البيضاء والسمراء من مكون البيظان، والكل ينتمي إلى أمة العرب.
من الواضح إذن والحال هذه أن العزف على الورقة “البربرية” و ورقة “الحراطين” لم يعد يقنع أحدا بعد ما استنفذ الشعوبيون بمختلف مشاربهم الفكرية خلال عقود من الزمن كل وسائل استغلال هذا الموضوع .
مع ذلك فان هؤلاء الشعوبيين (و الشعوبية مصطلح يعنى معاداة العرب) استطاعوا بممارستهم إرهابا فكريا شديدا ومتواصلا منذ الاستقلال على مفهوم العروبة ومن يحمل لواءه، استطاعوا حتى أن يلغوا كلمة “عربي” من الخطاب الرسمي والسياسي الموريتاني وأن يجعلوا منها تابوها، لا تذكر إلا على استحياء و يستعاض عنها للتمويه بتعبيرات مثل “إسلام” و “مسلمين” …
لم نرد الإطالة فى موضوع الهوية بقد رما أردنا ـ يقول المنتقدون لتجربة الاستقلال ـ أن نبين الارتباط الوثيق ما بين هذه المسألة وحقيقة الاستقلال لأن من فقد هويته فقد حريته ولا مطمع له بالتمتع باستقلاله وسيادته على أرضه. ولأن بقاء موريتانيا فى تواصل مع محيطها العربي الذى كان (و مازال) يمثل خطرا استراتيجيا على فرنسا الكولونيالية كون أقطاره لم تزل فى
غليان شديد و ثورات مشتعلة تهدف بالذات للتخلص من سيطرتها .. لذلك كله كان من الحكمة بالنسبة إلى القوة الاستعمارية “إبعاد” موريتانيا إلى فضاء أكثر هدوءا وأمنا هوالفضاء الغرب افريقي .
لكن لا بد من مرتكز يسوغ هذا المشروع الذي يفتقربداهة إلى المنطق . وكان المسوغ جاهزا… هو وجود مكوّن من الشعب الموريتاني غيرعربي على الحدود الجنوبية المحاذية لمستعمرتي مالى والسنغال يمكن توظيفه فى نظرالمحتل حسب قاعدة فرق تسد . وضع مثالي و مريح بدون شك بالنسبة إلى فرنسا… لكنه حصاد مر لموريتانيا! لأنه أسس لسيطرة الأولى على القرارالوطني للثانية لفترة لم تزل سارية إلى يوم الناس هذا. إن هذا المكوّن الموريتاني غيرالعربي البريء والبعيد من هذه التجاذبات كان قد استخدمه أيضا النظام الذي استلم السلطة بعيد الاستقلال لدحض حجج المغرب فى مطالبته بموريتانيا، متعللا ب”اختلاف” العنصرالبشري الموريتاني مع العنصرالمغربي. ثم انطلق يغذى الاختلاف المزعوم بتشجيع هجرة مئات الآلاف من مواطني الدول المجاورة و توطينهم فى هذه الربوع .
السؤال الكبير
إذا كنا قد استطعنا إعطاء صورة ولوعامة عن المسيرة التاريخية الحديثة لبلدنا موريتانيا من خلال رأيين متباينين لبعض المهتمين بمصيره، فان السؤال الجوهري الذى عنونّا به هذه المحاولة يبقى مطروحا : هل موريتانيا حقا مستقلة ؟
يبدو الأمر ملتبسا بقدر كبير. فهناك من جهة، حسب ما يقول المتفائلون
الذين مرّ بنا الاستماع لرأيهم، مظاهر السيادة بكل تجلياتها : دولة تسيّر شؤونها بشكل طبيعي، تتخذ قراراتها بواسطة نظامها السياسي المنتخب وتقيم علاقاتها وتحالفاتها الخارجية انطلاقا من مصالحها. من غير ادعاء خلوها بطبيعة الحال من المعضلات والمشاكل المتفاوتة الصعوبة …
لكن بالمقابل، كما يقول مقدم تلفزيوني شهير، لا يمكن تجاهل وزن الدولة الفرنسة و حضورها الثقيل الجلي والحاسم فى الكثيرمن القضايا الداخلية والخارجية للبلد ، و طريقة
إدارته. والحقيقة أنه استقلال شكلي يخفى سيطرة صارمة ومستمرة للمستعمرالقديم يقيّد بها الإرادة السياسية لحكامنا المتعاونين معه و يرهن بموجبها مستقبل بلادنا وحاضرها خدمة لمصالحه . انه الاستعمارالجديد ولامناص من التحرر منه .
