ستبقى، وإلى الأبد، صورة جزائر الشهداء صورة فاتنة في المخيلة العربية، من الواجب الاحتفاء بها، فالجزائر شهداء وشعبا هي من أغلى كنوز الكرامة في هذا الزمن.
وقد عبرت عن حبي للجزائر شهداء وشعبا وتاريخا بالشعر عندما قدمني عبد الحميد عجالي، السفير الجزائري لدى موريتانيا إلى الأخضر الإبراهيمي وزير الخارجية الجزائري وقتها سنة 1991 بالسفارة الجزائرية بنواكشوط، وفي كل مناسبة تتاح أو لا تتاح لي.
أقول ذلك في وقت بدأ فيه البعض يقحم صورة “الجزائر تلك” محاولا بها تظليل أو تجميل صورة “جزائر الجنرالات” في خضم السجال الجاري حول “خذلان” الجزائر لموريتانيا في الحرب على “الجماعة السلفية للدعوة والقتال”.
بداية موريتانيا لا تطلب، أحرى أن تستجدي، أي أحد للدفاع عنها، ولم تطلق نداءات استغاثة عسكرية، وكل ما هنالك أن الأمور تصل أحيانا حدا من “التناقض الساذج” الذي يغافل حتى العقلاء.
ولكن تبقى هناك أمور يجب توضيحها، ونذكر منها التالي:
– خرج الفرع الصحراوي للقاعدة من الجزائر، وأول ما قامت به كتائب “الجماعة السلفية للدعوة والقتال” بقيادة سلفيين كانوا يعملون كضباط استخبارات جزائرية هو احتلال مناطق من النيجر وشمال مالي (إقليم “أزواد”) والقضاء على حركات التمرد (حركات التحرر)، وبعد السيطرة على “الصحراء الكبرى”، بدأ التنظيم بدشين سلسلة مذابح ضد الجيش الموريتاني واستهداف مصالح البلد المختلفة.
– في معمان سيطرة “الجماعة السلفية للدعوة والقتال” على “الصحراء الكبرى” بمنطقة الساحل، خرجت الجزائر بدعوة الدول الإقليمية لتنسيق الحرب على الإرهاب والقيام بعمليات مشتركة، والمبرر جميل جدا فهو سد الباب أمام مبررات التدخل الأجنبي و”أفغنة” المنطقة.
كان أول من تحرك هو الزعيم الليبي معمر القذافي الذي حاول (قبل أن تمنعه الجزائر) تعويض قبائل الصحراء بمشاريع تنموية في خدمة المنطقة، حتى لا تقع تلك القبائل فريسة لفكر التطرف ولأموال القاعدة و”اقتصادها” وبالتالي تجد الدول الغربية مبررا للتدخل واختلاق “صحوات جديدة”.
ثم جاءت استجابة موريتانيا سريعة، فشاركت في القيادة المشتركة لأركان الساحل التي أنشئت في الجزائر ووفق إرادتها وتصورها هي، حيث استبعدت من شاءت من الدول القوية بالمنطقة (ليبيا، المغرب) وقربت من شاءت (النيجر، مالي، بوركينافاسو..).
وفي أول مواجهة حقيقية مع القاعدة في الصحراء الكبرى، وجد الجيش الموريتاني نفسه وحيدا، كما كان يتوقع، فكيف طارت نظرية “التنسيق والعمل المشترك” لمكافحة الإرهاب وإبعاد الأجنبي؟.
بل الأدهى من ذلك هو أن الإعلام الجزائري ناب بجدارة عن إعلام القاعدة في ترويع الموريتانيين وتخويفهم و”قتل العشرات من جنودهم” طبعا بسلاح البيانات والتصريحات والحرب النفسية الأكثر خطورة.
وذيل كل هذا “التشفي”، بالادعاء على موريتانيا، وبأنها سمحت بالتدخل الأجنبي وقيامها ب”حرب بالوكالة”، والأطماع الأجنبية في ثروات المنطقة. وكأن موريتانيا باتت مسرحا للأساطيل والقواعد العسكرية الغربية..!
ثم جاء “التهديد الوقح” من الوزير الجزائري عبد القادر مساهل الذي قال إن القاعدة قوية وقادرة على الإطاحة بأنظمة في المنطقة (النظام الموريتاني)، وذلك في سياق حديثه للإذاعة الحكومية الجزائرية.
وتلاه وزير الداخلية الجزائري دحو ولد قابلية الذي برر تقاعس الجزائر عن دعم جيرانها في مكافحة الإرهاب بالحذر من وجود مخطط أجنبي يهدف إلى السيطرة على ثروات المنطقة من خلال ما وصفه “بالظاهرة الأمنية في الصحراء الكبرى”.
