عند بوابة قصر العدالة بنواكشوط يقف شرطي، لوح لنا بيده قائلاً: « السيارات مركونة هناك، ولكن المسؤول عن المزاد موجود في مكتبه داخل القصر »، وجدنا المسؤول كاتب ضبط لا يبدو أنه مختص في التجارة ولا مهتم بقيمة السيارات المعروضة.
كان يجلس وحيداً في مكتبه، استقبلنا بحفاوة لا تخلو من جفاء، قبل أن يحدثنا عن التفاصيل التي كان يقرؤها من وثيقة بحوزته، تتضمن أنواع السيارات وأسعارها، من دون أن يعرف أن الجالس أمامه ليس مشترياً وإنما صحفياً جاء ليكتب عن تفاصيل العملية.
سيارات من مختلف الأنواع والأحجام، تُعرض في مزاد علني تنظمه محكمة نواكشوط الغربية، ولكنه مزاد مختلف عن المزادات المعهودة، فالسيارات المعروضة تمت مصادرتها في قضايا تهريب مخدرات، بموجب قانون أثار الكثير من الجدل في موريتانيا.
المزاد بدأ يوم الاثنين الماضي (12 فبراير الجاري)، وتعرض فيه سيارات يعود معظمها لمالكي وكالات النقل البري الذين يصفون أنفسهم بـ « المتضرر الأول » من قانون إنشاء صندوق لدعم مكافحة المخدرات يمول بما تمت مصادرته من مسرح الجريمة.
« أفلست شركتي »
« بسبب شابين يحملان القليل من الماريجوانا (الحشيش) دفعتُ الثمن غاليا، وليس لي ذنب غير أن الباص الذي أملكه حملهما من ملتقى طرق ألاك »، تلك هي العبارات التي لخص بها بوه ولد الفيل قصته مع القانون المثير للجدل.
يضيف « بوه » إن القانون تسبب في إفلاس شركته المختصة في النقل الحضري، بعد أشهر قليلة من افتتاحها، وذلك حين تمت مصادرة حافلتين تابعتين للشركة الوليدة.
يقول « بوه » إن الأبرياء هم من يدفعون الثمن، وليس مهربو المخدرات ولا تجارها، ويضيف: « كيف يعقل أن يحتجز القضاء باصين اشتريتهما بمبلغ 22 مليون أوقية، من دون أن أكون قد ارتكبت أي ذنب، بينما لم يمض من حمل المخدرات داخلهما في السجن أكثر من أسبوع! ».
يستعيد « بوه » تفاصيل القصة بالحديث عن شابين ركبا إحدى الحافلات التابعة لشركته عند ملتقى طرق « ألاك » متوجهين إلى العاصمة نواكشوط، قبل أن يتم ضبط ما يقارب 3 كيلوغرامات من الحشيش المعروف محليا باسم (يامبا) بحوزتهما، تم اعتقالهما ومصادرة الحافلة، يضيف « بوه » أن الشابين كانا يخفيان الحشيش تحت ملابسهما، ويضيف: « وحدها السلطات المختصة في البحث عن الممنوعات كانت تمتلك أدوات الكشف عن مثل هذا النوع من الحالات ».
تفاجأ « بوه » كغيره من ملاك سيارات النقل الحضري، أنه قد تم احتجاز الحافلة ودفع ثمن جرم الشابين الذين يحملان المخدرات، فيما تم إطلاق سراحهما بعد أسبوع بحرية مؤقتة، أما هو فلم يستطع حتى الآن الحصول على الحافلة.
بعد أشهر تمت مصادرة حافلته الثانية على الطريق الرابط بين العاصمة نواشكوط ومدينة روصو، جنوب غربي البلاد، عندما ضبط بحوزة أحد الركاب كمية من الحشيش قدرت قيمتها بمبلغ 400 ألف أوقية، بعدها أصيبت الشركة بالشلل التام، وتحول الشاب الثلاثيني إلى عاطل عن العمل، حسب روايته.
قانون « مجحف »
اليوم ينظر « بوه ولد الفيل » وكثيرون تعرضو لنفس المشكل، إلى عملية المصادرة بأنها اغتصاب لأموالهم من طرف أعلى جهة في البلاد، ويرفض بوه أن يشارك في عملية البيع بالمزاد العلني قائلا: « لن أشتري باصاتي مرتي، إني أعتبرها خسارة وأعوضها بقول إنا لله وإنا إليه راجعون ».