من نصدق، المتفائلين ام المنتقدين ؟ هل هو استقلال تام الذى تنعم به الجمهورية الإسلامية الموريتانية كما تدعى الأنظمة المتعاقبة منذ 1960 و من لف لفها من أحزاب و شخصيات سياسية و قواعد شعبية ؟ أ لا يعدو كون ما يدعيه بعض المعارضين المغرضين من تبعية و احتماء بفرنسا هوعكس ذلك، أي أنه نموذج للعلاقات المتميزة الندية ذات المنفعة الواضحة للبلاد تمليه البراغماتية والواقعية السياسية والتاريخ المشترك الذى يجمعنا بهذه الدولة الغربية؟ … أليست دعوى هؤلاء المعارضين إلا حثا على المزيد من الاستقلالية، أو كما نقول فى العامية “تكبارالكرش” ؟ …
أم أن ليس لنا إلا أن ننشد مع معروف الرصافي أبياتا يصف فيها نظام بلد ه العراق فى بداية القرن الماضي حيث يقول :
علم و دستور و مجلس أمة كل عن المعنى الصحيح محرّف
أسماء ليس لنا سوى ألفاظها أما معانيها فليست تعرف
مهما يكن الحكم بأن موريتانيا مستقلة أو أن استقلالها ناقص أو هي واقعة تحت استعمار جديد و لو بشكله الناعم.. فهناك حقائق لا يختلف عليها أغلب المحللين و كل من يتسم بالموضوعية والصدق فى أمر جلل كمصير موريتانيا .
الحقيقة الاؤلى التي تكاد تكون بديهية هي أن البلد فى حالة من الهشاشة مريع بالنسبة إلى أوضاعه المادية و المعنوية والأمنية . بل إن بعض المتشائمين لايرون له مستقبلا على الإطلاق كدولة نظرا لتناقضاته البنيوية العويصة والمتضافرة مع التحديات الخارجية المتناهية الخطورة التى تتهدده . وحتى ولو أنقذته من هذا المصيرمعجزة من المعجزات فلن يرقى بسبب ضآلة ساكنته وخلوه من أية تراكمات للدولة المركزية و تجربته الفاشلة الراهنة و سلبيات كثيرة أخرى ، لن يكون له وجود فعلي إلا بالاندماج الحقيقي فى فضاء أوسع وأقرب الى واقعه الحضاري والثقافي و لا بد لهذا الفضاء أن يكون موّحدا فسيحا حرا هو الآخر من التبعية للمستعمر القديم .
ثاني هذه الحقائق التى يحزّ فى النفس الاعتراف بوجودها وهي من بين الأسباب الرئيسية لتردى بلدنا العزيزهي تدني الروح الوطنية وإيثار المصالح الشخصية والضيقة المتجذرة فى قادة وأفراد الطبقة السياسية الموريتانية عموما، بمن فيها الكثير من السلف والذين هم فى سدة الحكم راهنا والذين هم فى صف المعارضة و مابين الفريقين .. و الخوض فى أسباب هذه الشنشنة موضوع طويل عريض .. نقول فقط إن تحكم الأنانية حقيقة مؤلمة تجعل من التصدي لتحديات الوجود أمرا يكاد يكون مستحيلا .
مع ذلك فلا بد من مواجهة هذه التحديات، مواجهة يظل الشرط الأساسي لنجاحها تمسك البلد بحرية قراره و بالاستقلال التام عن النفوذ الأجنبي . عندها و حينئذ فقط و بعد الانتصار فى معركة الوجود سيتسنى لهذا البلد التفرغ لعملية البناء التى هي هدفه المنشود .
إن تعزيز الاستقلال، أوالخروج من التبعية الاستعمارية كما يفضل البعض القول به، يرتكز على الأمور التالية :
أولا ـ استرجاع البلد لهوية العربية ، مع المحافظة على هوية أقليته الأفريقية ، و فك الارتباط مع الثقافة الفرنكوفونية و وضع حد للاصطفاف الاستراتيجي مع فرنسا. و لا يعنى ذلك بأية حال معاداة الثقافة الفرنسية ولا أية ثقافة أخرى بل على العكس يجب الاستفادة منها جميعا والانفتاح على كل اللغات وعلى الدول كافة بما فيها الدولة الفرنسية . إنما يجب أن يكون ذلك كله بعد تحقيق هويتنا وترسيخ لغاتنا فى فضائنا الوطني .. و بعد ذلك يأتي التعاون وأخذ ما يفيدنا منه .
ثانيا ـ إقامة ديمقراطية حقيقية تأخذ بالاعتبار قيمنا و ظروف مجتمعنا الخاصة
ثالثا ـ بناء اقتصاد مندمج على أساس من التصنيع وتحويل المواد الأولية المحلية وتطوير الفلاحة للوصول إلى الاكتفاء الذاتي على قل تقدير
رابعا ـ ترسيخ العدالة الاجتماعية والمساواة بين أفراد وفئات المجتمع
خامسا ـ السعي الجاد لتحقيق اتحاد المغرب العربي لما في هذا الفضاء من فوائد اقتصادية و سياسية، والاستفادة من التكامل الاقتصادي مع الدول العربية، و زيادة التبادل التجاري مع الدول الأفريقية، والارتقاء بدورنا الدعوي و الحضاري فى هذه الدول إلى المستوى المطلوب
سادسا ـ إعادة النظر بشكل جذري في السياسة الخارجية بحيث تكون انعكاسا للمجهود الداخلي و مبادئ الوحدة العربية والإسلامية والأفريقية والسلم العالمي والعدالة والحرية
————-
مارس آذار 2013