أفاد مصدر قريب من المفاوضات بين الحكومة الموريتانية وشركة كينروس الكندية، أن الاتفاق الذي وقعه الطرفان أول أمس الاثنين، هو مجرد وثيقة للجوانب التجارية من الاتفاق النهائي الذي ما يزال قيد الصياغة ومن المنتظر أن يوقع في غضون ثلاثة أشهر.
ولكن المصدر الذي فضل حجب هويته، قال إن الطرفين اتفقا على أن النظام الجديد المتعلق بالحصة الموريتانية من عائدات الذهب سيبدأ تطبيقه ابتداء من فاتح يوليو 2020، أي بعد أسبوعين من التوقيع على الاتفاق الأولي.
وقال المصدر إنه «ابتداء من فاتح يوليو المقبل، فإن حصة موريتانيا من عائدات الذهب ستتغير، لتصبح مرتبطة بالسعر في السوق العالمي، وبحسب الظروف الحالية، فإن النسبة ستتضاعف من 3 في المائة لتصل إلى 6 في المائة».
ويعود توقيع أول اتفاق لاستغلال منجم تازيازت بين الحكومة الموريتانية وشركة تازيازت موريتانيا المحدودة إلى 17 يونيو 2006، وتأتي مراجعة هذه الاتفاقية بعد 14 عاماً.
مكاسب موريتانيا
المصدر القريب من المفاوضات قال إن مكاسب موريتانيا تمثلت في مراجعة الاتفاقية وربط نسبتها من العائدات بأسعار الذهب في السوق العالمي، بالإضافة إلى حصولها على عضوية مجلس الإدارة لتكون قريبة من صنع القرار في الشركة.
ولكن الأهم، يقول المصدر، هو أن كينروس بموجب الاتفاق الأخير، أعلنت أنها «ستدفع مبلغ 25 مليون دولار أمريكي، للدولة كعربون حسن نية»، كما وافقت على الانخراط في «تمويل مؤسسات عمومية مختصة في مجال البحث الجيولوجي» من خلال مبلغ سنوي قدره 500 مليون أوقية قديمة.
وبخصوص المحتوى المحلي، التزمت شركة «كينروس» بأنها ستجري «دراسة حول المحتوى المحلي المتعلق بعملياتها في موريتانيا، وذلك بالتعاون مع المؤسسة المالية الدولية (SFI)»، كما التزمت بالعمل على «زيادة وتسريع وتيرة استثماراتها في مجال التنقيب على مستوى منجمين آخرين، وستبدأ في تطوير واحد منهما في المدة المحددة»، والمنجمان هما: تازيازت الجنوبي أو «منجم تامايا» (داخلت نواذيبو وإنشيري) واندواس (إنشيري).
مكاسب كينروس
إن أكبر مكسب حققته الشركة الكندية هو منحها رخصة استغلال لمنجم تازيازت الجنوبي لمدة ثلاثين عاماً، وهو الذي تراهن عليه الشركة لتوسيع أشغالها في موريتانيا، مع زيادة حجم الاستثمارات وإطلاق مشاريع «على المدى البعيد».
كما حصلت الشركة على مكاسب أخرى من ضمنها موافقة السلطات على تسديد حقوقها في إعفاء الوقود من الضرائب، وإعفاءات أخرى تتعلق بضريبة القيمة المضافة لم تسدد للشركة منذ أكثر من ثلاث سنوات، بسبب ما قيل إنها خلافات مع الرئيس السابق محمد ولد عبد العزيز.
ويقول الخبير الذي تابع عن قرب المفاوضات، معلقاً على الاتفاق: «باختصار ما يمكن الخروج به من هذا الاتفاق هو أن الدولة الموريتانية عادت إلى احترام التزاماتها الدولية، في المقابل كينروس التزمت باستثمارات أكثر في البلد، مع تسيير معقلن للموارد الطبيعية للبلد».
غاب العمال !
نقاط كثيرة صمت عنها الاتفاق، من أبرزها ظروف العمال الموريتانيين في الشركة، خاصة وأن التوقيع على الاتفاق جاء بالتزامن مع إضراب عمالي بدأ فاتح شهر مايو الماضي وتسبب في توقف العمل في المنجم، من دون أن يفضي حتى الآن إلى نتيجة.
ويثير صمت الاتفاق عن أوضاع العمال، استغراب المناديب الذين تحدثت إليهم «صحراء ميديا»، والذين يعتقدون أنه صمت لا يظهر حسن نية تجاه العمال الذين هم العمود الفقري للمنجم.
ويقول المناديب إن العمال هم الذين نجحوا خلال العام الماضي (2019) في تحقيق أرقام قياسية حين ارتفعت مستويات الإنتاج بنسبة 56 في المائة مقارنة مع العام الذي قبله (2018)، من خلال إنتاج قياسي قدره 11 طناً من الذهب.