لم يخف هذا الشاب مدى صعوبة أن يكون ضحية لجريمة لم يرتكبها، وأكثر من ذلك يقول: « من الصعب أن تشاهد ممتلكاتك تباع بالمزاد العلني »، قبل أن يضيف أن « من يشتريها قد حاز ممتلكات مغتصبة ولا يجوز بيعها »، على حد وصفه.
في غضون ذلك يرى المحامي أحمد فال ولد أمبارك أن قانون إنشاء صندوق لدعم مكافحة المخدرات كان « مجحفا وظالما » في حق ملاك السيارات وباصات النقل البري، خاصة وأنه « منافٍ لمبدأ شخصية العقوبة »، أي أن إنزال العقوبة يتعرض له الشخص الذي قام بالجريمة فقط، ولا يتعداه إلى أبرياء، ويضيف المحامي: « هذا المبدأ مقدس في جميع أنحاء العالم ».
وبحسب ما يؤكده المحامي فإن القانون الجديد لم يحترم هذا المبدأ، لأنه يصادر سيارة يملكها مواطن ثبت أنه لا تربطه صلة بالجريمة، سوى أنه يملك الوسيلة التي حدثت فيها الجريمة دون علم منه أو مشاركة، وأوضح المحامي أن هذا القانون تجاوز الحدود من أجل الردع، وبالغ فيه حتى راح ضحيته أبرياء لا علاقة لهم بمسرح الجريمة.
وبالتالي يرى ولد أمبارك ضرورة مراجعة هذا القانون لتركيز العقوبة على من ارتكب الجريمة فقط دون أن يتعدى إلى المساس بأبرياء، وفق تعبيره.
إلا أن المحامي لم يخف -في المقابل- وجود بعض الجوانب الإيجابية لهذا القانون، من ناحية إنزال العقوبة بمرتكبي الجريمة، كما أنه يحفز على الحيطة والحذر من طرف مالك السيارة، ورغم ذلك يرى أنه يبقى « مجحفاً » بمالكي السيارات الذين لا علاقة لهم بالجريمة في كثير من الأحيان.
إكراهات الناقلين
يواجه معظم الناقلين البريين عدة إكراهات بعد صدور قانون تمويل صندوق دعم مكافحة المخدرات عام 2016، ومن أبرز هذه الصعوبات حسب محمد ولد سليمان، وهو رئيس الناقلين بالشمال، هي تحميل السلطات الناقلين مسؤولية ما يحمله الركاب مع أنهم ليست لديهم السلطة لتفتيشهم أو سؤالهم عما يحملون.
ويقول ولد سليمان: « لقد تفاجأنا من الإعلان عن مزاد علني تعرض فيه العديد من سيارات الناقلي، صودرت دون جرم، فيما أطلق سراح كل من كانت بحوزتهم المخدرات »، مشيراً إلى أن « ممتلكات الناقلين تمت مصادرتها دون وجه حق »، على حد تعبيره.
يشير محمد ولد سليمان إلى أن السلطات أقرت تعديلات لتخفيف إجحاف القانون في حق الناقلين، ولكن هذه التعديلات لم تُطبّق، وقال: « نحن نطالب بتطبيق هذه التعديلات، لأن القانون مازال يطبق بصيغته الأولى المجحفة ».
ويضيف ولد سليمان أن التعديلات الجديدة تشير إلى أن في حين ثبوت عدم مشاركة صاحب السيارة في الجريمة، فإن السيارة لا يتم احتجازها.
« حرب » و « تمويل »
السلطات الموريتانية من جانبها ترى أنها في حالة « حرب » ضد شبكات تهريب المخدرات، وهي حرب مفتوحة تستخدم فيها جميع الأسلحة الأمنية والقضائية.
وتعتقد السلطات ايضاً أن إنشاء صندوق لدعم مكافحة المخدرات سيساهم في تعزيز قدرات المصالح المعنية بمكافحة المخدرات وذلك عبر تزويدها بموارد مالية خاصة بها.
يقوم هذا الصندوق بجمع منتوج بيع الأموال المصادرة بتهمة جرائم مخالفة للتشريع المتعلق بالمؤثرات العقلية، وأعلن هذا الصندوق عن أول بيع بالمزاد العلني يوم الاثني الماضي.