والسؤال هنا: هل ثروات المنطقة (بما فيها حوض تاودني) أصبحت محمية جزائرية، ولماذا تحل الجزائر لنفسها استخراج ثرواتها هي بمساعدة أجنبي وتصديرها للأجنبي (أوروبا) وتحرم على دول المنطقة استخراج ثرواتها تحت “المبرر الأصيل” أي أطماع الأجنبي؟
والسؤال الأكثر أهمية هل قامت الجزائر بمشاريع إنمائية بالمنطقة، وهل بادرت بتقديم البديل العملي بالاستثمار في ثروات الساحل كبلد مقبول ومرغوب وبالتالي كف يد الأجنبي ووقف سيل لعابه وتضميد فوهة بطون ملايين الفقراء؟
إن الجواب على ذلك ليس مشجعا، فقد سحبت الجزائر استثماراتها النفطية من موريتانيا قبل أشهر، ووقفت في وجه مشاريع تنموية في الصحراء الكبرى بحجة منع تطويقها من قبل الشقيق القذافي، وهنا ساوت “فتاوى الجنرالات” بين “الأجنبي” و”الشقيق” في حكاية “التدخل”.
لقد اختلطت سلالة المسوغات بين الحيلولة دون “الأفغنة” والسعي لـ”أرنبة” المنطقة كما تختلط الألوان في الشفق.
ما علينا الاعتراف به هو أن الفرع الصحراوي للقاعدة ليس سوى كتيبة نظامية.. فقط تختلف طرق تمويلها وإدارتها، ولكنها “منضبطة جدا” لتعاليم جنرالات الجزائر.
وهذه الكتيبة أنيطت بها مهمة توفير ملاذ آمن للقاعدة خارج الأراضي الجزائرية، ومن جهة سد كل المنافذ أمام استغلال ثروات الساحل التي قد تشكل منافسا أو بديلا عن النفط والغاز الجزائري والروسي، حيث أبرمت “الحلقة الأخيرة” في هذا الاتجاه خلال زيارة الرئيس الروسي الأخيرة للجزائر.
وإذن، وبكل بساطة، على أي من سكان المنطقة رغب في الوصول إلى ثرواته أن يدفن معها في باطن الأرض سواء كان نظاما أو بلدا.
لقد بدأ الأمر مبكرا، مع صعود وزير الداخلية الموريتاني في بداية السبعينات على متن طائرة تابعة لشركة تنقيب عن النفط في الشمال الموريتاني، حيث تم بعد ذلك بقليل تخليق جبهة “البوليساريو” وبدأت “أول حرب في التاريخ بلا معنى ولا مبرر”، تلك الحرب التي كان يتوقع أي حدث في المنطقة إلا هي..!
وهكذا كانت نتيجة حرب الصحراء عودة موريتانيا إلى “ما قبل التاريخ الاستثماري”.
والآن، ما أشبه الليلة بالبارحة.. أفلست “ورقة الصحراء”، ولا أربح من ورقة “القاعدة”.
شبان قليلون يخرجون تحت “طعم خارجي”، فتبدأ حرب الأشباح على موريتانيا..!
إذ بعد بدء التنقيب عن النفط في “حوض تاودني” بأشهر فقط، قاد “مختار بلمختار”، الضابط السابق في الاستخبارات الجزائرية، مذبحة “لمغيطي”، ليبدأ مسلسل الرعب، “حرب رمال متحركة” أخرى ضد موريتانيا.
لكن “الموريتانيين بارعون في العودة مما قبل التاريخ”. على الأقل هذه المرة.. وستثبت هذه الحقيقة خلال الفترة القادمة إن شاء الله.
بصراحة لا يحبها الكثيرون: موريتانيا في “أزمة” مع الجزائر، حتى أنها ليست “أزمة باردة”، فالجزائريون هم قادة وأغلب عناصر المليشيا المسلحة التي تشن حربها المفتوحة على موريتانيا.
وإعلام الجزائر يشن حملة مدروسة ومتواصلة ضد الجيش الموريتاني وضد سمعته، ويهدد بإطاحة القاعدة للنظام، ويروج لقوة الإرهابيين. ويشيد ببطولاتهم وما يخلفونه من عشرات القتلى والجرحى…والأخطر أنه يمد أمامهم سكة المبرر الشرعي.
إنهم يصفون البلد ب”العميل الأجنبي”.. ليس قطعا تكريما للرئيس محمد ولد عبد العزيز الذي قام بطرد سفارة “الكيان” الصهيوني من موريتانيا.
إن التواجد العسكري الأجنبي (الأمريكي) على الأراضي الجزائرية لم يعد مسألة شك، فجنرالات الجزائر لم يعودوا يعتمدون إلا على الخبراء والفنيين الأمريكيين، واستقرار 400 ضابط استخبارات أمريكي في قاعدة تنصت أمريكية جنوب الجزائر (نقلا عن وسائل الإعلام الجزائرية والفرنسية)، لا يدخل في نطاق محاربة التدخل الأجنبي بشكل واضح “لأذهاننا الصغيرة”.
ومنع البرلمان الجزائري من إقرار (قانون تجريم الاستعمار الفرنسي)، قبل أسابيع، أمر لا يقل قيمة إجرامية عن الاستعمار الفرنسي نفسه.. ف”الجنرالات” يستهزئون بدم شهداء الجزائر، ويقايضونه بإرث معاكس، وليس ذلك غريبا فهم نخبة إفرانكوفونية متغربة لغة وسلوكا. استمرأت الفساد وبددت ثروات الجزائر حتى أصبح أحفاد الشهداء يسكنون أكواخ الصفيح وقد حباهم الله بثروات كبيرة، والأهم العقول البشرية والمواهب الإبداعية الجزائرية التي ضن الجنرالات عليها بحق نسيم الحرية.