وكان الإضراب العمالي قد أثر على موعد التوقيع على الاتفاق، إذ كان من المفترض أن تصل بعثة من الشركة الكندية إلى نواكشوط شهر مايو الماضي على متن طائرة خاصة لتوقيع الاتفاق، ولكن أجواء الإضراب أرغمتها على إلغاء السفر.
مسار تاريخي
تستغل شركة «تازيازت موريتانيا المحدودة» منجم تازيازت للذهب في الشمال الموريتاني، بموجب اتفاق موقع مع الحكومة الموريتانية في شهر يونيو من عام 2006، وكانت آنذاك مملوكة لشركة «ريد باك» الكندية، واستحوذت شركة «كينروس» الكندية عام 2010 على المنجم، في صفقة وصلت قيمتها إلى 7 مليارات دولار أمريكي، وهي الصفقة التي وصفت آنذاك بأنها «أكبر صفقة تجارية في تاريخ موريتانيا».
إن استحواذ كينروس على شركة «تازيازت موريتانيا المحدودة» جاء في وقت يصل الإنتاج السنوي للمنجم إلى 150 ألف أونصة ذهب (حوالي 5 أطنان)، ولكن كينروس أعلنت منذ الوهلة الأولى رغبتها في توسيع المنجم ومضاعفة الإنتاج مع تقليص تكاليفه، ولكن الطريق نحو ذلك لم يكن سهلا.
بل إن الشركة واجهت منذ البداية مشاكل مع المساهمين الذين اتهموها بأنها قدمت معطيات «كاذبة» من أجل دفعهم نحو شراء المنجم، الذي تشير التقديرات آنذاك إلى أن جدوائيته «متواضعة»، ورفع المساهمون قضية أمام القضاء الأمريكي عام 2012، انتهت بتسوية دفعت بموجبها الشركة مبلغ 12,5 مليون دولار للمساهمين الكنديين، و33 مليون دولار للمساهمين الأمريكيين، مقابل طي الملف.
ولكن لم تمض سوى سنوات قليلة حتى أثبت المنجم أنه كان يستحق العناء.
سياسة التوسع
في مايو 2011، تعاقدت كينروس مع شركة «اسميدث» الدانماركية لتوسيع المنجم، في صفقة بلغت قيمتها 33 مليون دولار أمريكي، في إطار خطة الشركة لرفع سقف الإنتاج نحو مليون أونصة ذهب سنوياً، أي ما يعادل 31 طناً من الذهب (بحلول عام 2014).
ومع نهاية 2011 أعلن نائب رئيس العلاقات الخارجية بشركة تازيازت ماء العينين ولد التومي، أن كينروس تنوي استثمار أكثر من 3,5 مليار دولار في توسعة منجمها، ولكن هذا المبلغ سرعان ما تقلص عندما أجرت الشركة دراسة «أولية» للمشروع، اقترحت فكرة تشييد مصنع جديد بغلاف مالي يصل إلى 2,7 مليار دولار، يكون قادراً على معالجة 38 ألف طن من الحجارة يومياً، بدل 8 آلاف يعالجها المصنع الموجود آنذاك.
وتوقعت الدراسة بناء على ذلك أن يصل الإنتاج إلى 830 ألف أونصة ذهب (أي ما يعادل قرابة 26 طناً من الذهب سنوياً).
التراجع والأزمة !
رغم نشر دراسة جدوائية مشروع التوسعة مارس 2014، إلا أن كينروس أعلنت في فبراير 2015 التراجع عن مشروع توسعة المنجم، وبررت ذلك بـ«البيئة الحالية لسعر الذهب»، الذي هبط إلى أقل من 1150 دولاراً أمريكياً للأونصة.
ولكن الشركة عادت في نوفمبر 2015 لتعلن عن مشروع بديل للتوسعة القديمة، ولكن الحقيقية هي أن الشركة التي كانت تتطلع لتشييد مصنع يعالج 38 ألف طن من الحجارة يومياً، قلصت مستوى تطلعاتها إلى 12 ألف فقط في مرحلة أولى، على أن تكون هنالك مرحلة ثانية ستحقق الهدف (38 ألف طن يومياً).
تزامن ذلك مع مشاكل واجهتها شركة «كينروس» مع الأمريكيين الذين أرسلوا محققين إلى موريتانيا للبحث في «تهم فساد ورشوة»، وهي التهم التي وصفتها الشركة آنذاك بأنها «متهافتة»، ولكن صحيفة «لموند أفريك» الفرنسية تحدثت عن رسالة وجهتها «لجنة الأمن والمبادلات» في الولايات المتحدة تطلب فيها من الشركة تقديم توضيحات حول مبالغ مدفوعة لمسؤولين موريتانيين ومقربين من الرئيس السابق محمد ولد عبد العزيز.
