الهادي بن محمد المختار النحوي
ليت المستعمر الفرنسي سعى قبل رحيله لحل مشكلة الرق في موريتانيا كما فعل الانجليز في السودان عندما أصدروا قانونا سموه قانون إكرام الإنسان..
لا احد يتوقع حرية وكرامة من المستعمرين – أو المستخربين كما سماهم أحد الدعاة – لكن الثقافات المحلية وما يميزها أحيانا من استسلام لموروث معين يجعل البحث عن الحل بالاستعانة بطرف آخر أمرا فيه شيء من المنطق وليس ببعيد منا ذلك الموقف التاريخي الحاسم الذي اتخذه العلامة باب بن الشيخ سيديا في شأن دخول المستعمر الفرنسي .. وقد انقسم علماء البلد حول هذه المسألة، كما هو معروف … ولكل فريق حججه وليس الموضوع هنا معالجة هذه القضية.
حاول رئيس الجمهورية المختار ولد داداه رحمه الله حل مشكلة الرق مع بداية تأسيس الدولة لكنه واجه مشكلة النظام التقليدي فعجز عن الأمر ولعل هذا ما دفعه لأن يصرح بأن لتحرير الأرقاء في موريتانيا طريقين : إما ثورة دموية لا تبقي ولا تذر أو تطور طبيعي يصحبه عمل سياسي واقتصادي ممنهج ( لموند دبلوماتيك ، نوفمبر 1998م).
سأحاول بإذن الله من خلال هذه المعالجة إعطاء رأي عن قضية الرق في موريتانيا وآثارها وقضايا التعايش في البلد وهويته , بتجرد وموضوعية وتوازن مع تقديم اقتراحات أرجو أن تشكل إضافة مفيدة للنقاش الجديد القديم حول هذا الموضوع الشائك، مستحضرا ما قاله الإمام الشافعي رضي الله عنه : رأيي صواب يحتمل الخطأ…”
وسأركز في طرحي للموضوع على النقاط التالية :
تحديد المشكلة وهل تغيرت الصورة خلال العقود الماضية؟ وماذا عن الفئات المهمشة الأخرى؟ وهل المشكلة بين“البيظان” و“الحراطين“؟ وهل نحاكم التاريخ أم نصلح الحاضر ونصون المستقبل ؟ مع التعريج على مسألة الهوية وأساليب التعايش وطرح جملة مقترحات لدراسة وحل المشكلة .
وأسجل بداية تحفظي بل معارضتي لاستخدام مصطلحي “البيظان” و“الحراطين” لكن السياق الاجتماعي التاريخي يفرض استخدامهما لعرض الموضوع بصورة واضحة.
تحديد المشكلة
من يريد آن يعالج أي مشكلة لا بد له أن يشخصها تشخيصا صائبا بهدف علاجها بالطريقة الصحيحة والمناسبة.. وهذا ينطبق على قضية آثار الرق في موريتانيا ..
إن تحديد هذه المشكلة يقتضي الاعتراف دون لف أو دوران أو محاججة أن إخوتنا من فئة الحراطين قد تعرضوا على مدى عصور طويلة لظلم كبير فقد سلبت حريتهم وضيق عيشهم ودنست كرامتهم .. ولعل المصيبة الكبرى أن ذلك تم باسم الإسلام ، هذا الدين العظيم الذي جاء لتحرير الناس وفك أغلال الظلم والاستعباد عنهم …
ولله در سيدنا عمر الذي قال: ” متى استعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحرارا؟“.
يقول أستاذنا الشيخ الخليل النحوي “: … الإسلام مهد منذ عصر البعثة النبوية طريق الانعتاق أمام الأرقاء . . . فقد كان الرق ظاهرة متفشية أيام البعثة النبوية فنزل القرآن وتواترت الأحاديث النبوية تدعو لعتق الأرقاء , تكفيرا لما قد يقع فيه الإنسان من الذنوب أو تقربا إلى الله ابتغاء مرضاته . . ” وسد الإسلام منافذ الرق فلم يدع له بابا إلا باب الجهاد وبشروط أهمها : أن يكون الرقيق أسير جهاد مشروع ضد كفار يحاربون المسلمين ويسترقون من يقع في أيديهم منهم وتلك معاملة بالمثل لا عدوان فيها إلا على الظالمين ) ” (إفريقيا المسلمة ص 93(.
