محمد فال ولد القاضي
مع الإطاحة بالرئيس الموريتاني المختار ولد داداه (أبي الأمة رحمه الله) سنة 1978, وخروج موريتانيا من حرب الصحراء الذي توج فيما بعد باتفاق 5غشت 1979, شهدت البلاد موجات هجرة للشباب الموريتاني باتجاه مخيمات البوليساريو لو قدر لها أن استمرت بنفس الوتيرة لكانت موريتانيا أفرغت من شبابها في فترة قياسية, وكانت طريق الهجرة تلك تعكس تصميم أولئك الشباب على الوصول إلى هدفهم – مهما كانت مشقة ووعرة الطريق – وهو الالتحاق بإخوانهم الصحراويين والعمل معهم جنبا إلى جنب دون أن يكون لديهم علم بالثمن الذي سيدفعونه فيما بعد.
كانت تلك الطريق تبدأ من انواكشوط و تنتهي في المخيمات مرورا بالسينغال ، غامبيا ، غينيا بيساو ، غينيا ، مالي ، والعاصمة الجزائرية ، لذلك استحقت بجدارة أن نسميها ” طريق الخبز ” ليس لأن من سلكوها كانوا يبحثون عن الخبز ، إنما لأنهم حددوا هدفهم وعزموا أن يصلوا إليه من أي طريق مهما كان اعوجاجها ، ففي يوم 10 أبريل 1979 جمعت ومجموعة من الأصدقاء أمتعتنا التي لم تكن سوى مجموعة من الأوراق بعضها لإثبات الهوية الموريتانية والبعض شهادات مدرسية كانت كلها ( ربما من باب الصدفة ) تثبت تفوق المجموعة في دراستها ، و توجهنا إلى المحطة الطرقية بانواكشوط ، منها استأجرنا سيارة إلى دكار حيث كان من المفترض أن نجد الشخص الذي سيصبح في ما بعد من أكبر جلادينا في انتظارنا ليصحبنا إلى غينيا بيساو و منها إلى الجزائر ، ولأننا تأخرنا عن الموعد قليلا خاف على نفسه وعاد هاربا .
بعد أربعة أيام استصدرنا وثائق سفر من سفارة غينيا بيساو في دكار ، ومن عاصمة هذه الأخيرة استقلينا الطائرة إلى الجزائر مرورا بغينيا ومالي ، و من العاصمة الجزائرية اصطحبنا أحد عملاء الأمن في جبهة البوليساريو إلى المخيمات ، وبالرغم من أن هذه المخيمات لا تبعد عن مطار تندوف سوى 25 كلم قطعناها في سيارة تويوتا خلال أكثر من خمس ساعات ، وكانت تلك رسالة لم نفهمها إلا بعد مرور سنين طويلة . ولمدة أسبوع ظل المحققون يتعاقبون علينا وفي كل يوم يمطرون بوابل من الأسئلة لم نستطع يومها معرفة المغزى منها ولم نكن نكترث لها لأنها لم تكن تعني لنا شيئا سوى أنها عمل روتيني مع كل القادمين الجدد ، وكان كل همنا أن نخرج من ذلك المكان البائس الذي وضعونا فيه ونختلط بالناس لنشاركهم همومهم التي كانت بالنسبة لنا هي كل شيء .
وللأمانة أقول إنه وبعد أن دخلنا المخيمات والتقينا بالناس البسطاء لم نشعر بأننا غرباء بينهم بل أحسسنا بأنهم أكثر من أهل لنا ، لذلك لم ولن نستطع بالرغم مما قدمناه من خدمات أن نفي الصحراويين والصحراويات النظيفين حقهم لقاء المعاملة الطيبة التي كانوا يعاملوننا بها ، غير أنه وللأسف الشديد كان هناك وجه آخر قبيح لتلك الصورة ، فقد ابتلي الصحراويون بوحوش آدمية نهشت لحمنا باسمهم ، وبعد ثلاث سنوات قضيناها في العمل الجاد في كل المجالات وجدنا أنفسنا بين عشية وضحاها ضحية لمؤامرة دنيئة من نسج خيال هؤلاء الوحوش ليصورونا أعداء لمن سلكنا ” طريق الخبز ” لنصرتهم فزج بنا في مسالخ بشرية حاشى للسجون أن تشبه بها وقضى العشرات منا نحبهم داخلها وخرج الباقي جيشا من المعاقين والمشوهة أجسادهم والمدمرة أنفسهم وقد آليت على نفسي أن أدون تلك المعاناة قدر ما تجود به ذاكرتي وأعرف أنني لن أستطيع أن أصور وحشية الفظاعات التي تعرض لها الموريتانيون في سجون البوليساريو ، وإشفاقا مني على القارئ وعلى ذاكرتي المدمرة ارتأيت أن أدونها على شكل مذكرات .
وإذا كنا نؤمن أن أعظم ليلتين على الإنسان هما ليلته الأولى في القبر وليلة صبيحتها يوم القيامة ، فإن هناك ليلة عظيمة على المظلومين ألا وهي الليلة الأولى في سجن مثل سجون البوليساريو ، ذلك هو عنوان المذكرة الثانية ” الليلة الأولى في السجن ” .