فارق الفتى البالغ من العمر 15 عاماً، الحياة لأن أسلاكاً كهربائية لا تخضع لمعايير السلامة تجوب شوارع حيه ليلبسها الماء خطر الموت بالصعق؛ هكذا مع كل خريف يردد السكان قصص الموت التي تخلفها الكهرباء بكثير من التسليم وكأن قدرهم أن يتعايشوا مع قاتل يتربص بهم يوميا.
لا يختلف المشهد كثيراً في حي “آنتين” بنفس المقاطعة، حيث تشرق شمس كل يوم على أطفال الحي وهم يلعبون في شوارع تغزوها أسلاك الكهرباء المتشابكة، وغير المغلفة في أغلبها، فأصبح مشهد التوصيلات التي تنعدم فيها أبسط نظم السلامة مألوفا للأهالي.
سكان مثل هذه الأحياء يرون في هذه الأسلاك مصدراً وحيداً للطاقة؛ حيث تقع أحياءهم خارج نطاق تغطية الشركة الوطنية للكهرباء، ما يحرمهم من الكهرباء ما لم يسلكوا إليها طرقاً ملتوية قد لا تتوفر فيها معايير السلامة.
لا يخلو حي من أحياء الصفيح في العاصمة من بيت صغير يبدو للوهلة الأولى وكأنه كنيف أو مخزن صغير لحفظ الأغراض غير المستعملة، إلا أن سكان العشوائيات يدركون السر الذي يخفيه عن السلطات، وما يقدمه من خدمة لهم، فقد ألفوا اللجوء إليه لكثرة ما احتاجوا إلى خدماته.
البيت الصغير الذي يسميه السكان في اصطلاحاتهم بـ”النيش”، هو الموزع الذي تتُفرع منه الأسلاك لتزود العشوائيات بالكهرباء، وتعتبره الشركة الموريتانية للكهرباء مجرد زبون عادي وتتغاضى عن عمله المحفوف بالمخاطر.
يسرد أحمد ولد سالم، أحد سكان حي “آنتين”، تجربته مع أكبر موزع للكهرباء في الحي، فيقول: “نحصل على الكهرباء في هذا الحي مقابل دفع 4000 أوقية شهرياً لـشخص وسيط نسميه (صاحب كوراه)، هو من يملك الموزع وعادة يكون أحد عمال شركة (صوملك)”.
وبحسب ولد سالم وبعض السكان الآخرين فإن شركة (صوملك) تتعامل مع (صاحب كوراه) على أنه زبون عادي يستلم شهرياً فاتورة استهلاكه من الكهرباء، ولكنها في نفس الوقت تُغفل توزيعه للكهرباء في الحي على شكل نشاط تجاري وعدم التزامه بمعايير السلامة.
وعلى الرغم من أن “النيش” الذي يملكه (صاحب كوراه) يساهم في توفير الكهرباء، إلا أن هنالك نواقص كبيرة، حيث يقول ولد سالم: “نحن نعاني دائما من انقطاع الكهرباء يومياً بين الساعة التاسعة صباحا إلى غاية الرابعة ظهراً وأحيانا بين العاشرة ليلاً إلى صباح اليوم الموالي؛ كما نعاني من (ضعف كوراه) الذي لا يمكنه في أغلب الأحيان أن يشغل أكثر من مصباح واحد”.
لا ينسى ولد سالم الخطر الذي تحمله طريقة الحصول على الكهرباء، له ولأطفاله وجميع أطفال الحي، وفي هذا السياق يقول: “نعاني من هذه الأسلاك المكشوفة المنتشرة في الشوارع التي تصيب أحيانا أطفالنا، ونطالب الدولة بان تمد أعمدة الكهرباء إلى حيّنا لنستفيد من الكهرباء التي قالوا إن موريتانيا أصبحت تصدرها للخارج”.
