صبحتني الأخبار اليوم بنبأ الوفاة المفاجئة لأستاذي محمد ولد أحمدو بمب عميد كلية العلوم القانونية والاقتصادية بجامعة نواكشوط، رحمه الله تعالى، ولطف بنا إذا ما صرنا إلى ما صار إليه.
تنبهت من فجأة النبأ وصدمته الأولى، لأفزع إلى الصبر، وأنا أستحضر آخر برنامج تلفزيوني شاهدته، وكان ” الجابت الشبكة” للأديب الظريف بدرباله ولد البخاري على قناة “المرابطون”، في حلقة عن أدب الرثاء، عرض فيه بخفة إلى ما سماها مواد يصحح على أساسها للراحلين، وتقصي، وأول من تحدث عن مواد تصحيحه الأستاذ، فكان أول خبر وفاة اسمعه بعد البرنامج نبأ وفاة أستاذي.
خرج بي الذهن من المصادفة، والمشاغل تتعاوره، في ضحوة من ضحوات وسط أسبوع عمل في النيابة العامة بنواكشوط إلى ما أعرفه عن الفقيد، وكان الأديب بدرباله فيما أتت به شبكته أورد أنه من شروط الرثاء معرفة الميت، فلقيتني أعرف الأستاذ العميد محمد ولد أحمدو بمب بعض معرفة أراه نصابا يحقق معيار بدرباله.
ويبدو لي أن علينا معاشر مشاريع الموتى أن نعد مع الوصية، على رأس كل ليلتين “شكلية” تأبين لنضمنها محامد عزيز قد يسبقنا، إنه يوشك ـ في هذا الآن الآخر من الزمان ـ أن يأخذ فينا الموتان كقعاص الغنم.
لم تتهيأ للأستاذ العميد محمد ولد أحمدو بمب ظروف الدراسة العادية، فبدأ حياته تاجرا، وصل في ذلك الطريق أن كان له محل تجاري في إحدى دول الجوار الإفريقي، بشراكة قريب له.
في إحدى ليالي ذلك الطور، بعد أن آوى إلى فراش نومه مع شريكه، في غرفة ملاصقة لمحلهما التجاري، حدث ابن عمه وشريكه بأن حياتهما في البيع بالتقسيط ليست بحياة، ولا ينبغي أن يفوت العمر فيها، وأن عليهما أن يغيرا ” هذه الحالة”.
وكأني به يتمثل قول الموسوعة المختار ولد حامد رحمة الله عليه، من الوافر، في المقامة العبيدية:
فإني سوف أنشد عند بيعي <<>> أضاعوني وأي فتى مضاعي
الناحي به نحو قول العرجي أبي عمر عبد الله بن عمر بن عمرو ابن أمير المؤمنين عثمان ابن عفان رضي الله عنه:
أضاعوني وأي فتى أضاعو <<>> ليوم كريهة وسداد ثغر
روى لي الشريك السابق في التجارة للفقيد، بعد ذلك بعقود، سنة 1999 في منزل أهل أمحمد ولد أعل ولد أمحمد في بتلميت، أنه لما خاطبه بذلك رد عليه بتهكم، يظنه أصابه شيء في عقله ” فالبتيك رابح والتجارة عاطيه”، لكن في الصباح كان محمد قد عزم على ترك التجارة والسير في طريق يلتمس فيه علما…
بعد محاولات شريكة الفاشلة في اقناعه، تمت تصفية نصيبه من المحل، وأنهى أمورا اجتماعية أخرى، وغادر.
سلك طريقا يطلب فيه العلم مر به على ليبيا، ثم العراق، الذي أقام فيه للدراسة زمنا مستفيدا من وضع خاص يمنح للشباب العربي هناك، وواصل رغم السن والغربة والإكراهات الأخرى إلى أن حصل على شهادة عليا.
رجع إلى بلاده دكتورا في القانون، وانضم إلى سلك التدريس بجامعة نواكشوط، فأفنى وقته وجهده في تكوين أجيال من طلاب القانون فيها، هم اليوم في كل مفصل من مفاصل الدولة، مدينون له بما أكسبهم من علم، وشهداء على خلقه الطيب، وحلمه وسماحته.
أعرف في الفقيد كثيرا من الخصال المحمودة، ومن أجلها ما لديه من رغبة دائمة في مساعدة الآخرين، وتلبية كل ما يطلب منه، وإن أعياه، أو كان لا يستطيعه فلن يغادره المراجع إلا وهو راض.
كان يقابل شغبنا ونحن طلاب بهدوء وتبسم دائم، ولم يكن متشددا متنطعا، ولا متساهلا متميعا، كان وسطا، يحب أن يرضي الجميع.
بعد الدراسة صرت ألقاه، بعد أن نضم إلى المحاماة، فكان يأتي متابعا بعض القضايا التي يتعهد فيها، ولم يحاول يوما أن يستخدم علاقته السابقة كأستاذ، كان مهنيا متواضعا، يدبر الإجراءات بعلمية.
في مصادفة أخرى، كان آخر لقاء لي بالفقيد قبل أسابيع في ندوة تأبين للفقيد الآخر القاضي محفوظ ولد لمرابط، ولن أنسى ما حييت طلاقة وجهه، وكمال خلقه.
مضى الفقيد محمد ولد أحمد بمب في طريق التماس العلم منذ أن نفض يديه من التجارة، إلى أن لقي الله، من الدراسة إلى البحث والتدريس، وقد أخرج مسلم في صحيحه من حديث أبي هريرة رضي الله عنه <<… والله في عون العبد ما كان العبد في عون أخيه، ومن سلك طريقا يلتمس فيه علما سهل الله به طريقا إلى الجنة…>>، وفي حديث آخر << أكمل المؤمنين إيمانا أحسنهم خلقا >>/ أخرجه الإمام أحمد وابن حبان، وابن أبي شيبة.
رحم الله الأستاذ محمد ولد أحمدو بمب، وأثبت له أجر طلب العلم، وتعليمه، وأنزله منزل أحسن الناس خلقا.
اللهم إنه عبدك، ابن عبدك، ابن أمتك، كان يشهد أن لا إله إلا أنت، وأن محمدا عبدك ورسولك، وأنت أعلم به، اللهم إن كان محسنا فزد في إحسانه، وإن كان مسيئا فتجاوز عنه، للهم لا تحرمنا أجره، ولا تفتنا بعده، واغفر لنا وله.
القاضي أحمد عبد الله المصطفى
11/06/2013.