والسؤال الذي يطرح نفسه هنا: ما هو موقفنا كشريحة عربية مما حدث ولماذا لم نسمع من العلماء والمشايخ استنكارا لما حصل ولم لم يبادروا لإصلاح ما نتج عن هذه الظاهرة من شرخ اجتماعي قد يهدد مصير بلد بأكمله؟
ولماذا لم يتضمن برنامج الأحزاب ومؤسسات المجتمع المدني تحركا جادا لحل المشكلة ومحو آثارها بدلا من الاكتفاء بالاستنكار النظري الذي لا يواكبه عمل على أرض الواقع؟
إن حل المشكلة ليس في إنكارها ولا في التقليل من شانها، كما أنه ليس في التهويل ولا في التحريض، وإنما الحل في الاعتراف بالمشكلة وتسمية الأشياء بمسمياتها ، ومن غير ذلك فقد تأخذ إزالة آثار المشكلة وقتا أطول…
ومما يحز في النفس أن يوجد من بين “البيظان” من يعتقد بصحة عبودية إخوتنا من الحراطين , فقد ذكر لي احد الإخوة الأفاضل أن شابا من هذه الفئة يحفظ القرآن وله إجازة فيه كان من المواظبين على الصلاة في أحد المساجد في مكة المكرمة فلما علم المصلون بأنه يحفظ القرآن أصبحوا يقدمونه للصلاة في حالة غياب الإمام الراتب ، وتصادف مرة أن قدموه فلاحظ أحد الموريتانيين أن أخانا هذا هو الذي يؤم الناس فقطع صلاته وخرج بحجة أنه ليس حرا..! ورغم أنه بإمكاننا أن نعتبر هذه الحالة نشازا، فإن لها دلالتها التي تثير الاشمئزاز.
هل تغيرت الصورة خلال العقود الماضية؟
مع خطورة مع تعرض له إخوتنا الأرقاء السابقين من ظلم ومع الاستنكار الشديد لذلك إلا أن الموضوعية تقتضي الاعتراف بأن الصورة لم تعد كما كانت قبل عدة عقود فقد حصل تحسن في أحوال بعض الحراطين فمنهم من تقلد مناصب رفيعة في البلد وحظيت شريحة واسعة منهم بنصيب معقول من التعليم فتجد منهم إمام المسجد والمهندس والطبيب والمدرس كما وأن لهم حضورا بنسب معينة في الدوائر الأمنية بمختلف أجهزتها….و منهم كذلك من أصبح له حضور نسبي في عالم الأعمال .. بل واحرز أحد أبرز الزعماء التاريخيين لحركة الحر وهو الرئيس المناضل مسعود ولد بلخير الرتبة الثانية في الانتخابات الرئاسية الأخيرة وأدار البيظان حملته الانتخابات في كل مناطق البلاد.
وحصل تطور كبير على مستوى التشريعات المتعلقة بقضية الرق توجت بقانون تجريم الرق الذي أقره البرلمان في عهد الرئيس سيدي محمد ولد الشيخ عبد الله..
لكن مع كل ذلك فلا زالت شريحة الحراطين تعاني معاناة كبيرة إذ ينتشر فيها الجهل والتهميش… خاصة عندما يتعلق الأمر بالفئات المنسية في أدواب والأرياف وأحياء الصفيح في المدن…
هذا فضلا عن النظرة الاجتماعية الدونية التي ينظر بها بعض فئات المجتمع العربي للحراطين باعتبارهم “أرقاء” سابقين… ومع ذلك فليس التهميش خاصا بالحراطين وحدهم.
ماذا عن الفئات المهمشة الأخرى؟
لا يمكن أن نسوق ما تعانية فئات أخرى من تهميش لنبرر به ما وقع على “الحراطين” من ظلم لكن الصورة الكاملة لا يمكن إدراكها دون التعريج على وضع الفئات الأخرى.
يعيش المجتمع الموريتاني ظروفا صعبة لا تكاد تنجو منها أية فئة وإن كانت بعض الفئات قد كانت لها الحظوة في السلطة والثروة فإن فئات من المجتمع العربي تعاني من التهميش والغبن ومن أوضح الأمثلة على ذلك “صناع العرب” وقد بدأوا بعض التحرك الإعلامي للتعبير عن احتجاجهم على ما يعانون منه من تهميش .. وليسوا وحدهم فهناك فئات عربية أخرى تعاني من التهميش الاقتصادي والاجتماعي والسياسي…
ليس الأمر هنا كما ذكرت لتبرير ظلم فئة الحراطين وإنما محاولة لقراءة الصورة كاملة والتنبيه إلى أن المجتمع العربي إذا كان يهمش الحراطين فإنه أيضا يهمش بعض العرب..