على مكتب المستشار المكلف بالإعلام والعلاقات الخارجية في الشركة الموريتانية للكهرباء، تُوضع عشرات المطبوعات التي تعرف بالشركة وتشرح التزامها بمعايير السلامة، من بين هذه المطبوعات واحدة تشرح نطاق تغطية الشركة في مقاطعات العاصمة نواكشوط، وموريتانيا بشكل عام.
يشرح دحان ولد الطالب عثمان، المستشار المكلف بالإعلام والعلاقات الخارجية، أسباب انتشار موزعي التوصيلات الغير آمنة، ويرجعها إلى “ضعف نسبة تغطية الشبكة الكهربائية لتلبية الطلب المتزايد على الخدمة، ويشير ولد الطالب عثمان إلى أن “إشكالية محاربة الخسائر غير التقنية تحديا كبيراً للشركة، حيث تتنوع حيل المحتالين للنفاذ للكهرباء كل يوم مع تطور أدوات وتقنيات الغش”، وفق تعبيره.
ويعتقد ولد الطالب عثمان أنه من أجل القضاء على المحتالين عن طريق موزعي التوصيلات الغير آمنة لن يتم إلا من خلال توسيع نطاق التغطية بالإضافة إلى التخطيط العمراني السليم؛ ويضرب المثال على ذلك بمقاطعة السبخة التي اختفى فيها الموزعون منذ أن تمت توسعة الشبكة لتغطيتها.
وبخصوص العلاقة التي تربط الشركة بموزعي الكهرباء في الأحياء العشوائية، نفى ولد الطالب عثمان أن تكون الشركة تتعامل مع هؤلاء الموزعين، وقال: “رسميا لا نتعامل مع موزعٍ أيا كان، فتوزيع الخدمة مقتصر على الشركة، أما (النيش) فهو زبون حصل الخدمة في الظروف العادية التي تضع الشركة وبعد ذلك يقوم بتوزيعها تحت ضغط المواطنين الذين لم يستطيعوا النفاذ إلى الكهرباء”.
إحدى المطبوعات التي توزعها الشركة تتحدث عن غياب تشريع “كافٍ” لمحاربة الغش، وهو ما يؤدي لزيادة عمليات التحايل من أجل الحصول على الكهرباء وما يرافق ذلك من مخاطر على سلامة المواطنين؛ كما تشير المطبوعة إلى أن تزايد الفنيين الخصوصيين بدون وظيفة يسهل انخراط الشباب في صفوف المحتالين.
وفي الوقت الذي يواجه أغلب الفنيين العاملين في الشركة تهماً بالتورط في تزويد المواطنين بالكهرباء “القاتلة”؛ تؤكد الشركة أنها تعاقب من ثبتت عليه هذه التهمة بالفصل المباشر، ويقول المتحدث باسم الشركة: “سبق وأن فصلنا عمالا تورطوا في ممارسات أقل ضرراً، فما بالك بمن يبيع الكهرباء للمواطنين، ويعرض حياتهم للخطر”.
وعلى الرغم من أن الشركة الموريتانية للكهرباء وسّعت شبكتها خلال السنوات الثلاثة الأخيرة لتصل إلى 400 كلم في جميع أنحاء العاصمة نواكشوط، إلا أن آلاف الأسر مازالت تحصل على حاجياتها من الطاقة بطرق تفتقد لأبسط شروط السلامة.
وتشكل الأسلاك الكهربائية المنتشرة في أغلب شوارع نواكشوط، عامل خطر على حياة المواطنين، يتزايد في فصل الخريف، حيث يلتقي ثنائي الموت السريع: الماء والكهرباء.
يبقى منظر الأسلاك المتناثرة في الأحياء العشوائية مثالاً يترك انطباعا مفاده أن حياة مواطني هذه الأحياء مهددة بكل أنواع المخاطر، حيث يرتبط الحصول على خدمة أساسية في أذهان الكثيرين بالمجازفة بحياتهم، وفى انتظار أن تصل إليهم الشبكة يعيش السكان من زبائن “النيش” خوفا دائما من تماس كهربائي قد يحول يومهم إلى مأتم