إن التقول و”التغول” على بلد “ضعيف” و”شقيق” جار، والسخرية منه، أمر لا يخدم إبعاد الأجنبي الذي يتربص أنفه أصلا برائحة مثل “هكذا حالات”.
وموريتانيا لم تسأل عن سبب زحف 40 ألف من الجيش الجزائري لترابط على الحدود الموريتانية. فنظريات الشك في الأشقاء هي منتج أجنبي لا غبار عليه. بل أعطت موريتانيا الإذن للجيش الجزائري بالدخول إلى أراضيها ومطاردة الإرهابيين متى رأت ذلك ضرورة.
وجنرالات الجزائر هم أول من يعلم باستحالة سماح موريتانيا بوجود قواعد عسكرية فرنسية أو أمريكية على أرض “شنقيط”، لأن الشعب الموريتاني لن يقبل استساغتها مهما غلفت به من مبررات، وبأي ثمن وتحت أي سوط كان، أحرى نظام أعلن مبكرا نواياه العروبية، ونزعته الاستقلالية بعلاقاته الطيبة مع محور “الممانعة” من سوريا وقطر وحماس وحزب الله إلى تشافيز.
إننا لن نضيع في قوالب التنكر للذات.
ولأن هذا الموضوع أكبر من أن يعالج في “عجالات”، فقط نتساءل: من مصلحة من تخوض قوى سياسية وإعلامية موريتانية حربا على بلدها؟
دعونا من قصة المآخذ على النظام، فـ”جيف السياقات لا تطفو على بحر الحقيقة”، اتركونا من التحذير من قوة الجزائر ماديا و”جنرالاتيا” ومما قدمته لنا، خارج حرب الصحراء والقاعدة، واسألوا عما تقدمه لنا “الآن”؟!
من الحشو القول إننا فقراء وضعاف ومتخلفون، لكن متى كانت كل مظاهر الوهن مبررا لرفع الراية البيضاء أمام عصابات الإرهاب؟..
إن “النصائح ليس لها وقت لكن لها أسلوب وشروط” وإلا كانت فعلا بذيئا ضد المنصوح.
الجميع يعلم أنني لا أومن بمشرط الاستعمار ولا يمكن أن أحب موريتانيا أكثر من الجزائر العظيمة، ولا من أي قطر عربي آخر.
وحتى أنني أكره نفسي حين تسود “مياه القطريات العكرة”.. إننا أشقاء قبل أن نكون جيرانا.
ولكن هناك سؤال بسيط للإخوة الذين يدقون ناقوس الخطر دفاعا عن جنرالات القمع في الجزائر : “أين هو الحزب السياسي الوحيد، أو الصحيفة الوحيدة، أو الكاتب الوحيد من الجزائر الذي دافع عن موريتانيا، أو ذكرها بشطر كلمة خير في الأحداث الأخيرة”، رغم أن الجنرالات المتغلبون هناك نخبة فرانكفونية متغربة كانت أول من تنكر لإرث الشهداء.
من الشيم الجميلة في الجزائريين أنهم وطنيون..
أما في هذا الوطن فهناك قوى سياسية مستعدة لإلقاء البلد في الجحيم من أجل منصب حكومي أو عمولة من تحت الطاولة.
وهذه المرة ليس أمامها إلا “الولوغ” في أوعية ادعاء “الضرر الإقليمي الذي تسببه موريتانيا للجزائر”، لكن مهلا فالجميع يدرك أن موريتانيا لا يمكنها إلحاق الأذى بالجزائر.
بل لم تشأ موريتانيا الرد حتى على استفزازات “جنرالات الجزائر”، ولكن يمكن لموريتانيا الإصرار على كرامتها.
في موريتانيا.. فقط من سخرية اللامكان واللازمان أن يجد إرهابيو السطو المسلح من يتحالف معهم.. نحن ندرك “أن الريح ليست أفضل وسيلة لتـثـبـيت السقوف”.
قبل يومين، وقد قرأتم في “الشروق”، الصحيفة الجزائرية الأوسع انتشارا، هجوما لاذعا على موريتانيا ليس أقله خطورة قولها، على أي لسان كان،: “إن الزنوج والفقراء لا يتمتعون بحقوق المواطنة كغيرهم من فئات الشعب (الموريتاني)، حيث يمنعون من الانخراط في صفوف الجيش ومختلف الأسلاك الأمنية”.. وتعرف الصحيفة الجزائرية “الشناقطة” ب”القبائل الزنجية”.. يا للهول.. إذن تلك حلقة أخرى.
إن هذا الكلام قاس بحق ولا يتحمل مسؤوليته الشعب الجزائري، بل “الجنرالات”، وأنا أجزم لكم أنني أحكم الجزائر أكثر من السيد عبد العزيز بوتفلقية، بدليل أنني استطيع على الأقل القول لألئك الجنرالات “كفى”.