المشكلة في جوهرها مشكلة إنصاف فئة من أبناء البلد ومتى ما حلت تلك المشكلة فلا معنى للحديث عن عرب وحراطين فهؤلاء يشكلون مجتمعا واحدا تجمعه روابط الأخوة والدين والمستقبل المشترك..
وقد اجتمعت في لقاء أخوي مع مجموعة من الإخوة الأفاضل من الحراطين والبيظان ، يجمعنا المهجر، لتبادل الرأي حول المشكلة واتفقنا جميعا على جملة نقاط من أهمها :
المجتمع العربي مجتمع موحد ببيظانه وحراطينه يجمعه التاريخ والدين واللغة والثقافة والعادات ولا يمكن لأي أحد أن يفرقه وكذلك المجتمع الموريتاني كله.
معالجة آثار الرق تقع على الجميع ولا تخص شريحة دون أخرى وعلى الجميع التحرك لإزالتها..
يجب أن لا يتحول النضال من أجل رفع آثار الرق إلى وسيلة لشق صف المجتمع العربي وتهديد كيان البلد.
وجود آثار الرق مسئولية يتحملها الأفراد الذين لا يؤمنون بخطورة القضية ولا يتعاونون لحلها.
هناك فئة من البيظان ما زالت تعيش عقلية الماضي وتنظر إلى الحراطين بنظرة فيها قدر من التعالي، وهؤلاء يهددون وحدة البلد ونسيجه الاجتماعي.
هل الحل في الصدام ومحاكمة التاريخ أم في إصلاح الحاضر وصون المستقبل ؟
كما ذكرت لا يمكن معالجة مشكلة آثار قضية الرق دون معرفة جذور المشكلة ولا يتم ذلك من غير الرجوع إلى الماضي إلا أن ذلك الرجوع يجب أن يكون حكيما وموزونا بحيث لا يكون القصد محاكمة التاريخ والثأر لأن ذلك لن يحل المشكلة بل قد يعقدها وفي أحسن الأحوال سيتحول الأمر إلى تبادل للأدوار بحيث يصبح ظالم الأمس ضحية اليوم ويصبح ضحية الأمس ظالم اليوم. وتظل المشكلة قائمة لأن لغة الصدام لا تحل المشاكل …
وللصدام عدة نتائج نذكر منها : نسف أي أرضية للتفاهم والحوار وزرع الحقد والكراهية في النفوس وتهديد السلم الاجتماعي بل وتهديد البلد ككيان وأهم من ذلك أن يصبح هدف كل فريق هو إلحاق الأذى بالطرف الآخر حتى وإن خسر هو أهدافه الأصلية هذا فضلا عن فتح الباب للتدخل الخارجي.. وتكون النتيجة أن ترث الأجيال القادمة تركة من المآسي قد يصعب حلها فيحيلونها إلى الأجيال التي بعدهم وهكذا نكون دمرنا حاضرنا وملأنا مستقبل أجيالنا بالشوك والألغام…
ومآل كل ذلك أن يتحول مجتمعنا من مجتمع متجانس بمختلف مكوناته إلى مجتمع متنافر ويصبح معنى الهوية فيه وتحقيقها لا يتم إلا بإلغاء الطرف الآخر.
وهناك أساليب تعد مرتعا خصبا للصدام وإشعال الفتن مثل اتهام الذين يناضلون من أجل رفع الظلم عن فئة الأرقاء السابقين بأنهم أصحاب مصالح شخصية يبحثون عن مغانم معينة وأنهم يتاجرون بالقضية وأن هناك دوائر خارجية تحركهم وأنهم يسعون للفتنة …
فهؤلاء مناضلون أصحاب قضية ويجب تأييدهم والتعاون معهم ونصحهم بل يتعين علينا تبني القضية كقضية وطن بأكمله وليست قضية شريحة معينة…
فدعوهم يعبرون عما في صدورهم فلصاحب الحق مقال.