وفي تعليق حول الموضوع قال ولد عبد العزيز خلال مؤتمر صحفي عقده بنواذيبو يوم 28 نوفمبر 2015 إن «الدولة أوقفت كل معاملاتها مع الشركة حتى تقدم معلومات حول متابعتها قضائيا، وتبرر ما وجه إليها من تهم بالفساد»، ولكن ولد عبد العزيز عاد لينفي التهم التي وجهت إلى الشركة بخصوص دفع رشاوى لمقربين منه، وقال إن الصحيفة الفرنسية حصلت على معلوماتها من رجل الأعمال المقيم في الخارج آنذاك محمد ولد بوعماتو، بهدف تشويه سمعته.
منذ ذلك الوقت بدأت العلاقة بين الشركة والحكومة تتوتر، فاشتعلت إضرابات عمالية عنيفة، وأجرت مفتشية الشغل تفتيشاً للشركة أعلنت في نهايته وجود عمال أجانب لا يملكون رخصة للعمل، وقد أسفرت هذه التطورات عن اتخاذ الشركة قراراً بإغلاق المنجم وتوقيف العمل فيه شهر يونيو 2016، ووصف ولد عبد العزيز آنذاك ما يحدث بأنه «أزمة قانونية» في تصريح لـ «صحراء ميديا» على هامش الاستعدادات للقمة العربية التي احتضنتها نواكشوط عام 2016.
أزمة صامتة
جرت مياه كثيرة تحت الجسر، واختفت الزوبعة الإعلامية للخلاف بين الشركة والحكومة، كما تلاشت التحقيقات الأمريكية أو خف زخمها، لتعود الشركة في شهر أكتوبر 2016 وتعلن أن المرحلة الأولى من توسعة منجمها ستكلف مبلغ 300 مليون دولار أمريكي، فيما ستكلف المرحلة الثانية (إن تمت الموافقة عليها) مبلغ 220 مليار أوقية، أي حوالي 600 مليون دولار أمريكي، وهو ما يعني أن مشروع التوسعة في مرحلتيه سيكلف قرابة مليار دولار أمريكي.
ورغم مضي الشركة في تنفيذ توسعتها للمنجم، كانت المشاكل مع إدارة الضرائب تتفاقم، وإن بقيت «أزمة صامتة» وبعيدة عن الإعلام، فظلت تتراكم إعفاءات الضريبة المضافة تتراكم دون أن تسددها الدولة، حتى تمت تسويتها في الاتفاق الأخير.
وفي نفس الظروف رفضت الحكومة تحويل رخصة التنقيب في منطقة «تازيازت الجنوبية» إلى رخصة استغلال، وهو منجم جديد يقع على بعد 15 كيلومتر من منجم تازيازت القديم، وتشير المعطيات الأولية إلى أنه «واعد»، وتراهن عليه الشركة للدفع بعملياتها في موريتانيا على المدى البعيد.
ولكن الحكومة الموريتانية في المقابل كانت تسعى للدخول في مفاوضات جديدة تنتهي بعقد اتفاقية جديدة تضمن مكاسب أكبر من تلك الموجودة في الاتفاق المتعلق باستغلال المنجم القديم الذي وقع عام 2016، أي قبل عشر سنوات مع شركة «ريد باك» الكندية.
صفحة جديدة
بعد شهر من تسلم الرئيس محمد ولد الشيخ الغزواني مقاليد الحكم، أي في شهر سبتمبر من العام الماضي، استقبل في القصر الرئاسي المدير العام الرئيس لشركة تازيازت موريتانيا المحدودة ج بول رولينسون، وناقش معه العلاقة التي تربط الشركة بالحكومة، والاستثمارات التي ستضخها كينروس في توسعة منجمها.
كان واضحاً أن هذا اللقاء فتح صفحة جديدة في العلاقة بين الشركة والحكومة، وأن أسباب الخلاف زالت، ففي شهر ديسمبر الماضي أعلنت الشركة أنها وقعت مع مؤسسة التمويل الدولية (SFI) ووكالة تنمية الصادرات الكندية (EDC) وبمشاركة من بنكي ING Bank و Société Générale، اتفاق قرض نهائي بمبلغ 300 مليون دولار أمريكي، كافية لتمويل المرحلة الأولى من توسعة منجم «تازيازت».
منذ ذلك الوقت سلكت المفاوضات بين الشركة والحكومة طريقاً آخر من أجل تسوية المشاكل العالقة منذ 2016، وذلك في ظل رغبة كينروس في تسديد مستحقاتها على الدولة (16 مليار أوقية قديمة) وتحويل رخصة التنقيب في «تازيازت الجنوبية» إلى رخصة استغلال، ولكن أيضاً رغبة الحكومة في مراجعة الاتفاقية ودفع الشركة أكثر نحو الانخراط في تطوير قطاع المعادن، وبعد أشهر من المفاوضات توصل الطرفان إلى اتفاق مبدئي هو الذي وقعا عليه الاثنين الماضي.