ولكن أيضا في المقابل هناك خطاب لدى بعض المدافعين عن شريحة الحراطين قد لا يكون هو الأنسب لمعالجة القضية مثل التركيز على أن المشكلة بين “البيظان” و“الحراطين” ووصف العرب بأنهم فئة متغلبة و التحذير من الصلاة خلفهم وغير ذلك من الأساليب التي تصنف في خانة الصدام وليس ضمن السعي الناضج لحل مشكلة معقدة..
فالأولى ان نسعى لتحقيق أهدافنا بالحسنى أو كما يقول التعبير الفرنسي : الوصول للشيء المفيد بالود واللين (joindre l’utile a l’agréable ).
فالحل لا يتم إلا بالحوار وإنصاف المظلومين ونشر العدل واحترام الإنسان كإنسان.
وقد استنبط العلماء قواعد أساسية تنشر العدل وتنصف المظلوم وترفع الضرر دون تجاوز ولا شطط، مثل قواعد : لا ضرر ولا ضرار والضرر لا يزال بمثله والضرر الأشد يزال بالضرر الأخف والضرورات تقدر بقدرها وتفويت أدنى المصلحتين لتحصيل أعلاهما.
هذه القواعد كلها تدعو إلى العدل وإزالة الأضرار دون أن ينتج عن تلك الإزالة أضرار أخرى ومنطلق ذلك الموازنة بين مستوى المصالح ، كل ذلك حماية للمصلحة العامة للعباد والبلاد …
كما يجب أن لا نتجاوز مشكلة ظلم شريحة الحراطين إلى التشكيك في هوية البلد وتعريض كيانه للهدم والانشطار فهل نعاني فعلا مشكلة هوية؟
تحديد الهوية وأساليب التعايش
يتجدد الحديث دائما عن موضوع هوية موريتانيا ،هل هي عربية أو إفريقية وهذا الموضوع يختزن في طياته مجمل مشكل التعايش بين مكونات المجتمع ،وما لم تحسم هذه القضية فستظل دائما مصدر هزات تهدد كيان المجتمع ..
هناك عناصر تعد هي القواعد الأساسية لهوية البلد وهي الانتماء لموريتانيا كوطن واحد للجميع والتعدد العرقي والثقافي وعنوانه اللغة العربية واللغات الوطنية الأخرى ، والانتماء للمحيطين العربي والإفريقي وأن هذا الانتماء تميز وخصوصية وليس مصدرا للفرقة والنزاع والأهم من ذلك كله أن الدين الإسلامي يجمعنا جميعا وهذا ما يميزنا عن كثير من البلدان التي تجد فيها أعراقا وطوائف وأديانا ومذاهب شتى ….ومع ذلك نجحت في التعايش فكيف نفشل نحن وعندنا من عوامل الوحدة والانسجام ما لا يوجد عند غيرنا. فهوية موريتانيا في هذا التعدد والتنوع الذي يعد مصدر ثراء وقوة ولحمة لا مكمن فتنة وشقاق فهي مزيج من التاريخ والحضارة الإفريقية والعربية والبربرية ،وحديث النبي صلى الله عليه وسلم هو الفيصل هنا : ” … كلكم لآدم وآدم من تراب…”.
وأذكر أن الأستاذ محمد ولد مسعود , – وهو على حد علمي أحد مؤسسي حركة الحر – الذي كان أستاذنا لمادة التاريخ والجغرافيا في مرحلة الإعدادية لخص لنا هوية موريتانيا في العبارات التالية : إذا قلتم إن موريتانيا من أصل إفريقي فقد صدقتم وإذا قلتم أنها من اصل عربي فقد صدقتم أيضا وكذلك الحال إن قلتم إنها من أصل بربري..
فهوية موريتانيا ليست عربية محضة وكذلك ليست إفريقية محضة وجميع أهلها يدينون بالدين الإسلامي ومن كل ذلك تتشكل هويتها… فالبلد يسع الجميع…
فلا بد من الاعتراف بهذا التعدد والتنوع بحيث يكون التعبير عن الهوية معبرا عن جميع مكونات الشعب الموريتاني ، وأسوق في هذا الصدد عبارات جميلة تلخص طبيعة الهوية في السودان صاغها الدكتور منصور خالد وهو أحد الأكاديميين السودانيين من ذوي التوجه اليساري والصورة التي رسمها عن السودان تشابه إلى حد كبير الوضع في موريتانيا :
يقول منصور خالد : ” السودان محشر أقوام أرادت لهم ظروف التاريخ وقضى عليهم واقع الجغرافيا التعايش مع بعضهم البعض في رقعة محدودة من الأرض على اختلاف أديانهم وتنوع ثقافتهم وتباين سحنهم وعبر سنوات طوال من التمازج والتصادم والتحارب والتصالح والتقاهر والتباين بدأت تتخلق متميزة عن مكوناتها الأصلية…”
فموريتانيا إذن بلد عربي إفريقي مسلم وعندما نتحدث عن الهوية العربية للبلد بحكم أن أكثرية سكانه من العرب وعندما نقول إن لغته الأساسية هي اللغة العربية بحكم أنها لغة جميع سكان البلاد بحكم الدين والتاريخ والثقافة بل إن غير العرب من الأفارقة ومن ذوي الأصول الصنهاجية تبنوا اللغة العربية وخدموها أكثر مما خدمها العرب بحكم السلالة أو النسبة ,فليس في الأمر نظرة إقصائية ولا فرض ثقافة معينة على باقي المكونات فالمسألة إنما هي إقرار بواقع معيش تاريخيا وثقافيا ..
وعندما يتم الحديث عن عروبة هذا البلد لا أظن أن في ذلك تمجيدا للعرب وأنهم ينظرون نظرة دونية لغيرهم من أبناء البلد أو أنهم يحتكرونها وعندما نعالج ما يدور بينهم وبين الحراطين أو بينهم وبين الولوف أو التكارير أو السنونكي فلا يعني ذلك أن العرب هم أصحاب الكلمة الفصل فيما يتعلق بقضايا البلد الكبرى فإنما هم شركاء وهم ليسوا معصومين، فالعرب كغيرهم من الشعوب لهم فضائل ومزايا ولهم أيضا أخطاء وعيوب مثلما حصل في قضية الاسترقاق ..
يقول أحمد امين في فجر الإسلام :
” لسنا نعتقد تقديس العرب , ولن نعبأ بمثل هذا القول الذي يمجدهم ويصفهم بكل كمال وينزههم عن كل نقص ، وإنما نعتقد أن العرب شعب له ميزاته وفيه عيوبه وهو خاضع لكل نقد علمي في عقليته ونفسيته وآدابه وتاريخه ككل أمة“.
أما من كان صاحب دعوة قومية عربية من منطلق عنصري ويريد أن يلغي إخوته من الأفارقة بحجة عروبة البلد والتمسك باللغة العربية فتلك الدعوة تخصه ولا تمثل الشعب الموريتاني الحريص على تماسك أبنائه ووحدة بلده مع الاعتزاز بتعدد ثقافاته…
فحل قضية الحراطين ومشكل الهوية وغير ذلك من المشاكل يحتاج إلى جهد مشترك وتحرك جماعي لكل أعراق البلد لاتخاذ جملة خطوات لحل هذه القضايا…
خطوات إلى الأمام
يعيش البلد آثار قضية الاسترقاق وغيرها من القضايا التي إن لم تعالج بحكمة ونضج يوشك البلد أن يدفع ثمنها غاليا من وحدته وتآلف وانسجام أبنائه..
لذلك فمن الضروري والملح اتخاذ جملة خطوات لحل المشكلة :
فتح حوار شامل يشترك فيه الجميع من علماء ومفكرين وناشطين في المجتمع المدني وإعلاميين وجهات رسمية لمعالجة هذه المشكلة وتصفية آثارها , ويجب أن يكون الحوار مفتوحا ومتعدد الأوجه على شكل ورش عمل وندوات مستمرة ومناقشات مفتوحة عبر مختلف وسائل الإعلام بقصد الوصول إلى حل وليس بهدف المحاججة والمجادلة..
– منح المهمشين من فئة الحراطين الفرص المناسبة بالتمكين والقسمة وذلك ليتمكنوا من تأمين احتياجاتهم بمراحلها الثلاث كما حددها الإمام الغزالي : سد الرمق (الاستهلاك عند خط الفقر ) ومستوى الكفاية ومستوى حاجات النعيم أو ما عبر عنه الشاطبي بالضروريات والحاجيات والتحسينات أو ما يعبر عنه اليوم بتوفير سبل الحياة الكريمة…
أن ينظم العلماء والدعاة ورجال السياسة والأحزاب وأهل الصحافة والإعلام زيارات ميدانية في جميع أنحاء البلد للاطلاع مباشرة على أحوال الحراطين والتثبت من حالات الاسترقاق ،إن وجدت، وتقديم من يمارسها للعدالة..
التأسيس لحملة توعية ضد الاسترقاق في جميع أنحاء البلاد ومعالجة الآثار النفسية لهذه الظاهرة وتوعية الأجيال الناشئة بحجم المشكلة وأضرارها لتهيئة بيئة ملائمة لتعايش مستقبلي سليم بين جميع أبناء الوطن..
فإذا نجح المجتمع الموريتاني الرسمي والشعبي في هذه الخطوات فلا مشكلة بعد ذلك في أن يتولى أي فريق السلطة متى ما اتفق على أمور هامة تتعلق بما يمكن أن يتفق عليه كثوابت وطنية تشمل عناصرها الاعتراف بتعدد الثقافات وأن اللغة العربية هي لغة كل سكان البلاد تاريخيا ودينيا وكذلك اللغات الوطنية الأخرى التي يجب أن تعطى العناية اللازمة لتطويرها وتداولها بين جميع السكان وأن الدولة مبنية على القانون والنظام ، وأهم من ذلك كله أن الدين الإسلامي هو الرابط الذي يجمع الجميع وأن يكون المقياس الأساسي لتولي السلطة هو الأمانة والكفاءة والاستقامة والانتماء للوطن كبلد واحد وليس الانتماء للشريحة أو العرق …
إذا توفرت هذه الظروف فليكن بعد ذلك الرئيس وكبار المسؤولين من المجتمع العربي بمكونيه الحراطين والبيظان أو من الولوف أو التكارير أو السنوكي ولا تكون المسالة محاصصة جبرية وإن كان إشراك الجميع وتوزيع الثروة والسلطة أمورا مطلوبة دون ترسيخ لفكرة تؤدي إلى تهديد هوية ووحدة البلد.
لا نريد أن تكون المسالة مسألة أقلية وأكثرية بل أن يكون هم الجميع بناء موريتانيا موحدة في ظل تعدد الثقافات وأن ينظر إلى هذا التنوع على أنه مصدر إثراء وليس سببا للتوتر والشقاق والمشاكل..
فنحن بحاجة إلى أن نبنى بلدنا للجميع ونؤمن لأجيالنا القادمة مجتمعا متماسكا متجانسا ، وكلما بذلنا جهدا في احتواء الهزات والمشاكل تمكنا من استئصال جذور الفتن والشروخ الاجتماعية. فدرهم وقاية خير من قنطار علاج ومنع أسباب الحرائق أولى من إشعالها ثم السعي لإطفائها…
قد يشعل البيظان أو الحراطين الفتنة بكلمة أو تصرف طائش لكن ليس بإمكان أي منهم إخمادها بسهولة.
لن يتمكن طرف من إلغاء طرف آخر, لكن بإمكاننا مجتمعين أن نحوي بعضنا بعضا في سبيل خدمة بلدنا والحفاظ على وحدته والتآخي بين أبنائه ..
لماذا لا نأخذ عبرة من التاريخ وتجارب البلدان الأخرى .. لا نريد تجربة المماليك الذين تمردوا واستولوا على السلطة في مصر فجلبوا الناس من آسيا وإفريقيا واسترقوهم وكأن المسالة مسالة انتقام وليست مسألة إصلاح الاختلال الاجتماعي .. ولا نريد ايضا استمرار تلك العقليات البائدة الظالمة التي قد يتمسك بها بعض العرب مجادلين بصحة استرقاق من استرق من إخوتنا الحراطين..
فموريتانيا بحاجة إلى من يبنيها لا من يهدمها والهدم يكون بالفعل والترك.. فالفعل إحداث أي تصرف من شانه إثارة الفتن والترك هو ترك أي عمل يسمح بتفادي الفتنة .
نحن بحاجة إلى حوار هادف ومسؤول وناضج لا إلى سجال متوتر دون هدف..
قال تعالى : (لا خير في كثير من نجواهم إلا من أمر بصدقة أو معروف أو إصلاح بين الناس).
وقال صلى الله عليه وسلم : ( من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيرا أو ليصمت..).
فلنقدم النجدة للأرقاء السابقين لأن ذلك هو سبيل نجدة موريتانيا، كل موريتانيا .. ولن يتم ذلك إلا بوجود دولة عدل وقانون ، فقد جاء في الحديث : ” يوم من إمام عادل أفضل من عبادة ستين سنة..”…
هذا والله ولي التوفيق